الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة في مكانة الإنسان بين المخلوقات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان كرّمه على سائر المخلوقات، وتتجلى صور التكريم في:
1 -
خلقه: القوام المتناسق في أحسن تقويم: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)[التين: 4].
يتجلى ذلك في: (انتصاب القامة، الجمجمة، اليدين وتركيب الأصابع، والرجلين، الوجه ..... ).
2 -
خلقه: الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها بمعنى الاستعداد للرقيّ والكمالات الروحية والخلقية، لديه الاستعداد للتسامي ليكون في أعلى عليين، ولديه الاستعداد ليكون في أسفل سافلين من دركات الانحطاط النفسي والخلقي فيكون أخبث الموجودات.
إن الإنسان لديه الاستعداد لأن يتصف بالحقد والحسد والغش والكبر والرياء والطمع والبطر والخيلاء والضعف والمداهنة والمكر .. ولديه الاستعداد ليتصف بأضداد هذه الخصال.
ويمكنه أن يشغل أكثر من حيز بين هذه الأوصاف أو يخلط بينها.
بينما لا يتصف الحيوان في الغالب إلا بصفة من هذه الصفات.
3 -
ملكة البيان: قال تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)[الرحمن: 1 - 4].
إن القدرة على التعبير عما في النفس من خصائص الإنسان الكبرى سواء كان المراد التعبير عن الحاجات العضوية من الطعام والشراب، أو عن الأفكار والمبادئ والمعتقدات، أو التعبير عن العواطف والمشاعر.
أما الحيوانات فلا تصدر إلا بعض الأصوات للتعبير عن حاجة ما، ومن الصعوبة بمكان تعويده على بعض الأصوات للتعبير عن عادات، أو ربطها ببعض الظروف فتكون رد فعل على بعض التصرفات الموجهة إليه.
ولا يقاس هذا بما لدى الإنسان من النطق بحروف الهجاء التي يستطيع بواسطتها من تركيب كلمات وإيجاد ألفاظ ليتحدث بأي لغة من لغات العالم بها.
4 -
علمه: إن الاستعداد الفطري لدى الإنسان لتلقي العلوم واستيعابها ثم تحليلها والاستنتاج منها أو تركيبها وإدراك القوانين المتبعة في سنن الكون والحياة، واستخلاص العبر من أحداث التاريخ ورسم الخطا للمستقبل، وتسخير سنن الله في الكون لمصالحه المادية والمعنوية.
كل ذلك يجعله سيد المخلوقات وإطلاق العنان لطاقاته في تسخير الكون لصالحه ولا يزال الإنسان جاهدا في إدراك أسرار هذا الكون في الآفاق والأنفس يقول تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)[العلق: 5]، ويقول سبحانه وتعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31]، ويقول عز من قائل: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً [لقمان: 20].
5 -
إرادته وطرق الخيار لديه: كلما اتسعت دائرة العلم لدى الكائن الحي اتسع مجال الاختيار عنده ولما كان الإنسان أكثر علما فهو أوسع إرادة لذا فهو يستطيع أن يتصرف أمام الحادث الواحد بأكثر من أسلوب ويستطيع اختيار الطريق الأنسب لمصالحه وتحقيق رغباته.
فإذا جوبه بالاعتداء عليه: قد ينتقم أو يعفو، وقد يكظم غيظه أو
يظهره، وقد يداري في وقت ليترك الانتقام إلى الفرصة المؤاتية، وقد يجبن ويتخاذل ويستسلم، وقد يردّ بالمثل أو يطغى، وقد يترفع في الرد أو يسف، إلا أن مواقف الحيوان محدودة ولا يكون في الغالب إلا تصرف واحد تجاه الحادث الذي يتعرض له.
يقول تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)[الإنسان: 3] إن الإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بهذه المثابة وأودع فيه هذه الطاقات والقدرات وأكرمه هذا التكريم وجعل له السيادة على مخلوقاته لم يخلقه عبثا ولن يتركه هملا يقول تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115)[المؤمنون: 115] ويقول عز وجل: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)[القيامة: 36] إن كل ميزة تقابلها مسئولية وتكليف وعلى قدر عظم نعم الخالق سبحانه وتعالى على المخلوق تأتي التكاليف بأمور العبودية يقول تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72)[الأحزاب: 72].
