المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة سماحة الشيخ إلىحجاج بيت الله الحرام - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ١٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ الختان:

- ‌الحلف بغير الله:

- ‌ حكم نكاح الشغار

- ‌كلمة سماحة الشيخ إلىحجاج بيت الله الحرام

- ‌ ضابط المثلة الممنوعة

- ‌ مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه

- ‌مجمل ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني

- ‌الأمانة العامة لهيئة كبار العلماءقرار رقم 62

- ‌التجانية

- ‌الموضوع الثانينبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه

- ‌حكم ورد التجانية

- ‌حكم الصلاة خلف الأئمة المبتدعين - كالتجانية

- ‌ ترك الصوم ثمانية أعوام

- ‌ توفي بعد شهر رمضان وقد صام نصفه

- ‌الحامل أو المرضع إذا خافت على نفسها أو على الولد في شهر رمضان

- ‌شخص صام شهر رمضان في فرنسا بناء على سماعه رؤية الهلال في إذاعة القاهرة

- ‌ منع الطبيب مريضا عن الصيام وهو قادر عليه

- ‌ أصيبت امرأة بمرض نفساني واضطراب أعصاب تركت على إثره الصوم أربع سنوات

- ‌ المسلم الذي أصبح مزمنا وذا فاقة ليس في إمكانه الصوم ولا في قدرته الإطعام

- ‌ اختلاف مطالع الأهلة

- ‌ أفطر وهو في الطائرة بتوقيت بلد ما وهو يعلم أن الشمس لم تغرب

- ‌ مسافر أفطر في سفره أيمسك عندما يصل إلى محل إقامته

- ‌ صوم النافلة لا يقضى ولو ترك اختيارا

- ‌ الطريقة التي يثبت بها كل شهر قمري

- ‌الحلقات الدينية التي يقدمها التلفزيون

- ‌السنة أن يضحي الرجل بواحدة عنه وعن أهل بيته

- ‌ صفات الأضحية شرعا

- ‌ إخراج ثمن الأضحية ودفعه للمجاهدين المسلمين

- ‌ حج من ترك طواف الوداع

- ‌ أحصر الإنسان عن الحج بعد ما أحرم بمرض أو غيره

- ‌ التوكيل في رمي الجمرات

- ‌ حج المصر على المعصية

- ‌ المبيت في مزدلفة

- ‌ لم يستطع طواف القدوم لأنه لم يصل إلى مكة إلا عصر يوم عرفة

- ‌كيف يستطيع الإعلام بوسائله المختلفة خدمة المسلمين

- ‌البدع طعن في الشريعة وقدح في كمالها

- ‌ من الأدلة النقلية الدالة على ذم البدع وفاعليها:

- ‌من الأدلة العقلية على ذم البدع وسوء منقلب أصحابها

- ‌تعريف البدع

- ‌تعريف البدعة في اللغة

- ‌البدعة في لسان الشارع:

- ‌العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:

- ‌اختلاف العلماء في الحد الشرعي للبدعة:

- ‌الموازنة بين هذين المسلكين:

- ‌ أقسام البدع:

- ‌ تارك الواجب أو المندوب أو المباح هل يعد مبتدعا

- ‌ درجات البدع من حيث هي كفر أو معصية

- ‌ تفاوت البدع من حيث هي كبيرة وصغيرة

- ‌ الفرق بين البدع والمعاصي:

- ‌ معاملة أهل البدع

- ‌ هل لأهل البدع من توبة

- ‌المبتدع يتعلق ببدعته ويعض عليها بالنواجذ

- ‌الخلاف في قبول توبة المبتدع

- ‌ أسباب انحراف المبتدعة

- ‌ سبب تسمية عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا العمل بدعة

- ‌ استحسان بعض البدع

- ‌ زيادة عثمان رضي الله عنه أذانا ثانيا يوم الجمعة:

- ‌أسانيد الكتاب وسماعاته:

- ‌نص الجزء من مسند بلال

- ‌[باب المسح على الخفين]

- ‌باب أفطر الحاجم والمحجوم:

- ‌باب الأذان

- ‌ تعريف الاجتهاد لغة وشرعا:

- ‌ أدلة الاجتهاد في الشريعة:

- ‌ وقت وجود الاجتهاد في هذه الأمة

- ‌ شروط الاجتهاد

- ‌ أنواع الاجتهاد:

