الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إعجاز القرآن في دراسات العلماء
نشأة مصطلح إعجاز القرآن:
لقد كانت روعة القرآن الكريم وسحر بيانه مستوليا على القلوب والأفكار، وكان يحس المؤمنون به بنشوة بالغة وهم يتمعّنون آيات الذكر الحكيم. وكان الكافرون المعاندون يحسّون في قرارة أنفسهم أن هذا الكلام ليس من كلام البشر وكانوا يحسون بحلاوة عباراته وطلاوة أسلوبه والمعاني الثرّة المغدقة في موضوعاته وأنه يعلو ولا يعلى عليه، كما قالها الوليد بن المغيرة في لحظة صدق مع نفسه عند ما طلب منه قومه أن يقول في القرآن قولا لتجتمع كلمتهم عليه ولا يظهرون الاختلاف أمام وفود العرب في الموسم. فبعد أن اعترف أنه ليس من كلام الشعراء لأنه لا ينسجم على أقرائه، وليس من كلام الكهنة لأنه لا يشبه زمزمتهم، وليس بخنق الجنون وهوسه، قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمغدق أسفله مثمر أعلاه، وإنه يعلو ولا يعلى عليه ما يقول هذا بشر. ولكنه أعلن أمام الملأ مكابرة وعنادا فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) [المدثر: 24 - 25].
لقد كان الذوق العربي السليم يساعد أصحابه على إدراك الأساليب القرآنية في مخاطباته، وكانت قدسية القرآن وعظمته مسيطرة على نفوسهم وكان الإقرار بالعجز عن الارتفاع إلى مستواه كامنا في النفوس.
وبقي هذا الأمر بعد عصر النبوة والخلفاء الراشدين وردحا من الزمن في الدولة الأموية، إلا أن صفاء السليقة العربية بدأت تفقد صفاءها وبدأت
الثقافات الفارسية واليونانية تأخذ طريقها إلى المجتمع الإسلامي على يد أبناء الأقطار التي فتحها المسلمون، وبدأ الناس يفكّرون بطريقة عقلية مجرّدة عن التذوّق الجمالي وإدراك المعاني بالسليقة الصافية.
في هذه البيئة المختلطة بالتيارات الثقافية المتباينة، برز الحديث عن وجه إعجاز القرآن، وعن سبب عجز العرب عن الإتيان بمثل سورة من القرآن. ولعل الفكرة أول ما نشأت في مجالس بعض القوم في البصرة في القرن الثاني الهجري، حيث كانت البصرة تموج بالتيارات الفكرية المختلفة من فقهاء ومحدثين ولغويين وأدباء وفلاسفة متكلمين، ودعاة إلى مذاهب خارجة عن الإسلام كالثنوية والمانوية والسّمنية والدهرية والزرادشتية وغيرها مما حملته التيارات الفكرية الوافدة من الشرق.
ولم يلتفت جمهور العلماء إلى البحث عن وجه الإعجاز والمعجزة القرآنية- بل لم يبرز مصطلح إعجاز القرآن على الساحة- إلا بعد أن نقل عن واصل بن عطاء المتوفى سنة 131 هـ شيخ المعتزلة في البصرة قول غريب وهو: أن إعجاز القرآن ليس بشيء ذاتي فيه، وإنما هو بصرف الله تفكير الناس عن معارضته، وهو القول الذي تبنّاه فيما بعد
إبراهيم بن سيّار النّظّام المتوفى سنة 231 هـ أحد شيوخ المعتزلة في البصرة، وعرف هذا القول فيما بعد (بالصرفة). عند ذلك بدأ العلماء يتعرضون في ثنايا كتبهم لوجه الإعجاز ويتحدثون عن إعجاز القرآن، ولعل أول من تولى الرد على القول بالصرفة هو الجاحظ (1) تلميذ النظام، فإلى جانب تناوله موضوع إعجاز القرآن في إشارات مقتضبة في بعض كتبه الأدبية ك «الحيوان» و «البيان والتبيين» ، فقد ألف كتابا سماه «نظم القرآن» ليتعرّف القارئ من خلال بيان المعاني الغزيرة في الآيات القرآنية ذات الكلمات القليلة على نظم القرآن الكريم وتفرّده بنمط معيّن لا يتوفّر في كلام غيره، وهذا النظم
(1) توفي الجاحظ سنة 255 هـ.
