الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول السهيلي في الروض الأنف: (
…
إن التكذيب بالآيات من نحو ما سألوه من إزالة الجبال عنهم، وإنزال الملائكة، يوجب في حكم الله ألا يلبث الكافرين بها وأن يعاجلهم بالنقمة كما فعل بقوم صالح وبآل فرعون، فلو أعطيت قريش ما سألوه من الآيات وجاءهم بما اقترحوا ثم كذّبوا لم يلبثوا، ولكن الله أكرم محمدا صلى الله عليه وسلم في الأمة التي أرسله إليهم، إذ قد سبق في علمه أن يكذّب به من يكذب ويصدّق من يصدّق، وابتعثه رحمة للعالمين برّ وفاجر، أما البرّ فرحمته إياهم في الدنيا والآخرة، وأما
الفاجر فإنهم أمنوا من الخسف والغرق وإرسال حاصب عليهم من السماء كذلك قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)[الأنبياء: 107](1).
وإلى هذه الحكمة تشير الآية الكريمة عند صرف القوم عن المعجزات المادية إلى معجزة القرآن الكريم في قوله تعالى:
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)[العنكبوت: 50 - 51].
إن في هذا الصرف رحمة الله بهم ليدخل بعضهم في الإسلام أو يخرج من أصلابهم من تتفتّح بصيرته لنور الحق والهداية.
مراحل التحدي والقدر المعجز من القرآن:
قبل ذكر أقوال العلماء في القدر المعجز من القرآن لا بد من نظرة سريعة على مراحل التحدّي بالقرآن والتدرج فيه، لكي نصل من خلال هذا التدرج إلى المطلوب من البحث.
فبعد أن صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته في بطحاء مكة، ودعا الناس
(1) الروض الأنف 2/ 50.
إلى عبادة خالق الكون ومبدعه، ونبذ عبادة الأصنام، طالبه المشركون بالدليل على صدقه، قال: دليل صدقي هو هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهو يحمل في طياته برهان صدقه، لأنه لا يتأتّى لأحد من المخلوقين أن يفتري على الله أو يأتي بشيء من هذا القبيل وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) [يونس:
37]. وبيّن لهم أنهم يدركون العجز من أنفسهم أن يأتوا بمثل القرآن، كما يعرفون عجز محمد صلى الله عليه وسلم أيضا لأنه نشأ بينهم أمّيا لم يتلق العلم على أحد من البشر فإذا كانوا وهم أصحاب البلاغة وفرسان الفصاحة ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال وغيرها من أفانين القول، إذا كانوا يعجزون عن الإتيان بمثل القرآن فكيف يتهمون محمدا الأمي بأنه تقوّله أو افتراه من عند نفسه؟! قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) [يونس: 16]، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) [الطور: 30 - 34].
لقد شعروا بعجزهم في قرارة أنفسهم عند ما دعوا إلى معارضة القرآن والإتيان بمثله، ولكنهم عاندوا واستكبروا ولم يستجيبوا لنداء العقل وأحاسيس الفطرة التي يستشعرونها في داخلهم، وقالوا عند سماع آيات القرآن تقرع مسامعهم وتتحداهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) [الأنفال: 31].
ولم يتركهم القرآن الكريم يقولون قولتهم وينصرفون، بل لاحقهم بقوارع تنبيهاته وألهب مشاعرهم بأعنف الكلمات وسجّل كذبهم وافتراءهم في مزاعمهم وعجزهم المطلق في هذا الصدد قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: 88].
وعند ما ضاقت عليهم الحيلة وسدّت في وجوههم السبل طرقوا كل باب في الادعاء والافتراء والبهتان لشدة حرصهم على إبطال شأن القرآن والتشكيك في ربانية مصدره فقالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)[الفرقان: 5].
ولكي يلقوا ظلالا من الشكوك على افترائهم لعلها تكون مستساغة عند الجاهلين بواقع الأمور قالوا إن الذي يعلّمه ليس من قريش وإنما هو رجل لديه علم لم تعلمه قريش، ولكن أنّى لأعجمي أن يأتي ببيان معجز للعرب الفصحاء؟!: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)[النحل: 103].