- ‌ الخاتمة:

- ‌حكم بيع العينة

- ‌بعض المسائل المتفرعة عن مسألة العينة:

- ‌ مسألة التورق

- ‌الأكل من الطيبات:

- ‌أدلة تحريم الرشوة:

- ‌تعريف الرشوة:

- ‌حكم هدايا العمال والحكام وعامة الناس:

- ‌رفض الخلفاء الهدية خوفا من الشبهة:

- ‌أقوال العلماء في هدايا الحكام وغيرهم:

- ‌رد وتعقيب للإمام الشوكاني:

- ‌الرشوة لرفع ظلم:

- ‌حكم هدية غير الحكام والعمال:

- ‌خلاصة القول في المسألة:

- ‌محاسبة العمال:

- ‌مكافأة المحسن:

- ‌بيان مذهب أهل السنة: في الاستواء وسائر الصفات

- ‌ وجوب استعمال الماء عند القدرة عليه في الطهارتين وتحريم التيمم في هذه الحال

- ‌علم الحساب لا يعتمد عليه في إثبات الصوموالفطر والأحكام الشرعية

- ‌بيان ما يلزم المحدة على زوجها من الأحكام

الفصل: ‌كلمة سماحة الشيخ إلىحجاج بيت الله الحرام

‌كلمة سماحة الشيخ إلى

حجاج بيت الله الحرام

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها المسلمون من حجاج بيت الله الحرام:

أسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يرضيه والعافية من مضلات الفتن.

كما أسأله سبحانه أن يوفقكم جميعا لأداء مناسككم على الوجه الذي يرضيه. وأن يتقبل منكم وأن يردكم إلى بلادكم سالمين موفقين إنه خير مسئول. أيها المسلمون إن وصيتي للجميع هي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال والاستقامة على دينه والحذر من أسباب غضبه. وإن أهم الفرائض وأعظم الواجبات هو توحيد الله والإخلاص له في جميع العبادات، مع العناية باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأعمال. وأن تؤدى مناسك الحج وسائر العبادات على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله وخليله وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وإن أعظم المنكرات وأخطر الجرائم هو الشرك بالله سبحانه. وهو صرف العبادة أو بعضها لغيره سبحانه؛ لقول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1)

(1) سورة النساء الآية 48

ص: 29

وقوله سبحانه يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) حجاج بيت الله الحرام: إن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع وذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم. وقد علم الناس فيها مناسكهم بقوله وفعله. وقال لهم صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (2)» . فالواجب على المسلمين جميعا أن يتأسوا به في ذلك. وأن يؤدوا مناسكهم على الوجه الذي شرعه لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المعلم المرشد، وقد بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين، فأمر الله عباده بأن يطيعوه وأن يتبعوه وبين أن اتباعه هو سبب دخول الجنة والنجاة من النار، وأنه الدليل على صدق حب العبد لربه وعلى حب الله للعبد كما قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) وقال عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (5) وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (6).

(1) سورة الزمر الآية 65

(2)

صحيح مسلم في باب الحج، أبو داود في المناسك والنسائي في المناسك.

(3)

سورة الحشر الآية 7

(4)

سورة النور الآية 56

(5)

سورة النساء الآية 80

(6)

سورة الأحزاب الآية 21

ص: 30

وقال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1){وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.

فوصيتي لكم جميعا ولنفسي: تقوى الله في جميع الأحوال والصدق في متابعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله تفوزوا بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.

حجاج بيت الله الحرام: إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الثامن من ذي الحجة توجه من مكة إلى منى ملبيا وأمر أصحابه رضي الله عنهم أن يهلوا بالحج من منازلهم ويتوجهوا إلى منى، ولم يأمر بطواف الوداع فدل ذلك على أن السنة لمن أراد الحج من أهل مكة وغيرهم من المقيمين فيها، ومن المحلين من عمرتهم وغيرهم من الحجاج أن يتوجهوا إلى منى في اليوم الثامن ملبين بالحج، وليس عليهم أن يذهبوا إلى المسجد الحرام للطواف بالكعبة طواف الوداع.

