الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
فصاحة القرآن وبلاغته
أولا: تعريف الفصاحة والبلاغة:
الفصاحة: في اللغة: الظهور والبيان، ومنها أفصح اللبن إذا انجلت رغوته، ويقال أفصح الصبح إذا بدا ضوؤه واستبان (1)، ولسان فصيح أي طلق.
وفي القرآن الكريم على لسان موسى عليه: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي [القصص: 34].
وفصاحة الكلام في الاصطلاح: خلوصه من التعقيد، وفصاحة القرآن: كونه لفظا عربيا مستعملا مؤدّي المعنى بوجه لا تعقيد فيه (2).
نجد أن التعاريف كلها تدور حول الإظهار والوضوح مع الخلوّ من التعقيد.
والبلاغة في اللغة: مأخوذة من البلوغ وهو الوصول إلى الشيء والانتهاء إليه. يقال بلغت المكان بلوغا: وصلت إليه.
وفي الاصطلاح: البلاغة في الكلام: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ (3). وقيل: أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس
(1)«لسان العرب» : 2/ 545.
(2)
«الفوائد المشوق» لابن القيم، ص 9.
(3)
«الفوائد المشوق» لابن القيم، ص 9.
السامع بإصابة موضع الاقتناع من العقل والوجدان من القلب.
وفي لسان العرب: رجل بليغ: حسن الكلام فصيح يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه .. وقال خالد بن صفوان: أبلغ الكلام ما قلّت ألفاظه وكثرت معانيه، وخير الكلام ما شوّق أوله إلى سماع آخره (1).
وقال بعض المتأخرين: البلاغة: التعبير باللفظ الرائع عن المعنى الصحيح بلا زيادة ولا نقصان (2).
ونجد أن تعاريف البلاغة تدور معظمها حول: إيصال المعنى إلى قلب المخاطب بعبارة سهلة موجزة، مراعيا في ذلك مقتضى حال السامع بحيث يؤثر في نفسه، ويبلغ منها ما يريد القائل. وهو ما دل عليه التعريف الأول ولعله أرجحها.
وهل من فرق بين الفصاحة والبلاغة؟
قال بعضهم: إنهما متعاقبان على معنى واحد. وذهب أغلبهم إلى التفريق فقالوا: إن الفصاحة من عوارض الألفاظ مع ملاءمة المعنى والبلاغة من عوارض المعنى، وهو تكميل المعنى باللفظ الذي يفهمه.
فالبلاغة في المعاني، والفصاحة في الألفاظ. يقال: معنى بليغ ولفظ فصيح.
يقول الخفاجي في «سر الفصاحة» : (والفرق بين الفصاحة والبلاغة:
أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني. لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة، وإن قيل فيها فصيحة وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا) (3).
(1). 8/ 420.
(2)
مقدمة تفسير الفاتحة ليوسف الحسين الحسيني.
(3)
سر الفصاحة للخفاجي، ص 49 - 54 باختصار.
ويقول: (فالفصاحة نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة، ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ، وبحسب الموجود منها تأخذ القسط من الوصف، وبوجود أضدادها تستحق الإطراح والذم، فمن هذه الشروط:
1 -
أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج (1).
2 -
أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسنا ومزية على غيرها.
3 -
أن تكون الكلمة غير متوعرة وحشية.
4 -
أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية.
5 -
أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة.
6 -
أن لا تكون الكلمة قد عبّر بها عن أمر آخر يكره ذكره.
7 -
أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف).
وإذا استعرضنا آيات القرآن الكريم من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس على تعريف الفصاحة والبلاغة، وشروط الألفاظ الفصيحة والكلام البليغ، لوجدنا كل آية قد تحققت فيها الفصاحة والبلاغة في أبهى صورهما، ولوجدنا أن معاني الكلمات تنساب إلى القلب قبل أن تبهرنا الألفاظ بجمالها الساحر، سواء في ذلك السور والآيات التي تلفت أنظارنا إلى الآفاق لنستدل على الصانع من لوحة إبداعه الرائعة أو الآيات المتعلقة بمبدإ البعث والنشور والموقف والحساب أو ما يتعلق منها بتنظيم شئون الحاكم مع رعيته، أو الأسرة وحقوق أفرادها، وغيرها من الأمور التي تولى القرآن الكريم الحديث عنها.
(1) فالكلمات: الجردقة (الرغيف). والجرموق: اسم لقوم. وجوسق، وجلق، وجوالق:
للوعاء. ومنجنيق، وجلنبلق: لصوت الباب. والجص، والصجة، والصولجان، والمحجن، والأجاص. كلها كلمات معرّبة غير فصيحة لتقارب مخارج حروفها.
كل تلك الآيات عليها الصبغة الزاهية من البيان الرائع والجمال اللفظي في أبسط أسلوب وأوضحه وأقربه إلى الفهم والقلب.
لقد كان معروفا ولا زال عند علماء البلاغة وأهل البيان أن هناك أمورا معيّنة وأحوالا خاصة يجيد فيها الشاعر أو الكاتب دون سواها. وحالته النفسية تلعب دورا في إعطاء الملامح والمزايا لإنتاجه، لذا عرف بعض الشعراء بجودة المديح والغزل وآخرون بالهجاء والذم، وكانت الأسبقية لآخرين في الشجاعة ووصف الحروب، ولغيرهم في الحكم ودقة التعبير عن المعاني العقلية أو النفسية. وكان إذا ترك أحدهم ما طبع عليه، وحاول أمرا لم يعتد عليه تناقصت قيمة شعره وإنتاجه وربما جاء بما يستنكر أو يستكره.
لذا ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب. أما أن تلتزم الطبقة العليا في الفصاحة وذروة سنام البلاغة في كل صغيرة وكبيرة مهما اختلفت المواضيع وتباينت الأحوال وامتد الزمن فذلك ما لا نجده في إنتاج أحد من البشر، لأن البشر- كما يقول ابن عطية- يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بكل شيء علما، ولا يكون ذلك إلا للخالق جل جلاله وتعالى شأنه، الذي أحاط بالكلام كله فيعلم مكان اللفظة وما يناسبها في الترتيب، وما يصلح أن يكون رديفا لها، فلذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة (1).
والمتتبع لآيات القرآن الكريم من العارفين بأفانين البلاغة يجد فيه فنونها بأسرها، من إفادة المعاني الكثيرة باللفظ القليل، ومن ضروب التأكيد، وأنواع التشبيه والتمثيل، إلى ضرب الأمثال، وأصناف الاستعارة، وحسن المطالع والمقاطع والفواصل، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل،
(1) مقدمة «المحرر الوجيز» لابن عطية، 1/ 38. ط المغرب.