الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو الذي يختار نوعها وزمانها ومكانها، ودور الرسول فيها أنها تتجلى على يده. وليس بالضرورة أن تكون نفس الخارقة التي طلبها القوم، فإن مدلول الخارقة والإيمان والتصديق لصدق الرسول يتحقق بوجود المعجزة مطلقا ولا يتوقّف على نوع خاص من المعجزات. بل إن سنّة الله تقضي بتعجيل عذاب الاستئصال للذين لم يذعنوا للآية الخاصة التي سألوها: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8)[الأنعام: 8].
سنة الله سبحانه وتعالى في معجزات الأنبياء:
باستعراض معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات خاتمهم عليهم الصلاة والسلام أجمعين نلاحظ أن المعجزة تختار من بيئة القوم الذين يرسل الرسول إليهم ومن نوع المشهور في عصرهم مما يتلاءم مع مستواهم الفكري ورقيّهم الحضاري، لتكون الحجة أقوى.
أ- الأنبياء الذين عاشوا في البلاد العربية كانت معجزاتهم مناسبة لبيئة العرب الصحراوية، فمعجزة صالح عليه السلام كانت ناقة غريبة المنشأ والمولد بين نوق أهل البادية قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) [الشعراء:
153 -
156].
ب- وكان السحر منتشرا بين المصريين عامتهم وخاصتهم استرهبهم فرعون وجنوده به، فجاءت معجزات موسى عليه السلام من جنس المشهور بين قومه فمن معجزاته الرئيسية:
العصا: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32)[الشعراء: 32].
واليد: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12)[النمل: 12].
فظاهر هاتين المعجزتين لا يختلف عما كان متداولا بين سحرة
فرعون (1)، ولكن أهل الدراية بالسحر كانوا يميّزون بين السحر، وبين ما هو خارج قوى السحرة، بل من صنع الله، لذا كانوا أول المؤمنين به.
ج- وبعد عصر موسى عليه السلام انتشرت الفلسفة الأيونية وهي أساس الفلسفة اليونانية فيما بعد، وكانت تقوم على الأخذ بالأسباب والمسبّبات وتولّد المعلول من العلة في انتظام قائم لا يتخلف، فجاءت معجزات أنبياء بني إسرائيل في هذا العصر خارقة للأسباب والمسبّبات، لتثبت أن الكون كله بإرادة مريد مختار، لا يفعل إلا ما يريد ولا يصدر عنه بغير إرادته الثابتة شيء (2).
فمعجزات سليمان عليه السلام مثلا جاءت مناهضة لتلك النظرية التي تقول إن المخلوقات نشأت عن الموجد الأول نشوء العلة من المعلول، فكانت حياة نبي الله سليمان في ملكه تجري على هدم هذا النظر، فمن معجزاته:
- تسخير الجن والطير له.
- تعليمه منطق الطير والحيوان وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ
…
(20)[النمل: 16 - 22].
- تسخير الريح له: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ: 12].
د- وفي عصر اليونان ازدهر الطب والفلسفة المبنية على الأسباب
(1) انظر: «المعجزة الكبرى» للشيخ محمد أبي زهرة، ص 437.
(2)
المرجع السابق الصفحة ذاتها.
أيضا، فكانت معجزات عيسى عليه السلام من جنس ما اشتهر في هذا العصر:
- فكانت ولادته إبطالا صارخا لهذه النظرية، فإن المعتاد في حياة الكائنات الحية أن المولود يولد من أبوين، فجاء عيسى عليه السلام من غير أب فكان ذلك خرقا للأسباب
الطبيعية الجارية
…
فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22)[مريم: 17 - 22].
وتحدّثه في المهد حديث الحكماء
…
قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)[مريم: 29 - 33].
- وتصويره من الطين كهيئة الطير ثم نفخه فيه فيكون طيرا بإذن الله، وإحياؤه الموتى بإذن الله، وإبراؤه الأكمة والأبرص بإذن الله
…
وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)[آل عمران: 49].
هـ- وقبل بعثة خاتم النبيين بلغت الفصاحة والبلاغة وفنون القول شأوا بعيدا، وأخذت الكلمة مكانا في نفوس العرب من التقديس والتعظيم لم يبلغه شيء آخر، مما حدا بهم أن يعلّقوا المعلّقات السبع في جوف الكعبة، وإذا علمنا أن الكعبة كانت تعتبر أقدس مكان عند العرب في جاهليتهم أدركنا مكانة الكلمة في نفوسهم.