ويستحب للمسلم عند إحرامه بالحج أن يفعل ما يفعله في الميقات عند الإحرام: من الغسل والطيب والتنظف كما «أمر النبي صلى الله عليه

(1) سورة النساء الآية 13

(2)

سورة النساء الآية 14

(3)

سورة الأعراف الآية 158

(4)

سورة آل عمران الآية 31

ص: 31

وسلم عائشة بذلك لما أرادت الإحرام بالحج وكانت قد أحرمت بالعمرة فأصابها الحيض عند دخول مكة، وتعذر عليها الطواف قبل خروجها إلى منى؛ فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتهل بالحج» ففعلت ذلك فصارت قارنة بين الحج والعمرة. وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرا من دون جمع، وهذا هو السنة تأسيا به صلى الله عليه وسلم. ويسن للحجاج في هذه الرحلة أن يشتغلوا بالتلبية، وبذكر الله عز وجل وقراءة القران وغير ذلك من وجوه الخير كالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الفقراء.

فلما طلعت الشمس يوم عرفة توجه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى عرفات منهم من يلبي، ومنهم من يكبر، فلما وصل عرفات نزل بقبة من شعر ضربت له هناك، واستظل بها عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على جواز استظلال الحجاج بالخيام والشجر ونحوها.

فلما زالت الشمس ركب دابته عليه الصلاة والسلام، وخطب الناس وذكرهم وعلمهم مناسك حجهم، وحذرهم من الربا وأعمال الجاهلية، وأخبرهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام. وأمرهم بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالواجب على جميع المسلمين من الحجاج وغيرهم أن يلتزموا بهذه الوصية، وأن يستقيموا عليها أينما كانوا، ويجب على حكام المسلمين

ص: 32

جميعا أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يحكموهما في جميع شئونهم وأن يلزموا شعوبهم بالتحاكم إليها، وذلك هو طريق العزة والكرامة والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. وفق الله الجميع لذلك.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الظهر والعصر قصرا وجمعا جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين ثم توجه إلى الموقف واستقبل القبلة ووقف على دابته يذكر الله ويدعوه، ويرفع يديه بالدعاء حتى غابت الشمس وكان مفطرا ذلك اليوم، فعلم بذلك أن المشروع للحجاج أن يفعلوا كفعله صلى الله عليه وسلم في عرفات وأن يشتغلوا بذكر الله والدعاء والتلبية إلى غروب الشمس وأن يرفعوا أيديهم بالدعاء وأن يكونوا مفطرين لا صائمين، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من يوم أكثر أن يعتق الله عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه سبحانه ليدنو فيباهي بهم ملائكته (1)» وروي عنه صلى الله عليه وسلم «أن الله يقول يوم عرفة لملائكته: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا يرجون رحمتي أشهدكم أني قد غفرت لهم (2)» . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف (3)» .

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغروب توجه ملبيا إلى مزدلفة وصلى بها المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين ثم

(1) رواه مسلم في باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة الباب 79 حديث رقم 1348 ترتيب عبد الباقي.

(2)

رواه أحمد بنحو هذا.

(3)

رواه مسلم في كتاب الحج جـ 8 س 195 مسلم بشرح النووي ط / دار الفكر.

ص: 33

بات بها وصلى بها الفجر مع سنتها بأذان وإقامة، ثم أتى المشعر فذكر الله عنده وكبره وهلله ودعا ورفع يديه وقال:«وقفت هاهنا وجمع كلها موقف (1)» .

فدل ذلك على أن جميع مزدلفة موقف للحجاج يبيت كل حاج في مكانه ويذكر الله ويستغفره في مكانه، ولا حاجة إلى أن يتوجه إلى موقف النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة للضعفة أن ينصرفوا إلى منى بليل. فدل ذلك على أنه لا حرج على الضعفة من النساء والمرضى والشيوخ ومن تبعهم في التوجه من مزدلفة إلى منى في النصف الأخير من الليل عملا بالرخصة وحذرا من مشقة الزحمة. ويجوز لهم أن يرموا الجمرة ليلا كما ثبت ذلك عن أم سلمة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها.

وذكرت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للنساء بذلك ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعدما أسفر جدا دفع إلى منى ملبيا، فقصد جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم نحر هديه ثم حلق رأسه ثم طيبته عائشة رضي الله عنها ثم توجه إلى البيت فطاف به (2)» .

وسئل صلى الله عليه وسلم في يوم النحر عمن ذبح قبل أن يرمي، ومن حلق قبل أن يذبح، ومن أفاض إلى البيت قبل أن يرمي، فقال: لا حرج.

