الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من حكام بني العباس، تلقف الذين يحبون كل وافد من الأفكار ويركنون إلى الإغراب في أقوالهم فدفعتهم الفلسفة إلى أن يعتنقوا ذلك القول ويطبقوه على القرآن- وإن كان لا ينطبق- فقال قائلهم: إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه ومعانيه ونسجه ونظمه، بل كان، لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله.
إن رواج فكرة الصرفة يؤدّي إلى أن القرآن الكريم ليس في درجة من الفصاحة والبلاغة تمنع محاكاته، وتعجز القدر البشرية على أن يأتوا بمثله.
فالإعجاز عند القائلين بالصرفة ليس من صفات القرآن الذاتية، وبالتالي ما دام أن بلاغة القرآن لا تزيد على بلاغة سائر الناس فمؤدّى كلامهم أن يكون القرآن من جنس كلام البشر.
القائلون بالصرفة:
1 -
النّظّام: أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظام البصري:
اقترن اسم الصرفة باسم النظام، واشتهر أنه أول المنادين بها والمظهرين لهذا القول. كان النظام من الموالي، وهو ابن أخت أبي الهذيل العلّاف- أحد كبار المعتزلة-. وقيل له النظام، لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة. تتلمذ للعلاف في الاعتزال ثم انفرد عنه وكوّن له مذهبا خاصا، وعاشره في بغداد حينا ومات وهو شاب في نحو السادسة والثلاثين من عمره سنة 231 هـ. وكان أستاذ الجاحظ.
ترجم له الإمام أبو منصور البغداديّ في كتابه «الفرق بين الفرق» عند ذكره الفرقة النّظّامية فقال: (عاشر- أي النّظام- في شبابه قوما من الثنوية وقوما من السّمنيّة القائلين بتكافؤ الأدلة، وخالط بعد كبره قوما من ملاحدة الفلاسفة، ثم دوّن مذاهب الثنوية وبدع الفلاسفة وشبه الملاحدة في دين الإسلام، وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف، فأنكر إعجاز القرآن في نظمه، وأنكر ما روي في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر وتسبيح الحصى في يده، ونبع الماء
من بين أصابعه، ليتوصل بإنكار معجزات نبينا عليه السلام إلى إنكار نبوته، ثم إنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها، ولم يجسر على إظهار رفعها فأبطل الطرق الدالة عليها، فأنكر لأجل ذلك حجية الإجماع، وحجية القياس في الفروع الشرعية، وأنكر الحجة من الأخبار التي لا توجب العلم الضروري. ثم إنه علم إجماع الصحابة على الاجتهاد في الفروع الشرعية فذكرهم بما يقرؤها غدا في صحيفة مخازيه، وطعن في فتاوى أعلام الصحابة رضي الله عنهم، وجميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث) (1).
وتدل سيرة النظام على أنه كان على جانب كبير من الذكاء، يروي عن الجاحظ قوله:(كان الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن كان ذلك صحيحا فهو النظام)(2). ولكنه لم يستعمل ذكاءه هذا في خدمة الشريعة والبحث فيها لإبراز أسرارها ولكشف حكمها ومكنوناتها، بل كان مسيئا إليها مستخفا بأوامر الدين غير متمسك بالأحكام شديد الجرأة على المحدثين، قليل الإيمان بصحة الحديث، ولا يرى غضاضة في ردّ الحديث والطعن في راويه ولو كان صحابيا، لأنه لم يوافق عقله أو بالأحرى هواه. ويقال إنه ألف كتابا سماه «كتاب النكت» انتصر فيه لكون الإجماع ليس بحجة، فاضطره ذلك إلى أن يذكر عيوب الصحابة ويوجّه إلى كل واحد منهم طعنا.
يقول عنه ابن قتيبة (3): (وجدنا النظام شاطرا من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على جرائرها ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات، وهو القائل:
ما زلت آخذ روح الزقّ في لطف
…
وأستبيح دما من غير مجروح
(1)«الفرق بين الفرق» للبغدادي، ص 131 - 132. وقد ذكر البغدادي عشرين قضية من انحرافاته وسماها فضائح، ومن أراد الاطلاع على مزيد من فضائحه فليراجع «الفرق بين الفرق» من ص 131 - 150.
