المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم بيع العينة - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ١٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ الختان:

- ‌الحلف بغير الله:

- ‌ حكم نكاح الشغار

- ‌كلمة سماحة الشيخ إلىحجاج بيت الله الحرام

- ‌ ضابط المثلة الممنوعة

- ‌ مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه

- ‌مجمل ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني

- ‌الأمانة العامة لهيئة كبار العلماءقرار رقم 62

- ‌التجانية

- ‌الموضوع الثانينبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه

- ‌حكم ورد التجانية

- ‌حكم الصلاة خلف الأئمة المبتدعين - كالتجانية

- ‌ ترك الصوم ثمانية أعوام

- ‌ توفي بعد شهر رمضان وقد صام نصفه

- ‌الحامل أو المرضع إذا خافت على نفسها أو على الولد في شهر رمضان

- ‌شخص صام شهر رمضان في فرنسا بناء على سماعه رؤية الهلال في إذاعة القاهرة

- ‌ منع الطبيب مريضا عن الصيام وهو قادر عليه

- ‌ أصيبت امرأة بمرض نفساني واضطراب أعصاب تركت على إثره الصوم أربع سنوات

- ‌ المسلم الذي أصبح مزمنا وذا فاقة ليس في إمكانه الصوم ولا في قدرته الإطعام

- ‌ اختلاف مطالع الأهلة

- ‌ أفطر وهو في الطائرة بتوقيت بلد ما وهو يعلم أن الشمس لم تغرب

- ‌ مسافر أفطر في سفره أيمسك عندما يصل إلى محل إقامته

- ‌ صوم النافلة لا يقضى ولو ترك اختيارا

- ‌ الطريقة التي يثبت بها كل شهر قمري

- ‌الحلقات الدينية التي يقدمها التلفزيون

- ‌السنة أن يضحي الرجل بواحدة عنه وعن أهل بيته

- ‌ صفات الأضحية شرعا

- ‌ إخراج ثمن الأضحية ودفعه للمجاهدين المسلمين

- ‌ حج من ترك طواف الوداع

- ‌ أحصر الإنسان عن الحج بعد ما أحرم بمرض أو غيره

- ‌ التوكيل في رمي الجمرات

- ‌ حج المصر على المعصية

- ‌ المبيت في مزدلفة

- ‌ لم يستطع طواف القدوم لأنه لم يصل إلى مكة إلا عصر يوم عرفة

- ‌كيف يستطيع الإعلام بوسائله المختلفة خدمة المسلمين

- ‌البدع طعن في الشريعة وقدح في كمالها

- ‌ من الأدلة النقلية الدالة على ذم البدع وفاعليها:

- ‌من الأدلة العقلية على ذم البدع وسوء منقلب أصحابها

- ‌تعريف البدع

- ‌تعريف البدعة في اللغة

- ‌البدعة في لسان الشارع:

- ‌العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:

- ‌اختلاف العلماء في الحد الشرعي للبدعة:

- ‌الموازنة بين هذين المسلكين:

- ‌ أقسام البدع:

- ‌ تارك الواجب أو المندوب أو المباح هل يعد مبتدعا

- ‌ درجات البدع من حيث هي كفر أو معصية

- ‌ تفاوت البدع من حيث هي كبيرة وصغيرة

- ‌ الفرق بين البدع والمعاصي:

- ‌ معاملة أهل البدع

- ‌ هل لأهل البدع من توبة

- ‌المبتدع يتعلق ببدعته ويعض عليها بالنواجذ

- ‌الخلاف في قبول توبة المبتدع

- ‌ أسباب انحراف المبتدعة

- ‌ سبب تسمية عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا العمل بدعة

- ‌ استحسان بعض البدع

- ‌ زيادة عثمان رضي الله عنه أذانا ثانيا يوم الجمعة:

- ‌أسانيد الكتاب وسماعاته:

- ‌نص الجزء من مسند بلال

- ‌[باب المسح على الخفين]

- ‌باب أفطر الحاجم والمحجوم:

- ‌باب الأذان

- ‌ تعريف الاجتهاد لغة وشرعا:

- ‌ أدلة الاجتهاد في الشريعة:

