الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا لو ذهبنا نستعرض الآيات القرآنية في موضوع من الموضوعات المذكورة فيه نجد هذا التناسق وهذا الانسجام بين المعاني والألفاظ المختارة لأدائها فلا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، بل الألفاظ تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، كما أن الألفاظ عربيّة مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة سلسة كالماء في السلاسة والعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة.
ومن مزايا النظم القرآني اهتمامه بالجملة القرآنية واختيار المكان المناسب فيها للكلمة المعبرة:
بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقا عن التناسق بين العبارة والمعنى الذي يراد توضيحه فإن هنالك نوعا من التناسق الرائع بين الكلمات في الجملة الواحدة وبين الحروف في الكلمة الواحدة.
فنظرة إلى تلك الحروف تبرز تناسبها لبعضها تناسبا طبيعيا في الهمس والجهر والشدة واللين والتفخيم والترقيق مما يشكّل أنغاما متناسقة متناسبة.
وهذه الخاصية تعود بلا شك إلى طريقة اختيارها وسبكها وتناسب مخارجها. كما أن وضع الكلمة في الآية واختيار موقعها والتئامها مع جاراتها له الأثر الكبير في إعطاء هذا الجرس الخاص والإيقاع المؤثر في نفس السامع.
ولا يقتصر وضع الكلمة في الآية على تأثيره في اللحن والنغم وإنما لهذا الموقع والوضع المناسب تأثير على المعنى وإبرازه، لذا نجد أن كثيرا من الباحثين اقتصروا على إبراز هذه الناحية دون الإشارة إلى ناحية اللحن والإيقاع.
والحقيقة أن الكلمات القرآنية لها دور وضرورة في السياق للدلالة على المعنى، كما أن لها دورا في تناسب الإيقاع دون أن يطغى هذا على ذاك أو يخضع النظم لأحد الأمرين.
وفي الأمثلة التالية نرى اهتمام النظم القرآني في اختيار الكلمة المناسبة ذات الجرس المعين لأداء وظيفتها في الإيقاع كما أنها تؤدي في نفس الوقت دورها في تصوير المعنى وتشخيصه وإيضاحه على أتم صورة.
أ- اختير كلمة (حرث) لتشبيه النساء به دون الأرض أو الحقل أو الزرع وغيرها من المترادفات وذلك في قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223]. ولعل اختيار هذه اللفظة دون سواها لما فيها من لطف الكناية في ذلك التشابه بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص، وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث وذلك النبت الذي تخرجه الزوج وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح.
بينما هذه اللطائف لا تستفاد من كلمة (الأرض) إذ قد تكون جدباء لا تصلح لحراثة الزرع وكذلك الحقل فإنه لا يدل على عمل المالك فيه بل تدل الكلمة على شيء جاهز لا دخل فيه لبذر الحارث.
بذلك نلاحظ أن القرآن الكريم يتناول من الكلمات المترادفة أدقها دلالة على المعنى وأتمها تصويرا وتشخيصا للصورة وأجملها وأحلاها إيقاعا ووزنا بالنسبة إلى نظائرها.
ب- ومن هذا القبيل كلمة (أغطش) في قوله تعالى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)[النازعات: 29].
فهي مساوية من حيث الدلالة اللغوية لأظلم، ولكن (أغطش) تمتاز بدلالة أخرى من وراء حدود اللغة فالكلمة تعبر عن ظلام انتشر فيه الصمت وعمّ الركود وبدت في أنحائه مظاهر الوحشة. ولا يفيد هذا المعنى كلمة (أظلم) إذ هي تعبر عن السواد الحالك ليس غير.