إن الأمانة كما فسرها كثير من المفسرين هي تكاليف العبودية لله سبحانه وتعالى: إذن السيادة على الكون، والتكريم بالطاقات والقدرات قوبلت بحمل تكاليف العبودية والاستخلاف في الأرض، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) [الذاريات: 56] وكلما حقق الإنسان صفة العبودية في نفسه لله سبحانه وتعالى، كان أقرب إلى الوفاء بأداء مستلزمات الأمانة وإيفاء العهد والقيام بالدور المنوط به، وكلما ابتعد عن صفات العبودية لله تعالى كان تقصيره وتقاعسه في أداء دوره الذي خلق من أجله.
لهذا نجد الآيات الكريمة تخاطب سيد الأنبياء والمرسلين في مقامات التكريم والقرب بصفة العبودية يقول تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)[الإسراء: 1] ويقول جل شأنه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى
(5)
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)[النجم: 5 - 10] وفي معرض الحديث عن رسالته وتكريمه بإنزال القرآن عليه يقول عز شأنه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)[الكهف: 1]. ويقول: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)[البقرة: 23].
ونجد الآيات الكريمة تصم من ترك مستلزمات العبودية وتنكب لأداء الأمانة ونكص على عقبه بأشد النعوت وتخرجهم عن دائرة الإنسان المكرّم وتلحقه بالدواب والعجماوات، يقول تعالى:* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)[الأنفال: 22]. ويقول جل شأنه: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: 179]. وقال جل شأنه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)[الجمعة: 5].
وطريق التعرف على الأمانة التي كلّف الإنسان بها والتعرف على تفاصيل التكاليف المنوطة بالإنسان، والتعرف على أسلوب الأداء لهذه التكاليف على أكمل وجه، كل ذلك يتمثل في الصفوة المختارة من البشر لحمل الأمانة العظمى تمثّلها في سلوكهم وحياتهم الخاصة أولا، ثم تبليغها للآخرين دعوة وتطبيقا عمليا ليكونوا القدوة المثلى، والجهاد في سبيلها لحمل الناس على اعتناقها والالتزام بها، إنهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، الذين يمثلون ذروة الكمال البشري، لأنهم يمثلون ذروة العبودية لله تعالى ويقومون بأعظم مهمة في الوجود وهي مهمة إرشاد الإنسان إلى الطريق الصحيح لتحقيق إنسانيته وللإبقاء على الفطرة الإنسانية سليمة من أدران البهيمية، وللأخذ بأيدي الناس إلى طريق الكمالات البشرية.
من كل ما تقدم تظهر لنا حاجة الإنسانية إلى الرسالة لتتضح أمامها معالم الرشد والهدى وليعرف الناس الحكمة من إيجادهم، وتظهر الهدايات الربانية لحل مشاكل البشرية، كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) [البقرة: 213].
وبما أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الرسل بشرا يوحى إليهم، كانت الحاجة إلى آيات ودلائل تبيّن صدقهم فيما يبلّغون عن ربهم، وتقيم الحجة على الناس، لذا كانت المعجزة قرينة الرسالة، ولولا المعجزة لأشكل الأمر على الناس والتبس أمر الصادق بغيره، ولما سلمت الدعوات من مدّعين كاذبين.
وتأييد الرسول بآية صدق سنّة إلهية في رسالات الأنبياء جميعا، والقرآن الكريم يوضح هذه السنة ويقررها كما ورد في قصص الأنبياء والأمم السابقة. ولم يؤاخذ الأقوام عند ما طالبوا رسلهم بالآيات الدالة على صدقهم، إنما آخذهم عند ما عطلوا ملكاتهم العقلية ولم يتدبروا أثر الحكمة والتدبير فيما حولهم، أو أصرّوا على نوع معيّن من الآيات من قبل العناد والجمود على العادات الجاهلية الموروثة من الآباء الذين لم يكونوا على هدى من ربهم.