- ‌ وقت وجود الاجتهاد في هذه الأمة

- ‌ شروط الاجتهاد

- ‌ أنواع الاجتهاد:

- ‌ الخاتمة:

- ‌حكم بيع العينة

- ‌بعض المسائل المتفرعة عن مسألة العينة:

- ‌ مسألة التورق

- ‌الأكل من الطيبات:

- ‌أدلة تحريم الرشوة:

- ‌تعريف الرشوة:

- ‌حكم هدايا العمال والحكام وعامة الناس:

- ‌رفض الخلفاء الهدية خوفا من الشبهة:

- ‌أقوال العلماء في هدايا الحكام وغيرهم:

- ‌رد وتعقيب للإمام الشوكاني:

- ‌الرشوة لرفع ظلم:

- ‌حكم هدية غير الحكام والعمال:

- ‌خلاصة القول في المسألة:

- ‌محاسبة العمال:

- ‌مكافأة المحسن:

- ‌بيان مذهب أهل السنة: في الاستواء وسائر الصفات

- ‌ وجوب استعمال الماء عند القدرة عليه في الطهارتين وتحريم التيمم في هذه الحال

- ‌علم الحساب لا يعتمد عليه في إثبات الصوموالفطر والأحكام الشرعية

- ‌بيان ما يلزم المحدة على زوجها من الأحكام

الفصل: ‌حكم بيع العينة

‌حكم بيع العينة

اختلف الفقهاء في حكم بيع العينة على النحو الآتي: -

(1)

قال الشافعي رحمه الله تعالى: -

من باع سلعة من السلع إلى أجل وقبضها المشتري فلا بأس أن يبيعها من الذي اشتراها منه بأقل من الثمن أو أكثر أو دين أو نقد لأنها بيعة غير البيعة الأولى (1). وقد نصر هذا القول ابن حزم في المحلى.

(2)

وقال جمهور الفقهاء من الحنفية (2). والمالكية (3). والحنابلة (4). إن بيع العينة محرم لا يجوز وقد روي هذا عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وأبي الزناد وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والأوزاعي وإسحاق (5). قال محمد بن الحسن:

(1) تكملة المجموع جـ10 ص124 وانظر مختصر المزني مع الأم جـ2 ص201.

(2)

حاشية ابن عابدين جـ5 ص226.

(3)

بداية المجتهد ص142 ومقدمات ابن رشد جـ2 ص535.

(4)

المغني جـ4 ص193.

(5)

المرجع السابق.

ص: 265

هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا. ا / هـ (1).

استدل الشافعي على جواز بيع العينة بما يأتي: -

أ- ما روى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «استعمل رجلا (3). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل بع الجمع. بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا» متفق عليه واللفظ للبخاري.

وجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: بع التمر الرديء بالدراهم واشتر بها تمرا جيدا بدون أن يفصل بين أن يشتري التمر الجيد من المشتري الأول أو من غيره، فدل ذلك على جواز بيع العينة لعدم التفصيل في موضع البيان

قال النووي: واحتج بهذا الحديث أصحابنا وموافقوهم في أن

(1) حاشية ابن عابدين جـ5 ص326.

(2)

صحيح البخاري المغازي (4247)، صحيح مسلم المساقاة (1593)، سنن النسائي البيوع (4553)، موطأ مالك البيوع (1315)، سنن الدارمي البيوع (2577).

(3)

(2). على خيبر فجاءه بتمر جنيب الجنيب: نوع جيد من التمر.

ص: 266

مسألة العينة ليست بحرام وهي الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلا إلى مقصود الربا بأن يريد أن يعطيه مائة درهم بمائتي فيبيعه ثوبا بمائتين ثم يشتريه منه بمائة وموضع الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري أو من غيره فدل على أنه لا فرق، وهذا كله ليس بحرام عند الشافعي وآخرين ا / هـ (1).