ج- وحينما يصف القرآن الكريم دعوة امرأة العزيز للنسوة- اللائي تحدثن منتقدات عن مراودتها يوسف عن نفسه- إلى جلسة لطيفة في بيتها لتطلعهن فيها على يوسف وجماله فيعذرنها فيما أقدمت عليه، لقد قدمت لهن في ذلك المجلس طعاما ولا شك. ولقد أوضح القرآن هذا، ولكنه لم
يعبر عن ذلك بالطعام فهذه الكلمة إنما تصور شهوة الجوع وتنتقل بالفكر إلى المطبخ بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه، ولكن بماذا يعبّر إذن؟ وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام ولا تمس الصورة بأي تعكير أو تشويه؟ لقد أبدع القرآن لذلك تعبيرا عجيبا رائعا حيث قال: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31]. (متكأ) كلمة تصور من الطعام ذلك النوع الذي إنما يقدّم تفكّها وتبسطا وتجميلا للمجلس وتوفيرا لأسباب المتعة فيه، حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والاتّكاء. ولعلها أدركت بغريزتها النسائية ما سيئول إليه أمرهن فاختارت هذا المتكأ مما يحتاج فيه إلى سكين وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً.
د- وأحيانا يكون الاختيار للكلمة في مكان دون أماكن ويستبدل به غيرها لسرّ لطيف بالرغم من كون الموضوع واحدا، لكن الكلمة المختارة تعطي مدلولا خاصا لا يوفّيه حقّه إلا استعمال الكلمة القرآنية المختارة.
فمثلا: جاءت الملائكة بالبشرى لزكريا عليه السلام بيحيى، وأيضا جاءت بالبشرى للسيدة مريم العذراء بالمسيح عليه السلام. لكن وضع المبشّرين مختلف، وتلقّي الخبر منهما يكون له رد فعل يغاير ما في نفس الآخر، واستغراب كلّ منهما يكون لجانب أشد التصاقا بحاله ووضعه. قال زكريا عليه السلام عند ما جاءته البشرى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ [آل عمران: 40]. وقالت مريم عليها السلام عند ما جاءتها البشرى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: 47].
ورد في كلام زكريا عليه السلام لفظ الغلام وهو الموافق والمطابق لحاله لأنه رجل متزوج ومن شأن المتزوجين كما هي العادة أن يولد لهم، ولكن الغريب في الأمر والمعجزة أن يولد له في هذه السن المتأخرة من حياته وامرأته عاقر فكانت الكلمة التي تؤدي الغرض ووجه الاستغراب هي كلمة (غلام).
أما مريم عليها السلام فالتعجب في جانب آخر إذ إنها عذراء ولم يمسسها بشر ولم تك بغيّا، فالغرابة والمعجزة أن تلد وهي عذراء فكانت الكلمة المعبرة التي تؤدي المعنى بدقة وتوضح وجه الاستغراب لها هي كلمة (ولد)(1). فسبحان الذي أحاط علمه بسر اللغة ومكنوناتها أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
هـ- ومن هذا القبيل استعمال كلمة (قرية) تارة واستعمال كلمة (المدينة) في موضع آخر في سورة الكهف.
فعند ما كان الحديث عن بخل ولؤم السكان جاء التعبير بكلمة (أهل قرية) لأن مادة (قرى) تدل على الجمع ومن مستلزماته الإمساك والبخل، بينما عند ما جاء الحديث عن الغلامين والخوف من ضياع كنزهما جاء التعبير ب (المدينة) لأن زحمة المدينة وكثرة الوجوه الغريبة فيها أليق بإضاعة المساكين والضعفاء، كما أن التحايل والغبن يكثر في المدن أكثر منها في القرى. وكل ذلك تجده في قوله تعالى: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما
…
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ
…
[الكهف: 77، 82].
(1) أما مجيء لفظة غلام في كلام السيدة مريم عليها السلام في قوله تعالى: قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)[مريم: 19، 20]، فهو من قبيل ترداد اللفظة التي سمعتها من المخاطب، فشدة الاستغراب والدهشة تجعل السامع يردد نفس الكلمة التي سمعها كما في جواب القائل قالوا صف شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا، فلما رأت مريم عليها السلام الملك في صورة البشر ودخل عليها وهي عارية للاغتسال في حجاب وعزلة عن الناس فتعوذت منه لأن ذلك ليس من شأن الأتقياء، فلما أخبرها بالغلام ازداد استغرابها فرددت الكلمة المسموعة أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ. بخلاف ما ورد في سورة آل عمران فلم يسبق استغرابها ذكر كلمة الغلام فانصب الاستغراب على الولادة وهي عذراء.