الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لما يجد في نفسه من القوة وما يأمل من طول المدة فقال محتاطا وَأَصابَهُ الْكِبَرُ. ثم علم سبحانه وتعالى أنه إذا كان عقيما مع الكبر سلّاه عنها قرب المدة وعدم من يهتم بضياعه بعده فلا يشتدّ أسفه عليها، فقال عز وجل محتاطا أيضا: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ. ثم علم أنه إذا لم يصف الذرية بالضعف احتمل الإطلاق أن يكونوا أقوياء، فيترجى إخلافهم لها،
فيخفض ذلك من أسفه فقال محتاطا: ضُعَفاءُ. ثم لما فرغ من وصف الجنة أخذ في وصف الحادث المهلك لها بقوله عز وجل: فَأَصابَها إِعْصارٌ. وعلم تبارك اسمه أن الإعصار لا يعجل فساد هذه الجنة، ولا يحصل هلاكها به إلا بعد استمراره عليها في مدة طويلة، وهو يريد الإخبار بتعجيل هلاكها فقال: فِيهِ نارٌ. ثم اقتصر سبحانه وتعالى من الرياح على الإعصار لكونه عبارة عن تقابل الرياح المثيرة للعجاج الكثيف الذي يعمي دوامه عيون الماء، ويطم الآبار والأنهار، ويحرق بسمومه ورهجه الأشجار، وإذا اتفق مع ذلك أن تكون فيه نار أدارها على المكان الذي يكون فيه بحيث لا ينصرف عنه، لأنه لا يقصد وجهة مقابلة فينصرف ما يكون فيه إليها. ثم علم الله سبحانه وتعالى أن النار يحتمل أن تكون ضعيفة فتطفأ لضعفها عن مقاومة ما في الجنة من الأنهار، ورطوبة الأشجار، فاحتاط لذلك بقوله:
فَاحْتَرَقَتْ فنفى هذا الاحتمال، وأوجز تتميم المعنى المراد.
وهكذا نجد أن الآية الكريمة قد تضمنت من الدقائق واللطائف ما يبرز الغرض المقصود من سوق المثل وهو إبراز عظيم أسف صاحب الجنة وتحسره على ما فاته منها، في حالة كان بأمس الحاجة إلى نتاجها وخيراتها. وكذلك المرائي بصدقته الذي ينفقها رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فإنه سيفقد هذا الثواب في وقت هو بأمس الحاجة إلى ما يثقل ميزان حسناته.
3 - من الفنون البلاغية: التشبيه:
قال تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)[يونس: 24]. فإن في الآية عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة تقضّيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب وزين بزخرفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها وظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة، فكأنها لم تكن بالأمس (1).
يقول صبحي الصالح تعليقا على قول السيوطي:
وإنه ليعنينا أن نقف قليلا عند تشبيه الحياة الدنيا، فلقد أصاب السيوطي في استخلاص وجه الشبه، وتقسيمه هذا التركيب القرآني إلى عشر جمل، أما موضع الجمال الحقيقي في هذا المشهد- مشهد الحياة القصيرة التي يوشك أن تزول- فلم يتتبعه السيوطي في تنسيق الجمل العشر، والصور التي تطويها كل جملة منها في أوقات يتفاوت عرضها الخيالي طولا وقصرا.
لأن هذا التفاوت في العرض الخيالي تبعا لمراحل المشهد المصور لم تكن جزءا من التشبيه المركب، فما على السيوطي إلا أن يذكر المعنى العام للآية وقد وفق فيه وأجاد، وإن علينا نحن أن نشير إلى المراحل التي أبطأ فيها التصوير وتمهل، أو التي اندفع فيها وأسرع، حتى تم لهذا المشهد القرآني من الإعجاز بالألفاظ الجامدة ما لا يتم من الإبداع بالريشة والألوان.
لقد استخدمت في هذا المشهد الوسائل المقصرة لعرض مراحل النبات، فالفاء التعقيبية تطوي المسائل بسرعة عظيمة، ما كاد الماء ينزل من السماء حتى اختلط به نبات الأرض مباشرة، وأصبح فجأة في متناول الناس يأكلونه والأنعام تتمتع به، إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ
(1)«الإتقان» 2/ 70، و «مباحث في علوم القرآن» لصبحي الصالح ص 322.
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ (1). ولكن أهل هذه الأرض المتمتعين بنباتها البهيج يمتدّ بهم الغرور، ويلجّون في اللهو كأنهم يعيشون أبدا، وكأنهم يقدرون على إخلاد الأرض وإخلاد أنفسهم فيها، غارقين في متعها متقلبين في نعائمها، مسحورين بزخرفها، فاستخدمت (حتى) الدالة على امتداد الصور امتدادا يعرف أوله ويجهل منتهاه.
وتتابعت أوصاف الغرور الإنساني تترى، لكل وصف منها تعبير متمهّل متبطّئ، فأما الأرض فشخصت مرتين، وقامت بحركتين، إذ أخذت بنفسها زخرفها كما تفعل العروس في جلوتها، وتطلبت الزينة تطلبا وسعت إليها سعيا فلم تزين ولكنها ازينت. وأما أهل الأرض فانتفخت أوداجهم زهوّا واختيالا وصعّروا خدودهم عجبا وكبرا وأيقنوا- وإن كان يقينهم ظنا وخيالا- أنهم في الأرض على كل شيء قادرون، ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا. وهذه الآماد الطوال كلها ليست إلا ومضات خيالية تزول كما تزول الأطياف. ففي لحظة من ليل أو نهار يأتي تلك الأرض أمر الله فيطوي تلك الأخيلة الكواذب في وقت كلمح البصر بل هو أقرب، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس: 82].
وانظر ما من زخرف وما من زينة، ثم انظر فالناس المغرورون أعجز من أن يتصوروا ولو بالخيال ربوعهم ومغانيهم في تلك الأرض التي أصبح نباتها حصيدا هشيما تذروه الرياح حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)(2).
(1) في الاقتران بين الناس والأنعام في الأكل دليل على إقبالهم على هذا الخليط من غير تروّ وشعور وإدراك للعواقب، وإنما الدافع لهم هو الشهوة الحيوانية. وهو شأن أهل الدنيا.
(2)
«مباحث في علوم القرآن» لصبحي الصالح، ص 324.