قال الراوي: فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج. وسأله رجل فقال: «يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف

(1) رواه مسلم في كتاب الحج ج8 ص 195.

(2)

صحيح البخاري الحج (1750)، صحيح مسلم الحج (1296)، سنن الترمذي الحج (901)، سنن النسائي مناسك الحج (3073)، سنن أبو داود المناسك (1974)، سنن ابن ماجه المناسك (3030)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 427).

ص: 34

فقال: لا حرج (1)». فعلم بهذا أن السنة للحجاج أن يبدءوا برمي الجمرة يوم العيد ثم ينحروا إذا كان عليهم هدي، ثم يحلقوا أو يقصروا. والحلق أفضل من التقصير فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة والرحمة ثلاث مرات للمحلقين، ومرة واحدة للمقصرين. وبذلك يحصل للحاج التحلل الأول فيلبس المخيط، ويتطيب، ويباح له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ثم يذهب إلى البيت فيطوف به في يوم العيد أو بعده. والسعي بين الصفاء والمروة إن كان متمتعا.

وبذلك يحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام حتى النساء.

أما إن كان الحاج مفردا أو قارنا فإنه يكفيه السعي الأول الذي أتى به مع طواف القدوم.

فإن لم يسع مع طواف القدوم وجب عليه أن يسعى مع طواف الإفاضة.

ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فأقام بها بقية يوم العيد واليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، يرمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال، يرمى كل جمرة بسبع حصيات، ويكبر مع كل حصاة ويدعو ويرفع يديه بعد الفراغ من

الجمرة الأولى والثانية ويجعل الأولى عن يساره حين الدعاء، والثانية عن يمينه ولا يقف عند الثالثة.

ثم دفع صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمرات فنزل بالأبطح وصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

(1) سنن أبو داود المناسك (2015).

ص: 35

ثم نزل إلى مكة في آخر الليل وصلى الفجر بالناس عليه الصلاة والسلام، وطاف للوداع ثم توجه بعد الصلاة إلى المدينة في صبيحة اليوم الرابع عشر عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.

فعلم من ذلك أن السنة للحاج أن يفعل كفعله صلى الله عليه وسلم في أيام منى فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في كل يوم: كل واحدة بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة، ويشرع له أن يقف بعد رميه الأولى ويستقبل القبلة ويدعو ويرفع يديه ويجعلها عن يساره ويقف بعد رمي الثانية كذلك ويجعلها عن يمينه وهذا مستحب وليس بواجب، ولا يقف بعد رمي الثالثة.

فإن لم يتيسر له الرمي بعد الزوال وقبل غروب الشمس رمى في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل في أصح قولي العلماء رحمة من الله سبحانه بعباده وتوسعة عليهم.

ومن شاء أن يتعجل في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا بأس ومن أحب أن يتأخر حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فهو أفضل لكونه موافقا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

والسنة للحاج أن يبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر وهذا المبيت واجب عند كثير من أهل العلم ويكفي أكثر الليل إذا تيسر ذلك وممن كان له عذر شرعي كالسقاة والرعاة ونحوهم فلا مبيت عليه.

أما ليلة الثالث عشر فلا يجب على الحاج أن يبيتوها بمنى إذا تعجلوا ونفروا من منى قبل الغروب. أما من أدركه المبيت بمنى فإنه يبيت ليلة الثالث عشر ويرمي الجمار بعد الزوال يوم الثالث عشر ثم ينفر، وليس على أحد رمي بعد الثالث عشر ولو أقام بمنى.

ص: 36

ومتى أراد الحاج السفر إلى بلاده وجب عليه أن يطوف بالبيت للوداع سبعة أشواط لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1)» إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)(2) ومن أخر طواف الإفاضة فطافه عند السفر أجزأه عن الوداع لعموم الحديثين المذكورين. . وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتقبل منا ومنكم ويجعلنا وإياكم من العتقاء من النار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الرئيس العام

لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

(1) رواه مسلم في الحج (باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض) جـ 9 ص 78/ 8

(2)

رواه مسلم في الحج (باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض) ج 1 ص 79/ 8

ص: 37

صفحة فارغة

ص: 38

نزع القرنية من عين إنسان

وزرعها في عين آخر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:

فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض في الأيام الأخيرة من شهر ربيع الأول، والأولى من شهر ربيع الآخر عام 1397هـ من دراسة البحث المعد في نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر في الدورة الحادية عشرة وطلبه كلمة في ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا، وأخرى في ضابط المثلة الممنوعة شرعا، وثالثة في مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه، تتميما للبحث كتبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المسائل الثلاث ما يلي:

والله الموفق

ص: 39

ا- ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا

لما كان تمييز الإيثار المحمود شرعا من غيره يتوقف على تتبع النصوص التي وردت فيه من الكتاب والسنة وتدبرها مع الاستعانة بكلام العلماء السابقين في ذلك، كان لزاما علينا أن نستعرض جملة من الآيات والأحاديث في الإيثار، وجملة أخرى من كلام أهل العلم فيه، ثم نستخلص من ذلك المطلوب إن شاء الله فنقول:

قال الله تعالى: (في سورة الحشر){وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) فأثنى جل شأنه على الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل غيرهم من المهاجرين، بحبهم من هاجر إليهم من المؤمنين، وبطهارة قلوبهم من الأحقاد وسلامتها من الضغائن، وبطيب أنفسهم وكرمها وسماحتها حيث لم يجدوا في دخيلتهم حرجا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره من الأموال، وبإيثارهم المهاجرين على أنفسهم بما شرحته أحاديث الإخاء الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، بهذا وأمثاله أثنى الله عليهم وكتب لهم الفوز والفلاح.

وقال البخاري: (2) باب قوله ويؤثرون على أنفسهم الآية

(1) سورة الحشر الآية 9

(2)

صحيح البخاري كتاب التفسير.

ص: 40

الخصاصة؛ فاقة، المفلحون: الفائزون بالخلود، والفلاح: البقاء، حي على الفلاح: عجل، وقال الحسن حاجة: حسدا. حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فضيل بن غزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يضيفه الليلة يرحمه الله. فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة فأنزل الله عز وجل (2)» .

وقال البخاري أيضا: باب قول الله عز وجل {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (3) حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه، «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن ما معنا إلا الماء فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيات طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح

(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4889)، صحيح مسلم الأشربة (2054)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3304).

(2)

سورة الحشر الآية 9 (1){وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}

(3)

سورة الحشر الآية 9

ص: 41

غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما، فأنزل الله (2)».

ففي قصة هذا الأنصاري وأسرته مع الضيف إيثار له بالطعام على نفسه وعلى أسرته مع شدة حاجتهم إليه، لكنه إيثار لا يقضي على أحد منهم، ولا يفوت عليه عضوا من أعضائه، بل يمكنهم استدراك ما فاتهم في مستقبل أمرهم إن شاء الله. وقد أثنى الله عليهم بذلك ثناء عاطرا، وكتب لهم الأجر الجزيل جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم من الفعل الجميل.

وقال البخاري: باب إجابة دعاء من بر والديه: (3) حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، قال: أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن

ص: 42

كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء (1)». . . . الحديث.

وقال البخاري عن عائشة رضي الله عنها (2) قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته، فقال:«من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار (3)» .

في الحديث الأول من هذين الحديثين إيثار الرجل والديه بالطعام على نفسه وسائر أسرته مع شدة حاجتهم إليه، وقد رضي الله عنه بذلك فاستجاب دعاءه حينما أصابته وصاحبيه شدة.

وفي الحديث الثاني إيثار المرأة ابنتيها على نفسها بالتمرة مع حاجتها إليها، وقد أعجب النبي صلى الله عليه وسلم منها ما فعلت، وأخبر بأن مثل ذلك يكون وقاية لمن فعل ابتغاء وجه الله من النار. وإيثار عائشة رضي الله عنها المرأة وابنتيها على نفسها ومن معها بالتمرة وليس عندها غيرها.

وقال البخاري: (4) باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: «لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان

(1) صحيح البخاري الأدب (5974)، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2743)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 116).

(2)

كتاب الزكاة.

(3)

صحيح البخاري الزكاة (1418)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2629)، سنن الترمذي البر والصلة (1915)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 88).

(4)

ص 112 ج7.

ص: 43

فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقك؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ثم تابع الغدو ثم جاء يوما وبه أثر صفرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم مهيم؟ قال تزوجت قال: كم سقت إليها قال نواة من ذهب أو وزن نواة (1)» شك إبراهيم. حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا سأقسم مالي بيني وبينك شطرين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئا من سمن وأقط فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضر من صفرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مهيم؟ قال: تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: ما سقت إليها. قال: وزن نواة من ذهب أو نواة من ذهب فقال: أولم ولو بشاة (2)» .

