الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلا. أما المعاصي فلم يختلف العلماء في قبول التوبة منها؛ لأنها صادرة من قوم يؤمنون بأن الله هو المشرع وحده، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ليس لأحد أن يزيد في شرعه ولا أن ينقص منه أو يحرف فيه، بل كل ما هنالك معاص تقع بسبب ضعف الوازع الإيماني وقوة الشهوات مع الخجل من الله والطمع في مغفرته والأمل في الإقلاع عن هذه المعاصي. فتوبة من هذه حالهم متوقعة دائما، وقبولها مرتجى من الله سبحانه، ومن حكام المسلمين متعينة. وبخاصة أنها تقع في حالة تستر وخجل، وأن أضرارها قاصرة على مرتكبيها غالبا، وضررها في الدين منتف؛ لأنها لا تسبب له زيادة في تشريعه ولا نقصا ولا تحريفا. وبعد هذه المقدمة: نتعرض للموضوع فنقول وبالله التوفيق.
الخلاف في قبول توبة المبتدع
يرى بعض العلماء أن المبتدع ليس له من توبة وممن اختار هذا أبو إسحاق الشاطبي وأبو إسحاق بن شاقلا من أصحاب أحمد وهو مذهب الربيع بن نافع. ومما احتج به هؤلاء:
* قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (1)» .
* وبما روى أبو حفص العكبري عن أنس مرفوعا: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته (2)» رواه الطبراني وإسناده حسن (3).
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017)، سنن الترمذي العلم (2675)، سنن النسائي الزكاة (2554)، سنن ابن ماجه المقدمة (203)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 359)، سنن الدارمي المقدمة (512).
(2)
سنن ابن ماجه المقدمة (50).
(3)
الترغيب 56/ 1.
وقال القاضي: سئل الإمام أحمد رحمه الله عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة (1)» وحجز التوبة أيش معناه؟ قال أحمد: لا يوفق ولا ييسر صاحب بدعة.
ووجه الدلالة من الحديث الأول أن المبتدع يلازمه وزر بدعته ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة، وهذا يعني أنه من الأخسرين أعمالا فلا توبة له؛ لأن بدعته حالت بينه وبين التوبة، وكذلك فإن ما روي عن أنس مرفوعا من حجب التوبة عن كل صاحب بدعة، يدل على أن المبتدع محجوب عن التوبة والتوبة محجوبة عنه؛ لأن بدعته قد أحاطت به والعياذ بالله.
ويعلل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدم توبة أهل البدع والأهواء بقوله: لأن اعتقاد هؤلاء لبدعهم يدعوهم إلى ألا ينظروا نظرا تاما إلى دليل مخالفيهم من أهل الحق فلا يعرفون الحق ولهذا قال السلف: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية. وقال أبو أيوب السختياني وغيره: إن المبتدع لا يرجع (2).
أما الشاطبي رحمه الله فيبرر عدم قبول توبة صاحب البدعة بقوله: أما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة (3)» ، وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة. وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى أشر منها. ونحوه: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إلا إلى ما هو شر منه. خرج هذه الآثار ابن وضاح (4).
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (50).
(2)
غذاء الألباب شرح منظومة الآداب لمحمد السفاريني 568/ 2 وما بعدها.
(3)
سنن ابن ماجه المقدمة (50).
(4)
الاعتصام 123/ 1.
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: اثنان لا نعاقبهما: صاحب طمع وصاحب هوى فإنهما لا ينزعان.
ثم ذكر أحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم عن أهل الأهواء والبدع: «يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه (1)» .
وعن أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون من أمتي قوم يقرءون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة (2)» . قال الشاطبي: فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار وحاصلها:
أنه لا توبة لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شر منها.
ومن هنا قلنا: يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره (3) " اهـ. هذا بعض مما استدل به هؤلاء.
