الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذه الأوصاف والمزايا توجب أن يكون إعجازه ذاتيا وقد قال سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31]. أي لو كان من شأن كتاب أن يظهر له أثر في مثل هذه الأشياء لكان هذا القرآن أولى من كل كتاب بذلك.
ويقول جلّ شأنه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)[الزمر: 23].
فالقول بالصرفة يسلب هذه الصفات الذاتية عن القرآن الكريم ويجعل الإعجاز في المنع الذي حال بينهم وبين الإتيان بمثله.
وأما الأدلة العقلية:
1 -
إن قول النظام ومن تبعه: إن الله صرفهم بصرف الدواعي عن الاهتمام بالمعارضة يكذبه الواقع التاريخي، كيف يقال إنهم لم يهتموا بأمر القرآن والتوجّه لمعارضته وهم الذين لم يدّخروا وسعا في سبيل القضاء على القرآن والتخلص ممن أنزل عليه.
- هل يقال إن دواعيهم كانت مصروفة عن المعارضة ولم يهتموا بشأن القرآن وهم الذين أوفدوا عتبة بن ربيعة ليفاوض محمدا صلى الله عليه وسلم على ترك سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وله مقابل ذلك الملك والمال والجاه والنساء وكل ما يرغب؟!.
- أيقال إن دواعيهم كانت مصروفة عن القرآن وهم الذين وجهوا أشرافهم إلى عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب لكي يسلمهم محمدا يقتلوه ويعطوه بدله أنهد فتى في قريش، عمارة بن الوليد بن المغيرة؟!.
- كيف يقال إن دواعيهم لم تتوجّه إلى معارضة القرآن وهم الذين لمّا يئسوا من المفاوضات قرروا إرسال فتى من كل قبيلة لاغتيال محمد صلى الله عليه وسلم في بيته لكي يتفرّق دمه في القبائل فلا يستطيع بنو هاشم حرب
العرب جميعا فيضطرون إلى قبول ديته؟! ولما أنجاه الله منهم جمعوا الجيوش تلو الجيوش لخوض المعارك الضارية وهم يقدمون وقودا لها أبناءهم وفلذات أكبادهم في سبيل إطفاء نور الله والقضاء على دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
كل هذا وكان يكفيهم مؤنة ذلك ويبطل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم الإتيان بمثل أقصر سورة من سور القرآن، وكيف يبذل الإنسان حياته وما يملك في سبيل شيء بينما تحقيق غرضه يتم بشيء هو من مألوفات حياته اليومية العادية ومن أخص خصائصه التي اشتهر بها ونسبت إليه.
إن ترك المعارضة بالحرف واللسان واللجوء إلى الضرب والطعن بالسنان من قريش- ذؤابة العرب وأهل الحجا والنّهى فيهم- لدليل على إحساسهم بالعجز المطلق أمام آيات الله البينات.
بل كان هذا العقل الراجح يمنعهم من ارتكاب حماقات مثل حماقات مسيلمة في زعمه الإتيان بمثل سور القرآن فأصبح أضحوكة الأجيال والأزمان. إن من يعرف عادات العرب في الجاهلية وقريش خاصة في الحفاظ على احترام الآباء وتقديس العادات والمفاخرة بالأمجاد، يدرك مدى هول ما نزل بهم عند ما تحدّاهم القرآن وأبطل
عاداتهم وتقاليدهم الموروثة من الآباء والأجداد وسفّه أحلامهم، ثم طلب منهم إن أرادوا النصرة لأنفسهم أن يأتوا بمثل سورة من القرآن، ثم سجل عليهم الخزي والهزيمة بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)[البقرة: 24].
2 -
وعن قول المرتضى ومن شايعه: أن الله سلب من العرب العلوم التي يحتاجون في معارضة القرآن، نقول:
- وهل انحطت علومهم وعقولهم بعد التحدّي عما كانت عليه قبل التحدّي؟! إننا إذا قارنّا بين أساليبهم في الكلام قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وبعد البعثة لم نجد تفاوتا بين أساليبهم، وعلى هذا الزعم كان ينبغي أن تسف
أساليبهم بعد التحدّي. ولو أن العلوم سلبت منهم فلماذا لم يلجئوا إلى كلام فصحائهم من القدماء الذين لم يحضروا عصر التنزيل ولم تسلب منهم العلوم، فيأتوا بقطعة شعرية أو خطبة محفلية فيعارضوا بها القرآن؟ ولماذا لم ينطقوا بهذا السلب ويشيعوا بأنهم سلبوا علومهم فلا يقدرون على معارضة القرآن؟.