في قصة الإخاء بين المهاجرين والأنصار إيثار سعد بن الربيع عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وبإحدى زوجتيه فقد أمره أن يقسم ماله بينهما وأمره أن ينظر إلى أعجب زوجتيه إليه ليطلقها فيتزوجها عبد الرحمن بعد انتهاء عدتها، وهذا الإيثار أعلى مما قبله، لكنه بما ينفع غيره ولا يضر بمن بذله ضررا فادحا، ومع ذلك يمكنه استدراك ما فاته.

وقال البخاري: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن إسماعيل عن قيس قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله

(1) صحيح البخاري المناقب (3780).

(2)

صحيح البخاري المناقب (3781)، صحيح مسلم النكاح (1427)، سنن الترمذي البر والصلة (1933)، سنن النسائي النكاح (3388)، سنن أبو داود النكاح (2109)، سنن ابن ماجه النكاح (1907)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 205)، موطأ مالك النكاح (1157)، سنن الدارمي النكاح (2204).

ص: 44

عليه وسلم يوم أحد. حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وأنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة إما مرتين أو ثلاثا (1).

في هذا الحديث إيثار أبي طلحة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بالحياة والسلامة من المكاره؛ فقد فداه بنفسه فقال: نحري دون نحرك، وجوب عليه بحجفة له، وهذا إيثار أعلى مما قبله إيثار بالنفس، وذلك في ميدان الجهاد وقد أوجبه الله على المؤمنين، وكتب لمن قتل فيه الشهادة، ولمن أصيب فيه الأجر الجزيل. ثم هو إيثار واجب بالنفس والأعضاء لمن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وفيه أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقاه بيده حتى أصيبت بشلل.

وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما

(1) ص 253 ـ 254 ج7.

ص: 45

رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فقال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا (1)».

وروى البخاري عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بين أبويه كليهما يريد حين قال: فداك أبي وأمي وهو يقاتل (2)» .

وروى البخاري أيضا عن علي رضي الله عنه قال: «ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك فإني سمعته يقول يوم أحد: يا سعد ارم فداك أبي وأمي (3)» . وقاتل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب وآخرون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم حتى قضى بعضهم نحبه.

وفي الموضوع أحاديث وآثار اكتفينا عن إيرادها بما ذكرنا؛ لكونها في معناه.

مما تقدم يتبين أن الإيثار المحمود شرعا يمكن أن يضبط بما أباح الشرع البذل في جنسه (4) كالأموال ومنافع الأبدان وثمار الأفكار ونحو ذلك مما هو من حظوظ النفس ومتعها، أو أوجب بذل النفس فيه كالجهاد في سبيل الله نصرة للدين وإقامة لحدوده وإحياء لمعالمه، ومع ذلك لا يسلم نفسه لعدوه، ولا يستسلم للأحداث، بل يستعد بما استطاع من قوة ليحفظ نفسه وإخوانه، وليكون سيف الله المسلول على

(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1789)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 286).

(2)

صحيح البخاري المغازي (4057)، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2412)، سنن الترمذي الأدب (2830)، سنن ابن ماجه المقدمة (130)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 186).

(3)

صحيح البخاري المغازي (4059)، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2411)، سنن الترمذي الأدب (2829)، سنن ابن ماجه المقدمة (129)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 92).

(4)

أو حث عليه ورغب فيه.

ص: 46

الأعداء، فإن قتل كان شهيدا، وإن رجع منتصرا سالما أو مصابا أجر وغنم، فله الحسنيان أو إحداهما على كل حال.

أما الإيثار بما حرم الله عليه البذل في جنسه فلا يجوز، بل هو جريمة يعاقب عليها.

وقال ابن القيم: قال صاحب المنازل: (1).

فصل: ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) منزلة الإيثار، قال الله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) فالإيثار ضد الشح؛ فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح عليه وبخل بإخراجه، فالبخل ثمرة الشح والشح يأمر بالبخل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا (4)» .

فالبخيل من أجاب داعي الشح، والمؤثر من أجاب داعي الجود. كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء، وهو أفضل من سخاء البذل، قال عبد الله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس خير من سخاء النفس بالبذل.