ونوقش هذا الاستدلال بأن الحديث في غير محل الدعوى فلا يصلح دليلا، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بين له فساد هذا البيع الذي فعله وهو أن يشتري الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة لعلة الربا. أما هل يشتري من المشتري الأول فهذا لم يبينه صلى الله عليه وسلم، ولو اشترى من المشتري الأول طعاما جيدا بسعر معروف فماذا يحصل إذ المنهي عنه أن يشتري عين ماله أما غيره فلا بأس

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: واستدل بالحديث على جواز بيع العينة وهو أن يبيع السلعة من رجل بنقد ثم يشتريها منه بأقل من الثمن لأنه لم يخص بقوله: " ثم اشتر بالدراهم جنيبا " غير الذي باع له الجمع. وتعقب بأنه مطلق والمطلق لا يشمل ولكن يشيع فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باعه تلك السلعة بعينها، وقيل إن وجه الاستدلال به لذلك من جهة ترك الاستفصال ولا يخفى ما فيه. ا / هـ (2).

ب- ما روى الدارقطني والبيهقي عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته

(1) شرح صحيح مسلم للنووي جـ11ص21.

(2)

فتح الباري جـ4 ص401.

ص: 267

أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى فقالت أم ولد زيد بن أرقم يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته بستمائة درهم نقدا فقالت لها عائشة بئسما اشتريت وبسئما شريت، إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل إلا أن يتوب " رواه الدارقطني والبيهقي واللفظ للدارقطني.

وجه الدلالة منه: أن هذا البيع لو كان غير صحيح لما أقدم عليه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنكار عائشة مجمل فهو على تقدير ثبوته يحتمل أن تكون عائشة عابت البيع إلى العطاء ولأنه أجل غير معلوم. وزيد صحابي وإذا اختلفوا ذهبنا إلى القياس وهو مع زيد، ونحن لا نثبت مثل هذا على عائشة

وإذا كانت هذه السلعة لي كسائر مالي لم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري (1).

ونوقش هذا الاستدلال بما يأتي: -

أولا: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تنكر هذا البيع إلا وعندها الدليل القاطع على تحريمه. إذ لو لم تكن متأكدة من الحكم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة وأن استحلال الربا كفر وهذا منه. ولكن زيدا معذور لأنه لم يعلم أن هذا محرم، ولهذا قالت في بعض الروايات:" أبلغيه " ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم

(1) مختصر المزني مع كتاب الأم للشافعي جـ2 ص201.

ص: 268

إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا، ولو كان مقصودها إنكار البيع إلى العطاء لم تستنكره هذا الاستنكار، ولما جعلته محبطا للعمل، لأن الجاهل بمثل هذه الأحكام يعلم، وغاية ذلك أن يبين الأجل أو يفسد البيع لا أن يكون ذلك محبطا للعمل. وقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم من اشترى فضة بنقد ونسيئة أن ما كان يدا بيد فخذوه وما كان بنسيئة فردوه (1). ولم يجعل ذلك محبطا للعمل.

ثانيا: قولهم إن زيدا من الصحابة وقد خالفها. هذا غير وارد لأن زيدا لم يقل هذا حلال، بل فعله، وفعل المجتهد لا يدل على قوله على الصحيح لاحتمال سهو أو غفلة أو تأويل أو رجوع ونحوه. وكثيرا ما يفعل الرجل الشيء ولا يعلم مفسدته فإذا نبه له انتبه ولا سيما أم ولده فإنها دخلت على عائشة تستعتبها وطلبت الرجوع إلى رأس مالها، وهذا يدل على الرجوع عن ذلك العقد. ولم ينقل عن زيد أنه أصر على ذلك (2).

ثالثا: إن عائشة رضي الله عنها قد أنكرت على زيد هذا الفعل، ولو كان البيع جائزا لما أنكرته أم المؤمنين على وجه التغليظ والتشديد.

قال الشوكاني: تصريح عائشة بأن مثل هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنها قد علمت تحريم ذلك بنص من الشارع، إما من جهة العموم كالأحاديث القاضية بتحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة أو على جهة الخصوص كحديث

(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب الشركة باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف جـ3 ص112.

(2)

تهذيب سنن أبي داود لابن القيم مع معالم السنن للخطابي جـ5 ص105.

ص: 269

العينة. . . ولا ينبغي أن يظن بها أنها قالت هذه المقالة من دون أن تعلم بدليل يدل على التحريم (1).

