الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإعجاز العلميّ (التجريبيّ)
تمهيد: بين يدي البحث في الآيات الكونية:
إن الهدف الأساسي للقرآن الكريم هو تبصير الإنسان بطريق الهداية ودعوته لسلوكها، إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) [الإسراء: 9].
وجاءت هذه الهدايات والدعوة إليها بأساليب متنوعة، فمن مخاطبة للفطرة الإنسانية، ومن استدلال بواقع الأشياء المحسوسة، إلى مجادلة عقلية، إلى تذكير بعاقبة الأمم السابقة، إلى لفت نظر إلى واقع القصور البشري .. ولما كان المخاطبون هم جملة الناس بمختلف طبقاتهم وفئاتهم وعلى اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية، جاء في القرآن الكريم من البراهين والأدلة والأمثال ما يعم الشرائح الاجتماعية على مختلف العصور والبيئات لأن المنطلقات الإنسانية محكومة بالفطرة والعقل والتجارب، وكل ذلك في دائرة المحدود الممكن، لذا كانت قواعد المخاطبات وأسسها العامة تعمّ كل من كان في عصر نزول الوحي ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا 54 [الكهف: 54].
وإذا أدركنا هدف القرآن ومنهجه في الخطاب أدركنا أن ورود الآيات الكونية سواء ما يتعلق منها بالآفاق وما يتعلق منها بالأنفس البشرية شيء بدهي أيضا، لأن من فئات الناس المكلفين المخاطبين بالقرآن الكريم من ينصبّ جلّ اهتمامه على هذه الجوانب من مخلوقات الله، ولا بد من إقامة
الحجة عليهم وإظهار أن القرآن كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ليبشر به المؤمنين وينذر به قوما لدّا، ومن العسير أن تتذوق هذه الطوائف الجمال البياني وتدرك فصاحته وبلاغته لتعترف بالتالي أنه كلام الله المعجز
…
ولكنهم يدركون أن هذه المعارف الإنسانية وهذه الحقائق الكونية لا يتصوّر أن يدركها بشر من ذاته، لأن كثيرا منها لم تكتشف إلا في عصور متأخرة جدا بعد التقدم العلمي في العلوم الكونية وبعد اختراع آلات دقيقة لم يكن للسابقين عهد بها.
فإن ورود هذه الحقائق الضخمة والدقيقة في نفس الوقت على لسان رجل لم يكن له إلمام بمثل هذه العلوم دليل على أنه تلقّاها ممن يعلم السرّ في السماوات والأرض قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً 6 [الفرقان: 6].
والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجد أن مئات الآيات قد تحدثت عن سنن الله سبحانه وتعالى في هذا الكون ونظامه وألوان العناية الربانية بمخلوقاته فيه (1)، لذا كان لزاما على المهتمين بالدراسات القرآنية أن يولوا هذا الجانب اهتمامهم.
إلا أن دراسات سابقة اتجهت هذا الاتجاه (2)، من غير ضوابط، على الرغم من حماس أصحابها وصدق مشاعرهم قد أدت إلى نتائج عكسية، مما جعل كثيرا من الناس يحملون على هذا الاتجاه حرصا منهم على إبعاد القرآن الكريم من مجال الإخضاع للنظريات العلمية المتقلّبة، أو التعسف في تأويل النصوص أو تحميلها ما لا تحتمل من الدلالات (3).
(1) يقدر بعض الباحثين عدد الآيات التي تحدثت عن الكون (الآفاق والأنفس) بما يزيد عن: 900 آية مبثوثة في ثنايا سور القرآن الكريم. انظر كتاب «القرآن والعلوم» للدكتور جمال الدين الفندي.
(2)
انظر على سبيل المثال: «تفسير الجواهر» للشيخ طنطاوي جوهري.
(3)
انظر كتابات بنت الشاطئ في هذا الخصوص.
إلا أن طرفي القضية قد وقع في محظور فالذين اتجهوا هذا الاتجاه من غير ضوابط تكبح جماح الفكر والخيال والسعي وراء النظريات قد أفرطوا ووقعوا في أخطاء ينبغي تنزيه القرآن الكريم من مثل ذلك، وكذلك الطرف الآخر الذين منعوا هذه البحوث وحاولوا سد الباب أمام الباحثين قد فرّطوا في مئات الآيات ولم يعطوها حقها في التدبر والبحث، ومنعوا الدعاة من حمل سلاح من أمضى الأسلحة في العصر الراهن لإقامة الحجة على ملاحدة العصر، وإثبات صحة الرسالة وصدق الرسول، هذا ما يجعلنا نضع ضوابط محددة قبل البدء في تقليب النظر في آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الآفاق والأنفس.