أما الفريق الثاني القائل بأن المبتدع له توبة: فقالوا: إن المبتدع له توبة كأي مذنب ولا حائل بينه وبين التوبة؛ لأن باب التوبة مفتوح والتوبة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها يدل لهذا:
1 -
2 -
وقوله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (5).
(1) صحيح البخاري التوحيد (7432)، صحيح مسلم الزكاة (1064)، سنن النسائي تحريم الدم (4101)، سنن أبو داود السنة (4765)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 68)، موطأ مالك النداء للصلاة (477).
(2)
صحيح مسلم الزكاة (1067)، سنن ابن ماجه المقدمة (170)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 31)، سنن الدارمي الجهاد (2434).
(3)
الاعتصام بتصرف 123/ 1 وما بعدها.
(4)
سورة الزمر الآية 53
(5)
سورة طه الآية 82
3 وقوله سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} (1).
ووجه الدلالة من الآية الأولى: أن الله نهى المسرفين على أنفسهم أن يقنطوا من رحمته؛ لأنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا. وهؤلاء المبتدعة من عباده المسرفين على أنفسهم بهذه البدع الذين أخبر وهو أصدق القائلين أنه يغفر الذنوب جميعا وبدعة هؤلاء ذنب يشمله هذا الوعد منه سبحانه. وما دام الأمر كذلك فلا مجال لتخصيص أهل البدع بعدم التوبة.
ووجه الدلالة من الآية الثانية: أنه سبحانه أخبر بأنه كثير الرحمة والمغفرة لجميع من تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى. وكلمة (من) من صيغ العموم فتشمل كل المذنبين والمبتدع منهم.
ووجه الدلالة من الآية الثالثة: أنه سبحانه أخبر أنه صاحب مغفرة لجميع الناس الظالمين، والمبتدع من الناس وبدعته من الظلم فيشمله الغفران وتشملها المغفرة كذلك؛ ولهذا ورد عن علي بن أبي طالب قوله: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (2) الآية.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وهذه أرجى آية في القرآن. فقال عبد الله بن عباس: أرجى آية في القرآن قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} (3).
4 -
وجاء عن أبي هريرة فيما رواه مسلم (4) أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه (5)» .
(1) سورة الرعد الآية 6
(2)
سورة الزمر الآية 53
(3)
سورة الرعد الآية 6
(4)
مختصر صحيح مسلم للمنذري 271/ 2.
(5)
صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2703)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 395).
5 -
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها (1)» . رواه مسلم (2).
فهذان الحديثان الشريفان أفادا بمنطوقهما أن المبتدع باب التوبة له مفتوح لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (من تاب) و (مسيء الليل) و (مسيء النهار).
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (3): إن للتوبة ثلاثة أركان: الإقلاع والندم على فعل تلك المعصية والعزم على ألا يعود إليها أبدا. فإن كانت المعصية لحق آدمي فلها ركن رابع وهو التحلل من صاحب ذلك الحق. واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة وأنها واجبة على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أم كبيرة. والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة. ولا يجب على الله قبولها إذا وجدت بشروطها عقلا عند أهل السنة لكنه سبحانه وتعالى يقبلها كرما وفضلا وعرفنا قبولها في الشرع والإجماع. اهـ.
من هذا يظهر جليا أن الله سبحانه وتعالى قد شمل جميع عباده بقبول التوبة وأهل البدع مشمولون بهذا الفضل إذا حسنت توبتهم وأقلعوا عما أحدثوا ولا يبعد أن يمن الله عليهم برؤية الحق واتباعه والإقلاع عن البدع التي أحدثوها. والجواب عما استدل به أصحاب الرأي الأول:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها (4)» .
(1) صحيح مسلم التوبة (2759)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 404).
(2)
نفس المصدر.
(3)
باب التوبة.
(4)
صحيح مسلم الزكاة (1017)، سنن الترمذي العلم (2675)، سنن النسائي الزكاة (2554)، سنن ابن ماجه المقدمة (203)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 359)، سنن الدارمي المقدمة (512).