وهذا المنزل هو منزل الجود والسخاء والإحسان.

وسمي بمنزل " الإيثار " لأنه أعلى مراتبه؛ فإن المراتب ثلاثة.

(1) ص 291 ـ 304 ج2 من مدارج السالكين على منازل السائرين.

(2)

سورة الفاتحة الآية 5

(3)

سورة الحشر الآية 9

(4)

سنن أبو داود الزكاة (1698).

ص: 47

إحداها: أن لا ينغصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة " السخاء ".

الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقى له شيء. أو يبقي مثل ما أعطى. فهو الجود ".

الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهو مرتبة " الإيثار " وعكسها " الأثرة " وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه. وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: «لا إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض (1)» والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفا.

وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين. حتى أنه مرض مرة فاستبطأ إخوانه في العيادة. فسأل عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل. فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده.

وقالوا له يوما: هل رأيت أسخى منك؟ قال: نعم: نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها. فقالت إنه نزل بك ضيفان. فجاء بناقة فنحرها وقال شأنكم، فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها. فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير. فقال إني لا أطعم ضيفاني

(1) صحيح البخاري المغازي (4330)، صحيح مسلم الزكاة (1061)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 42).

(2)

سورة الحشر الآية 9

ص: 48

البائت. فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر. وهو يفعل ذلك. فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة اعتذري لنا إليه، ومضينا. فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا. قفوا أيها الركب اللئام. أعطيتموني ثمن قراي؟ ثم إنه لحقنا وقال لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي، فأخذناه وانصرف.

فتأمل سر التقدير حيث قدر الحكيم الخبير، سبحانه، استئثار الناس على الأنصار بالدنيا- وهم أهل الإيثار- ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس. فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك- مع كونك من أهل الإيثار- فاعلم أنه الخير يراد بك والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 49

فصل

و" الجود " عشر مراتب.

أحدها: الجود بالنفس. وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:

يجود بالنفس ، إذ ضن البخيل بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

"

فأطلق فيه ولم يفصل، ثم ذكر بقية مراتب الجود ثم قال:

قال: " وهو على ثلاث درجات. الدرجة الأولى: أن تؤثر الخلق

ص: 49

على نفسك فيما لا يخرم عليك دينا، ولا يقطع عليك طريقا، ولا يفسد عليك وقتا.

يعني: أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم. مثل أن تطعمهم وتجوع وتكسوهم وتعرى وتسقيهم وتظمأ بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين. مثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلا مضطرا مستشرفا للناس أو سائلا. وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه فإنه سفه وعجز يذم المؤثر به عند الله وعند الناس.

وأما قوله " ولا يقطع عليك طريقا " أي لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله. فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار. فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق. وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عين الغبن. وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره. وما أقل المؤثرين الله على غيره.

وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا. مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه. أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله. فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره فهذا أيضا إيثار غير محمود.

وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع واشتغال القلب بالله. ونظائر ذلك تخفى. بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم.

ص: 50

وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله، فلا تؤثر به أحدا. فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم.

وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأي جهالة وسفه فوق هذا.

ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب وقالوا: إنه مكروه أو حرام كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ويرفعه إليه فيفوز به دونه.

وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها.

وأجابوا عنه بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه. فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت إذ لا تقرب في حق الميت. وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها، فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر والله أعلم. أهـ- المقصود منه ثم ذكر الدرجتين الأخيرتين وقد تركناهما لعدم الحاجة إليهما في الموضوع.

وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (1) تحت عنوان

" المسألة الخامسة "

جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه بثمانية أقسام، نذكر منها الرابع لصلته بالإيثار في الجملة، قال:

(1) ص 255 - 263 من جـ2 من الموافقات.