جـ- القياس على بقية البيوع الجائزة؛ لأن البيع وقع من أهله في محله باكتمال شروطه وأركانه فهو بيع صحيح. والبيعة الثانية غير البيعة الأولى (2).

ونوقش هذا الاستدلال بأنه قياس في مقابلة النص فلا يصح؛ إذ لا قياس مع النص.

ثم إن قياسه على بقية البيوع الجائزة فاسد؛ إذ كثير من البيوع تتوفر فيها الأركان ومع هذا فالبيع قد يكون فاسدا، وهنا الشروط غير متوفرة؛ لأن البيع منهي عنه والدليل الحاظر مقدم على الدليل المبيح مع أنه ليس هناك دليل مبيح، وإنما الشافعي أجازه بناء على الأصل.

(1) نيل الأوطار جـ5 ص233.

(2)

المجموع شرح المذهب جـ10 ص124.

ص: 270

واستدل الجمهور على تحريم بيع العينة بما يأتي:

أ- عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (1)» رواه أبو داود وأحمد والبيهقي.

(1) سنن أبو داود البيوع (3462)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 84).

ص: 270

وجه الاستدلال من الحديث: أن فيه التصريح من الرسول صلى الله عليه وسلم على أن التبايع بالعينة من أسباب تسليط الله الذل على المسلمين وما هذا إلا لأنها محرمة، وهذا يدل على أنها من أنواع الربا المحرم.

ونوقش هذا الاستدلال بأن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء. وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر. . . وأيضا فالحديث رواه أحمد والطبراني من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء عن ابن عمر ورواه أحمد وأبو داود من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر. وقال المنذري في مختصر السنن ما لفظه: في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني نزيل مصر لا يحتج بحديثه، وفيه أيضا عطاء الخراساني وفيه مقال. ا / هـ (1).

والجواب عن هذا أن الحديث رواه أحمد في مسنده حدثنا الأسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم (2)» .

(1) نيل الأطار جـ5 ص233.

(2)

رواه أحمد في مسنده في باب المعاملات جـ7 ص27.

ص: 271

ورواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. . . فذكره. وهذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر.

فأما رجال الأول فأئمة مشاهير، وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر.

والإسناد الثاني يبين أن للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة كذلك. وأما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم.

وله طريق ثالث: رواه السري بن سهل حدثنا عبد الله بن رشيد حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دينهم (1)» . .

وهذا يبين أن للحديث أصلا وأنه محفوظ (2).

قال الذهبي في الميزان: قال النسائي: أبو أيوب عطاء بن عبد الله بلخي سكن الشام ليس به بأس روى عنه مالك. وقال أيضا أبو أيوب عطاء بن ميسرة روى عنه عروة بن رويم. وقال عثمان بن عطاء عن

(1) سنن أبو داود البيوع (3462)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 28).

(2)

تهذيب سنن أبي داود لابن القيم جـ5 ص104 وانظر إعلام الموقعين جـ3 ص214.

ص: 272

أبيه: قدمت المدينة وقد فاتني عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أحمد ويحيى العجلي وغيرهم: ثقة.

وقال يعقوب بن شيبة: ثقة معروف بالفتوى والجهاد.

وقال أبو حاتم لا بأس به ا / هـ كلام الذهبي (1).

وقال الحافظ ابن حجر: ورواه أحمد من رواية عطاء ورجاله ثقات وصححه ابن القطان (2).

وقال الشوكاني: وهذه الطرق يشد بعضها بعضا (3).

وقال في الفتح الرباني عن هذا الحديث: أخرجه الإمام أحمد وسنده جيد (4).

ب- عن يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية قالت: خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة فسلمنا عليها فقالت لنا من أنتن؟ قلنا من أهل الكوفة قالت: فكأنها أعرضت عنا. فقالت لها أم محبة: يا أم المؤمنين كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وأنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا، قالت فأقبلت علينا فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت فأبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت لها: أرأيت إن لم آخذ

(1) ميزان الاعتدال للذهبي جـ3 ص73.

(2)

بلوغ المرام ص152.

(3)

نيل الأوطار جـ5 ص234.

(4)

الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني جـ15 ص [44].