لم يكتف القرآن الكريم بتسجيل العجز مجتمعين، بل أثارهم فرادى وسجل على زعمائهم الخزي والعار. واقرأ ما ورد في شأن الوليد بن المغيرة: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
…
[المدثر: 11 - 26].
ومثل ذلك ما أنزل في شأن أبي جهل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)[العلق: 9 - 18].
وكذلك قوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)[الدخان: 47 - 50].
وكذلك ما نزل في ثالث الأشقياء أبي لهب: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
…
(1)[المسد: 1].
إن هذا التحدّي الخاص بعد ذاك التحدّي العام كان من شأنه أن يثير هؤلاء الزعماء، فلا يرون لذة للعيش، ولا تذوق أجفانهم طعم النوم حتى يستفرغوا جهودهم، وجهود من يلوذون بهم في الشدائد للرد على القرآن ولم يبق للمشركين أرض يقفون عليها ولا حجة يستندون إليها، فقالوا إن هذه العلوم والأمور الغيبية والهدايات الواردة في القرآن لا عهد لنا بها، وهذا سبب عجزنا عن معارضة القرآن. قالوا ذلك وهم لا يدرون أنّ هذا حجة عليهم لأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما هو إلا رجل منهم عاش بين أظهرهم ولم يزد في العلوم الاكتسابية عليهم بشيء. فأرخى القرآن الكريم لهم العنان وتنازل معهم في المحاورة إلى مجال يتوهمون إحراز قصب السبق فيه، ولم يطالبهم بشيء من حقائق الكون والتاريخ ومن قصص الأنبياء الغابرين وشأن الألوهية وكمالاتها وأمهات الأخلاق ومقومات الحضارات ورقيّ المجتمعات، وإنما عليهم أن يأتوا بمثل عشر سور من سور القرآن وليفتروا موضوعاتها كما يشاءون على أن تكون في فصاحة القرآن وبلاغته أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) [هود: 13 - 14].
فإن عجزتم مع آلهتكم ومع من تلوذون بهم في الشدائد فعليكم أن تعترفوا بالحقيقة وتستسلموا لمنزّل القرآن الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض، وآمنوا برسوله الذي أرسله إليكم وكفّوا عن الجهالات والضلالات المتوارثة التي ألجأتكم إلى أضعف المواقف وأضيق السبل، فإن ذلك لا يليق بعاقل يحترم نفسه وعقله.
وفي خاتمة المطاف رضي منهم بأقل من ذلك فاكتفى بسورة مثل أيّ سورة من سور القرآن الكريم، ولم يحدّد لهم نوعية السورة بل تركها لرغبتهم، فإن شاءوا من السور الطويلة كان بها، أو من السور القصيرة فلهم ذلك، وسواء جاءوا بها منفردين أو مجتمعين.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)[يونس: 38 - 39]. ولقطع دابر وساوس الشيطان ونزغات أهل الباطل المرجفين، ولكي لا يقال إن محمدا تحدّى أهل مكة، والأمية فاشية فيهم، ولا علم لهم بعلوم الأديان وبالأنبياء والكتب، ولو أنه تحدّى غيرهم لأمكنهم أن يأتوا بمثل قرآنه، كرّر في المرحلة المدنية وبين ظهراني أهل الكتاب وسجل العجز المطلق لكل المخلوقين إلى يوم القيامة. ولا زالت أصداء هذا التحدّي مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وستبقى أصداؤه في أذن الزمن على مر العصور ليبرهن على خلود الرسالة وصدق صاحبها:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)[البقرة: 23 - 24].
من هذا العرض الموجز لمراحل التحدّي نجد أن التحدّي استقر على تحديهم بأن يأتوا بمثل سورة من القرآن الكريم.
وبما أن السورة جاءت بلفظ نكرة (بسورة) فهي تشمل كل سورة في القرآن طويلة أو قصيرة، فيكون القدر المعجز من القرآن هو السورة من القرآن الكريم طويلة أو قصيرة. هذا هو رأي جمهور العلماء إلا أن بعضهم زاد على ذلك: أن مقدار السورة القصيرة وهي ثلاث آيات معجز أيضا.
ونقل عن بعض المعتزلة قولهم: إن الإعجاز يتعلق بجميع القرآن لا ببعضه. وهذا الرأي مصادم لآيات التحدّي التي تدرّجت في التحدّي بكل القرآن إلى التحدّي بعشر سور إلى التحدي بسورة واحدة.
وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإعجاز في القليل والكثير من القرآن دون تقييد بسورة. واستدلوا بظاهر قوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور: 34]. وقالوا المقصود بالحديث: أيّ كلام يفيد معنى سواء كان آية أو أكثر أو أقل.
ورأي الجمهور هنا هو الذي يظاهره ويؤيده ظاهر مراحل التحدّي فيه إلا أنّ لنا ملاحظة على القياس الذي زاده بعضهم وهو (مقدار السورة الواحدة) فالمقرر لدى الجمهور أنّ السورة جاءت منكّرة فشمل السور الطويلة والقصيرة. وأقصر سورة في القرآن الكريم مقدارها ثلاث آيات، فهل كل ثلاث آيات في السور الطوال- أو التي تزيد آياتها على ثلاث- هي معجزة بغضّ النظر عن ارتباط هذه الآيات ببعضها، أو وحدة موضوعها وهدفها؟.
إننا نجد كثيرا من الآيات المفردة في القرآن تزيد على كثير من السور القرآنية القصيرة، وإننا نلاحظ أن للسورة القرآنية شخصية وذاتية مستقلة تختلف من حيث الأداء والمقاطع والمفاصل عن غيرها من السور، وإن كانت متشابهة في الموضوع والهدف. ولعل هذا دفع بعض العلماء إلى تعريف السورة بقولهم: «السورة: قرآن يشتمل على آي، ذي فاتحة وخاتمة، وأقلّها ثلاث آيات) (1). وهذه الفاتحة والخاتمة ووحدة الشخصية واستقلالها لا نجدها في الآية الواحدة، أو حتى في الآيات المتعددة أحيانا.
وهذه الميزات بارزة في السور القصيرة أكثر من غيرها لو تدبّرناها لوجدنا أنها تضاهي الطوال رباطا ونظاما، فإن دقة العلاقة ولطافة الرباط في آيات القصار مثل ما هي في الطوال.
والسورة القصيرة قد تضمنت في الغالب أصول الدين ونبهت على أسس العقيدة، لذا نجد في بعض الآثار وصف بعضها بأنها تعدل ثلث القرآن أو نصفه أو ربعه وما ذلك
إلا لأن ألفاظها القليلة تضمنت حقائق ضخمة عامة. والحكمة في تضمّن هذه السور مثل هذه الأمور العظام- والله أعلم- هي أن أصول الدين وأسس العقيدة تشتدّ الحاجة إلى حضورها في القلوب وسيطرتها على الأفكار، فأودعت في كلمات مختصرة تامة لتكون
(1)«جمهرة البلاغة» لعبد الحميد الفراهي، ص 69.
كالأمثال السائرة الخفيفة على اللسان الغزيرة في الجنان، فلو عوّل في تعليمها على كلام طويل لضاعت في مطاويه، ولما تمكّنت الأذهان من استيعابه من بين جزئيّات الأحكام والهدايات الأخرى.
لذا نقول: يجب التفريق بين أمرين:
الأول: ما وقع به التحدي، فالتحدي لم يقع على أقل من سورة، والسورة تطلق على القصيرة والطويلة، والسورة بشخصيتها المستقلة هي المقصودة في آيات التحدي والإتيان بمثلها خارج عن طوق الإنس والجن وإن قصرت كسورة الكوثر.
الأمر الثاني: القدر الدال على كون القرآن كلام الله، أي معرفة مصدر القرآن وكونه وحيا منزلا من الله وهذا لا يتقيد فيه بمقدار معين، فقد يدرك ذلك من خلال سورة أو من خلال آية واحدة أو بعض آية أو كلمة واحدة، فورود بعض الكلمات في سياق الحقائق الكونية أو الحقائق العلمية في النفس الإنسانية يدل على أن ذلك لا يدخل في نطاق العلم البشري كما في قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) [المرسلات:
25، 26] وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46)[الفرقان: 45، 46]، وقوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6].
فهذه الحقائق لم تكن في مقدور أحد من البشر أن يحيط بها علما عند نزول القرآن الكريم، فدل ذلك على أن الذي يعلم السر في السماوات والأرض هو منزل القرآن الكريم وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) [الفرقان: 4 - 6].