(2)
«ضحى الإسلام» لأحمد أمين، 3/ 118.
(3)
انظر كتابه «تأويل مختلف الحديث» ص 25.
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي
…
والزقّ مطّرح جسم بل روح
وفرقة النظامية التي تنسب إليه بالإضافة إلى ما تقدم من مخالفات لجماعة المسلمين فقد تبنّوا آراء شاذة في العقائد منها: أن الله لا يقدر أن يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح فيه، ولا أن يزيد وينقص من عقاب وثواب، وكونه مريدا لفعله كونه خالقا ولفعل العبد كونه أمر به، والإنسان هو الروح والبدن، والأعراض والأجسام لا تبقى،
والجسم مؤلف من الأعراض، والعلم والجهل المركب مثلان، والإيمان والكفر كذلك ..
والتواتر يحتمل الكذب، وأوجبوا النص على الإمام، وثبوته لعليّ لكن عمر كتمه (1)
…
ولهذه الآراء الشاذة والمعتقدات الباطلة نص الكثير من العلماء على تكفير النظام وفرقته، حتى من المعتزلة أنفسهم ومنهم أبو الهذيل- خاله- وألف كتابا في الرد عليه عرف باسم «الرد على النظام» ، ومنهم الجبّائي كفّر النظام في مسائل ذكرها أبو منصور البغدادي، ومنهم الإسكافي وله كتاب في الرد على النظام كفّره في أكثر مذاهبه.
أما أهل السنّة والجماعة فقد ضمن أكثرهم تكفير النظام مصنفاتهم، ويقال إن للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة كتب في الرد على النظام يكفره فيها. وللقلانسي في الرد عليه كتب ورسائل. وللقاضي أبي بكر الباقلاني كتاب كبير في بعض أصول النظّام، وقد أشار إلى ضلالاته في كتاب (إكفار المتأولين).
2 -
وممن نسب إليه القول بالصرفة: الشريف المرتضى من الشيعة.
جاء في ترجمته عند الزركلي في «الأعلام» :
علي بن الحسين بن موسى بن محمد، من أحفاد الحسين بن
(1) انظر كتاب «لوامع الأنوار» لمحمد بن أحمد السّفّاريني، 1/ 78.
علي بن أبي طالب، نقيب الطالبيّين، أحد الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر. يقول بالاعتزال. مولده ووفاته ببغداد. وله تصانيف كثيرة أشهرها:
أمالي المرتضى، وديوان شعره. قال الذهبي: وهو المتّهم بوضع نهج البلاغة، ومن طالعه جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين. ت 436.
ولكنه فسّر الصرفة بأن الله سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في معارضة القرآن والإتيان بمثله. ومؤدّى كلامه أنهم أوتوا القدرة على المعارضة بما كانوا عليه من بيان وبلاغة وفصاحة فهم قادرون على النظم والعبارات، ولكنهم عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن بسبب أنهم سلبوا العلم الذي يستطيعون به محاكاة القرآن في معناه.
3 -
وممن قال بالصرفة: الفقيه الظاهري ابن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456 هـ.
جاء في كتاب «الأعلام» للزركلي في ترجمة ابن حزم:
عالم الأندلس في عصره. كان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه يقال لهم الحزمية. ولد بقرطبة، وكانت له ولأبيه من قبله رئاسة الوزراء وتدبير المملكة، فزهدها وانصرف إلى العلم والتأليف
…
انتقد كثيرا من العلماء والفقهاء، فتمالئوا على بغضه وأجمعوا على تضليله وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنوّ منه فأقصته الملوك وطاردته، كان يقال لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان.
أشهر مصنفاته: «الفصل في الملل والأهواء والنّحل» ، و «المحلى» في الفقه الظاهري، و «جمهرة الأنساب» ، و «الإحكام في أصول الأحكام» . وغيرها من المؤلفات.
فقد قال في كتابه «الفصل» في سبب الإعجاز: لم يقل أحد إن كلام غير الله معجز، لكن لمّا قاله الله تعالى، وجعله كلاما له، أصاره معجزا،