ص: 273

منه إلا رأس مالي قالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1)

وفي رواية عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته بستمائة درهم نقدا فقالت لها عائشة: - بئسما اشتريت وبئسما شريت إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب. أخرجه الدارقطني.

قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في التعليق المغني على الدارقطني: الحديث أخرجه البيهقي وعبد الرزاق أيضا. وأم محبة بضم الميم وكسر الحاء هكذا ضبطه الدارقطني في كتاب المؤتلف والمختلف، وقال: إنها تروي عن عائشة، وروى حديثها أبو إسحاق السبيعي عن امرأته العالية. ورواه أيضا يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أيفع عن أم محبة عن عائشة وقال: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما وأخرجه أحمد في مسنده حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة وأم ولد زيد بن أرقم فقالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريت بستمائة درهم نقدا فقالت: - بلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب، بئسما اشتريت وبئسما شريت. انتهى قال في التنقيح إسناده جيد ا / هـ

(1) سورة البقرة الآية 275

ص: 274

كلام أبي الطيب (1).

ووجه الاستدلال من الحديث إنكار عائشة رضي الله عنها هذا البيع وهو نفسه بيع العينة وهي رضي الله عنها لم تنكره هذا الإنكار إلا وعندها العلم بتحريمه وإلا لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد.

قال الشوكاني: في هذا الحديث دليل على أنه لا يجوز لمن باع شيئا بثمن نسيئة أن يشتريه من المشتري بدون ذلك الثمن نقدا قبل قبض الثمن الأول. أما إذا كان المقصود التحيل لأخذ النقد في الحال ورد أكثر منه بعد أيام فلا شك أن ذلك من الربا المحرم الذي لا تنفع في تحليله الحيل الباطلة (2).

فإن قيل إن الدارقطني قال: إن أم محبة والعالية مجهولتان (3). قلنا: أم محبة في رواية الدارقطني لم ترو الحديث وإنما ذكر أنها حضرت القصة مع من روى الحديث.

وأما العالية فقد قال ابن الجوزى: هي امرأة معروفة جليلة القدر. ذكرها ابن سعد في الطبقات فقال (4): العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة، واسم أبي إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي (5).

(1) التعليق المغني على الدارقطني مع سنن الدارقطني جـ3 ص52.

(2)

نيل الأوطار جـ5 ص232.

(3)

سنن الدارقطني جـ3 ص52.

(4)

انظر الطبقات الكبرى لابن سعد جـ8 ص487 دار صادر بيروت.

(5)

تهذيب سنن أبي داود جـ5 ص100.

ص: 275

قال ابن القيم: فإن قيل لا نسلم ثبوت الحديث فإن أم ولده زيد مجهولة؟.

قلنا: أم ولده لم ترو الحديث وإنما كانت هي صاحبة القصة وأما العالية فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي وهي من التابعيات وقد دخلت على عائشة وروى عنها أبو إسحاق وهو أعلم بها وفي الحديث قصة وسياق يدل على أنه محفوظ وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظها لها ولهذا رواها عنها زوجها ميمون ولم ينهها ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكذب لم يكن فاشيا في التابعين فشوه فيمن بعدهم وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتج به. ا / هـ (1).

وأيضا فهذه امرأة أبي إسحاق السبيعي - وهو أحد أئمة الإسلام الكبار وهو أعلم بامرأته وبعدالتها فلم يكن ليروي عنها سنة يحرم بها على الأمة وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة بل يحابيها في دين الله هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق.

وأيضا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة رضي الله عنها وسمعت منها وروت عنها، ولا يعرف أحد قدح فيها بكلمة، وأيضا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرا في التابعين بحيث ترد به روايتهم.

وأيضا فإن هذه امرأة معروفة واسمها العالية وهي جدة إسرائيل كما رواه حرب من حديث إسرائيل حدثني أبو إسحاق عن جدته العالية

(1) تهذيب سنن أبي داود ج5 ص105.

ص: 276

يعني جدة إسرائيل، فإنه إسرائيل بن يونس بن إسحاق والعالية امرأة أبي إسحاق ووالدة يونس وقد حملا عنها هذه السنة وإسرائيل أعلم بجدته، وأبو إسحاق أعلم بامرأته.