ص: 51

وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين: نظر من جهة إثبات الحظوظ، ونظر من جهة إسقاطها، فإن اعتبرنا الحظوظ فإن حق الجالب أو الدافع مقدم وإن استضر غيره بذلك؛ لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه، وذلك لا يلزمه بل قد يتعين عليه حق نفسه في الضروريات فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه؛ لأنه من حقه على بينة ومن حق غيره على ظن أو شك، وذلك في دفع الضرر واضح، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به، وقد سئل الداودي: هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل قال: نعم ولا يحل له إلا ذلك. قيل له: فإن وضعه السلطان على أهل بلده وأخذهم بمال معلوم يردونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم؟ قال: ذلك له) إلى أن قال:

هذا كله مع اعتبار الحظوظ وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان:

أحدهما: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء، وهو محمود جدا وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل

ص: 52

طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم (1)» وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه. وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا وإنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك واحد منهم، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم، فقال عليه الصلاة والسلام:«فهم مني وأنا منهم (2)» لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته، وفي مسلم عن أبي سعيد قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له (3)» قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل " وفي الحديث أيضا أن في المال حقا سوى الزكاة ومشروعية الزكاة والإقراض والحرية والمنحة، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق وهو لا يقضي استبدادا، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع أو أقل، ولا يكون موقعا على نفسه ضررا ناجزا، وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره، وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام:«المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا (4)» وقوله «المؤمنون كالجسد الواحد إذا

(1) صحيح البخاري الشركة (2486)، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2500).

(2)

صحيح البخاري الشركة (2486)، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2500).

(3)

صحيح مسلم اللقطة (1728)، سنن أبو داود الزكاة (1663)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 34).

(4)

صحيح البخاري الصلاة (481)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585)، سنن الترمذي البر والصلة (1928)، سنن النسائي الزكاة (2560)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 405).

ص: 53

اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1)» وقوله: «المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه (2)» وسائر ما في المعنى من الأحاديث، إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى وأسبابه وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص، فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل لخرج عن اعتداله، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة وترك الفرقة وهو كثير إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها.

والوجه الثاني: الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ، وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين وإصابة لعين التوكل وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله، وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلقه المرضي، وقد «كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة (3)» . وقالت له خديجة: «إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق (4)» «وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه» «وجاءه رجل فسأله فقال: ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه، فقال له عمر رضي الله عنه: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم

(1) صحيح البخاري الأدب (6011)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 270).

(2)

صحيح البخاري الإيمان (13)، صحيح مسلم الإيمان (45)، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016)، سنن ابن ماجه المقدمة (66)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 272)، سنن الدارمي الرقاق (2740).

(3)

صحيح البخاري المناقب (3554)، صحيح مسلم الفضائل (2308)، سنن النسائي الصيام (2095)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 363).

(4)

صحيح البخاري بدء الوحي (4)، صحيح مسلم الإيمان (160)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 233).

ص: 54

وعرف البشر في وجهه وقال: بهذا أموت» ذكره الترمذي. وقال أنس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد (1)» وهذا كثير. وهكذا كان الصحابة. وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (2) وما جاء في الصحيح في قوله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (3) وما روي عن عائشة وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العول على إسقاط الحظوظ وهو ضربان: إيثار بالملك من المال وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح، وإيثار بالنفس كما في الصحيح:«أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت (4)» وهو معلوم من فعله عليه الصلاة والسلام إذ كان في غزوة أقرب الناس إلى العدو، ولقد «فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول لن تراعوا (5)» وهذا فعل من آثر بنفسه، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عزم الكفار على قتله مشهور وفي المثل الشائع: والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (6)

(1) سنن الترمذي الزهد (2362).

(2)

سورة الإنسان الآية 8

(3)

سورة الحشر الآية 9

(4)

صحيح البخاري المناقب (3811)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1811).

(5)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2908)، صحيح مسلم الفضائل (2307)، سنن الترمذي الجهاد (1687)، سنن أبو داود الأدب (4988)، سنن ابن ماجه الجهاد (2772)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 147).

(6)

سورة يوسف الآية 51

ص: 55

فآثرته بالبراءة على نفسها. قال النووي: أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس بخلاف القربات فإن الحق فيها لله، وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام، وقد ورد «أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ومن عمر النصف، ورد أبا لبابة وكعب بن مالك إلى الثلث» ، قال ابن العربي: لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر وهذا ما قال.

وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي، فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا. أما أنه ليس بمحمود شرعا فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر وإما لأمر آخر أو لغير شيء. فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي؛ لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر، إذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له، فثبت أنه لأمر ثالث وهو الحظ، وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ. هذا تمام الكلام في القسم الرابع ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ. انتهى المقصود منه.

ص: 56