هو سرّ الإعجاز فيه. فمثلا يقول: في التعليق على قوله تعالى: في وصف خمر أهل الجنة لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ: (هاتان الكلمتان جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا)، وقوله عز وجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ:(جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني).
إلا أن كتاب الجاحظ «نظم القرآن» لم يصل إلينا وإنما بقيت الإشارة إليه من خلال كتاباته، وكتابات غيره من الأدباء.
ونهج الأدباء الذين جاءوا بعد الجاحظ نهجه في الكشف عن المعاني الدقيقة والإشارات اللطيفة في آيات القرآن الكريم، وألفوا رسائل في نظم القرآن. فمن هؤلاء الذين ألفوا على غرار الجاحظ أبو بكر عبد الله بن أبي داود السّجستاني المتوفى سنة 316 هـ حيث ألّف كتابا وسماه «نظم القرآن» .
وكذلك أبو زيد البلخي أحمد بن سليمان المتوفى سنة 322 هـ وسمى كتابه «نظم القرآن» أيضا. كذلك أبو بكر أحمد بن علي المعروف بابن الإخشيد المعتزلي المتوفى سنة 326 هـ وسمى كتابه أيضا «نظم القرآن» .
وقد تعرض العلماء إلى وجوه إعجاز القرآن من خلال كتبهم المختلفة حول الدراسات القرآنية، فنجد الإمام أبا محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري المتوفى سنة 276 هـ قد تصدى للطاعنين في القرآن بشكل عام والمنكرين لإعجازه بشكل خاص في كتابه الجليل «تأويل مشكل القرآن» ففنّد مزاعمهم. وكان يمثل إمامة أهل السنّة والجماعة في طبقة الأدباء كما كان يمثل الجاحظ طبقة الأدباء من المعتزلة.
يقول ابن قتيبة في أول كتابه «تأويل مشكل القرآن» : الحمد لله الذي نهج لنا سبل الرشاد وهدانا بنور القرآن ولم يجعل له عوجا، بل نزله قيّما مفصّلا بيّنا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
…
وقطع بمعجز التأليف أطماع الكائدين وأبانه بعجيب النظم عن حيل المتكلمين، وجعله متلوّا لا يملّ على طول التلاوة، ومسموعا لا تمجّه الآذان، وغضّا لا يخلق على كثرة الترداد، وعجيبا لا تنقضي عجائبه،
ومفيدا لا تنقطع فوائده، ونسخ به سالف الكتب، وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه
…
) (1).
كما تولى المفسرون بيان مزايا الأسلوب القرآني وبلاغته ووجوه إعجازه من خلال تفاسيرهم، فنجد شيخ المفسرين في زمانه الإمام ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ يقول في مقدمة تفسيره: (
…
من أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله نظمه العجيب، ووصفه الغريب، وتأليفه البديع الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سوره الخطباء، وكلّت عن وصف شكله البلغاء، وتحيّرت في تأليفه الشعراء).
وعلى إثر ذلك اتسعت دائرة الكتابة في علوم البلاغة بعامة وفي إعجاز القرآن بشكل خاص. ولعل أول من ألف كتابا مستقلا تحت هذا العنوان هو أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفى سنة (306) هـ، وسماه «إعجاز القرآن البياني» . إلا أننا لم نظفر بكتاب الواسطي، وتذكر كتب التراجم أن عبد القاهر الجرجاني شرح كتاب الواسطي بكتابين- أحدهما صغير، والثاني كبير وسماه «المعتضد» - وذلك قبل تأليفه كتاب «دلائل الإعجاز» إلا أن شرحي كتاب الواسطي لم يصلا إلينا.
ولننظر بشيء من التفصيل ما كتب في إعجاز القرآن عند علماء المعتزلة فهم الذين بدءوا بالرد على بعض علمائهم الذين قالوا بالصرفة ثم نجيل النظر في كتب أهل السنّة والجماعة في إعجاز القرآن.
(1)«تأويل مشكل القرآن» ص 10.