وأيضا فلم يعرف أحد قط من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله ويستحيل في العادة أن تروي حديثا باطلا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر (1).

جـ- قال ابن القيم: قال المحرمون للعينة الدليل على تحريمها من وجوه: -

أحدها: إن الله تعالى حرم الربا، والعينة وسيلة إلى الربا بل هي من أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام، فهنا مقامان: -

أحدهما: بيان كونها وسيلة.

والثاني: بيان أن الوسيلة إلى الحرام حرام.

فأما الأول: فيشهد له النقل والعرف والنية والقصد، وحال المتعاقدين.

فأما النقل: فيما ثبت عن ابن عباس " أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة، ثم اشتراها بخمسين؟ فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينها حريرة ".

وفي كتاب محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين، عن ابن

(1) إعلام الموقعين ج3 ص216.

ص: 277

عباس: أنه قال " اتقوا هذه العينة، لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة ".

وفي كتاب أبي محمد النجشي الحافظ عن ابن عباس " أنه سئل عن العينة، يعني بيع الحريرة؟ فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله ".

وفي كتاب الحافظ مطين عن أنس " أنه سئل عن العينة -يعني بيع الحريرة- فقال: إن الله لا يخدع. هذا مما حرم الله ورسوله ".

وقول الصحابي " حرم رسول الله كذا، أو أمر بكذا، وقضى بكذا، وأوجب كذا " في حكم المرفوع اتفاقا عند أهل العلم، إلا خلافا شاذا لا يعتد به، ولا يؤبه له.

وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى، فظن ما ليس بأمر، ولا تحريم كذلك، وهذا فاسد جدا.

فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، وقد تلقوها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظن بأحد منهم أن يقدم على قوله " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حرم أو فرض " إلا بعد سماع ذلك، ودلالة اللفظ عليه، واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية. بل دونه، فإن رد قوله " أمر " ونحوه بهذا الاحتمال، وجب رد روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قبلت روايته: وجب قبول الآخر.

وأما شهادة العرف بذلك: فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله وعباده من المتبايعين ذلك: قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصدان به تملكها، ولا غرض لهما فيها بحال. وإنما الغرض

ص: 278

والمقصود بالقصد الأول: مائة بمائة وعشرين، وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث، وهي بمنزله الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جيء به لمعنى في غيره، حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن. أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد، لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا.

وأما النية والقصد: فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين، وفضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما، ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد، ثم يحضران تلك السلعة محللا لما حرم الله ورسوله.

وأما المقام الثاني -وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام- فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول.

فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توصلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة، كما تقدم.

وقال أيوب السختياني " يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل ".

والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغوية أو شرعية والخداع حرام.

وأيضا: فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو من أكبر الكبائر فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا وإنما قصده حقيقة الربا.

ص: 279

أيضا: فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام، فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلا؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطل قطعا، فيتعين الأول.

وأيضا: فإن الشارع إنما حرم الربا، وجعله من الكبائر، وتوعد آكله بمحاربة الله ورسوله، لما فيه من أعظم الفساد والضرر، فكيف يتصور -مع هذا- أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل؟.

فيا لله العجب، أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة، وقلبتها مصلحة بعد أن كانت مفسدة؟.

وأيضا: فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين وكان مقصودهم منع حق الفقراء من الثمر المتساقط وقت الحصاد، فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة.

ولا يقال: فالعقوبة إنما كانت على رد الاستثناء وحده، لوجهين:

أحدهما: أن العقوبة من جنس العمل، وترك الاستثناء عقوبته: أن يعوق وينسى لا إهلاك ماله، بخلاف عقوبة ذنب الحرمان، فإنها حرمان كالذنب.

الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا: {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} (1) ورتب العقوبة على ذلك، فلو لم يكن لهذا الوصف

(1) سورة القلم الآية 24

ص: 280

مدخل في العقوبة لم يكن لذكره فائدة فإن لم يكن هو العلة التامة كان جزءا من العلة.

وعلى التقديرين: يحصل المقصود.

وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنيات (1)» والمتوسل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرم إنما نيته المحرم، ونيته أولى به من ظاهر عمله.

وأيضا: فقد روى ابن بطة وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وإسناده مما يصححه الترمذي.

وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها (2)» و " جملوها " يعني: أذابوها وخلطوها وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم، ويحدث لها اسم آخر، وهو الودك، وذلك لا يفيد الحل، فإن التحريم تابع للحقيقة، وهي لم تتبدل بتبدل الاسم.

وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته، فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة، وهذا واضح بحمد الله.

وأيضا: فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، إنما انتفعوا بثمنه، فيلزم من وقف مع صور العقود والألفاظ، دون مقاصدها وحقائقها: أن لا يحرم ذلك، لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن، وإنما حرم عليهم نفس الشحم، ولما لعنهم على استحلالهم الثمن وإن لم ينص على تحريمه دل على أن الواجب النظر إلى المقصود وإن اختلفت الوسائل

(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1)، صحيح مسلم الإمارة (1907)، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647)، سنن النسائي الطهارة (75)، سنن أبو داود الطلاق (2201)، سنن ابن ماجه الزهد (4227)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 43).

(2)

صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3460)، صحيح مسلم المساقاة (1582)، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257)، سنن ابن ماجه الأشربة (3383)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 25)، سنن الدارمي الأشربة (2104).

ص: 281

إليه، وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين، ولا ببدلها.

ونظير هذا: أن يقال: لا تقرب مال اليتيم، فتبيعه وتأكل عوضه، وأن يقال: لا تشرب الخمر، فتغير اسمه وتشربه، وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة، فتعقد عليها عقد إجارة، وتقول: إنما استوفي منافعها. وأمثال ذلك.

وقالوا: ولهذا الأصل -وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله أو إسقاط ما أوجبه الله عليه - أكثر من مائة دليل، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن المحلل والمحلل له (1)» مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح لما كان مقصوده التحليل، ولا حقيقة النكاح، وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانيا ولم ينظروا إلى صورة العقد. ا / هـ (2).

د- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي الله وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (3)» رواه أبو داود (4).

قال ابن القيم: وللعلماء في تفسيره قولان: -

أحدهما: أن يقول بعتك بعشرة نقدا، أو عشرين نسيئة، وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك، ففسره في حديث ابن مسعود قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (5)». قال سماك: الرجل يبيع البيع، فيقول: -

هو على نساء بكذا، وبنقد بكذا " (6).

(1) مسند أحمد بن حنبل (1/ 448).

(2)

تهذيب سنن أبي داود لابن القيم جـ 5 ص 101 - 103.

(3)

سنن الترمذي البيوع (1231)، سنن النسائي البيوع (4632)، سنن أبو داود البيوع (3461)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 432).

(4)

رواه أبو داود في سننه وسكت عنه، كتاب البيوع باب فيمن باع بيعتين في بيعة جـ3 ص 274.

(5)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 398).

(6)

انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ15 ص45.

ص: 282

وهذا التفسير ضعيف، فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة، ولا صفقتين هنا وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.

والتفسير الثاني: أن يقول: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا معنى الحديث، الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله " فله أوكسهما أو الربا " فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي، أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما، وهو مطابق لصفقتين في صفقة، فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا.

فتدبر مطابقة هذا التفسير لألفاظه صلى الله عليه وسلم، وانطباقه عليها.

ومما يشهد لهذا التفسير: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيعتين في بيعة (1)» عن سلف وبيع " (2) فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأن كلا منهما يؤول إلى الربا، لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا.

ومما يدل على تحريم العينة: حديث ابن مسعود يرفعه "، «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، والمحلل والمحلل له (3)» .

ومعلوم أن الشاهدين والكاتب إنما يكتب ويشهد على عقد صورته جائزة الكتابة والشهادة، لا يشهد بمجرد الربا، ولا يكتبه. ولهذا قرنه

(1) صحيح البخاري الصلاة (368)، سنن النسائي البيوع (4517)، سنن ابن ماجه التجارات (2169)، موطأ مالك الجامع (1704).