ولا يقال إن ذلك سيكون حجة عليهم ملزمة لهم لتصديقه، لأن باب الافتراء كان مفتوحا عندهم، فكانوا يستطيعون أن يدّعوا أن علومهم سلبت بطريق السحر كما افتروا إن تأثير القرآن على الأنفس إنما هو من قبيل السحر.
إن الذين ادعوا أن إعجاز القرآن كان بسلب العلوم، يثبتون للعرب قدرة هم لم يدعوها لأنفسهم، بل جاء على لسان أهل البيان منهم ما ظهر الحق عليه من غير إرادة منه (ما يقول هذا بشر).
وإن كان القرآن غير معجز بشيء ذاتي فيه، وإنما لم يعارضه العرب لصرف دواعيهم عن المعارضة أو لسلب العلوم منهم، فهل أحس النّظّام والمرتضى بما وصفوا العرب به من صرف وسلب؟ فلماذا لم يأتيا بمعارضة للقرآن، وكان النّظّام من الأذكياء الماهرين كما يشهد له تلميذه الجاحظ، والمرتضى مشهود له أنه كان من فرسان البلاغة والبيان؟.
إننا نقول إن تحدّي القرآن وإثبات العجز للناس ليس مقتصرا على عهد النبوة فقط بل هذا التحدّي قائم، وهذا العجز من البشر ثابت إلى قيام الساعة. فمن قال بالصرفة فليحاول هو، وهل يحسّ بشيء من الصرف أو السلب في نفسه؟.
إن استعظام العرب لفصاحة القرآن وبلاغته وتعجبهم من ذلك لهو دليل على بطلان الصرفة، فلو كانوا مصروفين عن المعارضة بنوع من الصرف لكان تعجبهم للصرف لا للبيان المعجز. ولو كان هنالك سلب علومهم لكان الفرق بين كلامهم بعد التحدّي وكلامهم قبله كالفرق بين
كلامهم بعد التحدّي وبين القرآن، ولما لم يكن كذلك بطل القول بالصرفة (1).
والعرب لم تفقد عقولها بعد التحدّي، فإن سلب العلوم ونسيانها في هذه المدة اليسيرة دليل على زوال العقل، ومعلوم بقاء العقول بعد التحدّي كما كانت، بل من تغلب على نزغات الشيطان وترك اتباع الهوى في نفسه وترفع عن الحسد والبغضاء وآمن بدعوة الحق ازداد عقله رجاحة وصفاء.
سئل عمرو بن العاص بعد إسلامه عن سبب تأخره في الاستجابة لدعوة الإسلام قال: لقد كان الأمر والتدبير لغيرنا سابقا، فكنا نسمع رأيهم ونطيع أمرهم، فلما آل الأمر إلينا رأينا أن الأمر أظهر من أن يحتاج إلى برهان.
ولا شك أن القول بالصرفة كان نتيجة للتفكير الفلسفي المجرد عن نور الهداية، حيث نظر القائلون بها إلى أن القرآن مؤلف من كلمات عربية معروفة باستطاعة البلغاء أن يأتوا بمثلها، فإذا عرفت المفردات أمكن التوصل إلى تركيبها، وإذا عرفت التراكيب أمكن تأليفها (2)، وفاتهم أن المفردات والتراكيب تحتاج إلى الصبغة الإلهية واللمسة الربانية حتى تضفي عليها الإشراق والحياة فيسري فيها الروح فتكون معجزة وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) [الشورى: 52 - 53].
إن مثل هؤلاء كمثل الطبيعيين اليوم ينظرون إلى الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان ويحاولون تحليلها إلى المواد الأولية التي تتكوّن منها.
يحاولون بواسطة هذه التحليلات معرفة سر الحياة وإيجاد إنسان أو حيوان أو نبات في المعمل. لقد فات هؤلاء أيضا أن النفخة الإلهية هي سر الحياة، فلولا هذه النفخة الإلهية لما تكوّنت الحياة في المواد الأولية، ولولا الصبغة الربانية لما كانت الكلمات العربية معجزة.
(1) انظر كتاب «الفوائد المشوق» لابن القيم، ص 252.
(2)
ورد مثل هذا الاستدلال في كلام ابن سنان الخفاجي في كتابه «سر الفصاحة» ص 90.