(2)

رواه الإمام أحمد في مسنده جـ2 ص174.

(3)

انظر مسند الإمام أحمد جـ1 ص450، 462.

ص: 283

بالمحلل والمحلل له، حيث أظهرا صورة النكاح ولا نكاح، كما أظهر الكاتب والشاهدان صورة البيع ولا بيع.

وتأمل كيف لعن في الحديث الشاهدين والكاتب والآكل والموكل؟ فلعن المعقود له، والمعين له على ذلك العقد، ولعن المحلل والمحلل له، فالمحلل له: هو الذي يعقد التحليل لأجله، والمحلل: هو المعين له بإظهار صورة العقد، كما أن المرابي: هو المعان على أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به.

فصلوات الله على من أوتي جوامع الكلم. ا / هـ (1).

(1) تهذيب مسند أبي داود جـ1 ص106.

ص: 284

الترجيح: -

من خلال ما سبق من عرض أدلة كل فريق ومناقشتها يظهر لنا أن الراجح تحريم بيع العينة كما هو قول جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وذلك للأدلة الدالة على ذلك، ولأن من أجاز بيعها استدل بالأدلة العامة الدالة إلى إباحة البيع، وهذه الأدلة معارضة بأدلة تحريم العينة والدليل المحرم مقدم على الدليل المبيح احتياطا.

ولأن بيع العينة وسيلة إلى الربا بل هو من أهم الوسائل إليه، والوسيلة إلى الحرام حرام لأن للوسيلة حكم الغاية.

قال ابن القيم رحمه الله: وأيضا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة التشريع تحريمها أعظم من تحريم الربا، فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل. . . . وأيضا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله وبالغت في تحريمه وآذنت صاحبه

ص: 284

بحرب من الله ورسوله أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة " ا / هـ (1).

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا استقمت بنقد فبعت بنقد فلا بأس وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا خير فيه، تلك ورق بورق ".

ومعنى كلامه أنك إذا قومت السلعة بنقد ثم بعتها بنسيئة كان مقصود المشتري شراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة، وإذا قومتها بنقد ثم بعتها به فلا بأس فإن ذلك بيع المقصود منه السلعة لا الربا (2).

وهذا الذي ذكرناه من تحريم بيع العينة خاص بالصورة التي ذكرناها في صدر هذا البحث وهي: أن يبيع سلعة بثمن مؤجل يشتريها منه نقدا بأقل مما باعها به.

وعلى هذا فلا بد من توفر هذه الشروط: -

(1)

أن يكون العقد الثاني قبل قبض الثمن الأول.

(2)

أن يكون المشتري الثاني هو البائع الأول أو وكيله.

(3)

أن يشتريها المشتري الثاني من المشتري الأول أو وكيله.

(4)

أن يكون الثمن الثاني نقدا بجنس الثمن الأول.

(1) إعلام الموقعين جـ3 ص216، 217.

(2)

تهذيب سنن أبي داود جـ5 ص107.

ص: 285

(5)

أن يكون الثمن الثاني أقل من الثمن الأول.

(6)

أن لا يتغير المبيع بنحو مرض أو عيب.

إذا توفرت هذه الشروط فالعقد الثاني باطل ومحرم لما أسلفناه أما العقد الأول ففيه خلاف.

حكم العقد الأول: -

اختلف الفقهاء الذين قالوا ببطلان العقد الثاني في حكم العقد الأول.

على النحو الآتي: -

(1)

قال بعضهم يصح البيع الأول إن كان بلا مواطأة (1).

لأنه بيع تام بأركانه وشروطه فطريان الثاني عليه لا يبطله وهو قول ابن القاسم من المالكية (2).

(2)

وقال آخرون: إن البيع الأول باطل بدليل قول عائشة رضي الله عنها في الحديث المتقدم " بئسما شريت وبئسما اشتريت " ففيه دليل على بطلان العقدين معا لأنها رضي الله عنها ذمت الشراء والبيع على هذه الصفة.

وبهذا قال أكثر الفقهاء. قال ابن القيم: وهذا هو الصحيح من

(1) الإنصاف جـ4 ص335.

(2)

انظر مقدمات ابن رشد جـ2 ص535.

ص: 286