الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من
فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
التساهل في الحكم بغير شريعة الله
س: كثير من المسلمين يتساهلون في الحكم بغير شريعة الله والبعض يعتقد أن ذلك التساهل لا يؤثر في تمسكه بالإسلام، والبعض الآخر يستحل الحكم بغير ما أنزل الله ولا يبالي بما يترتب على ذلك، فما هو الحق في ذلك؟
ج: هذا فيه تفصيل وهو أن يقال: من حكم بغير ما أنزل وهو يعلم أنه يجب عليه الحكم بما أنزل الله وأنه خالف الشرع ولكن استباح هذا الأمر ورأى أنه لا حرج عليه في ذلك وأنه يجوز له أن يحكم بغير شريعة الله، فهو كافر كفرا أكبر عند جميع العلماء، كالحكم بالقوانين الوضعية التي وضعها الرجال من النصارى أو اليهود أو غيرهم ممن زعم أنه يجوز الحكم بها أو زعم أنها أفضل من حكم الله أو زعم أنها تساوي حكم الله، وأن الإنسان مخير إن شاء حكم بالقرآن والسنة وإن شاء حكم بالقوانين الوضعية، من اعتقد هذا كفر بإجماع العلماء كما تقدم، أما من حكم بغير ما أنزل الله لهوى أو لحظ عاجل وهو يعلم أنه عاص لله ولرسوله وأنه فعل منكرا عظيما وأن الواجب عليه الحكم بشرع الله، فإنه لا يكفر بذلك الكفر الأكبر لكنه قد أتى منكرا عظيما ومعصية كبيرة وكفرا أصغر كما قال ذلك ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أهل العلم: وقد ارتكب بذلك كفرا دون كفر، وظلما دون ظلم وفسقا دون فسق، وليس هو الكفر الأكبر، وهذا قول أهل السنة والجماعة، وقد قال الله سبحانه:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1)، وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2)، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3).
(1) سورة المائدة الآية 49
(2)
سورة المائدة الآية 44
(3)
سورة المائدة الآية 45
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)، وقال عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3)، فحكم الله هو أحسن الأحكام وهو الواجب الاتباع وبه صلاح الأمة وسعادتها في العاجل والآجل وصلاح العالم كله، ولكن أكثر الخلق في غفلة عن هذا. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1) سورة المائدة الآية 47
(2)
سورة النساء الآية 65
(3)
سورة المائدة الآية 50
س: أرجو شرح قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (1){خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (2){وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (3)، هل يفهم من هذا أن من دخل الجنة يخرج منها إذا شاء الله، وهل نسخت هاتان الآيتان بشيء من القرآن إذ إنهما وردتا في سورة مكية؟
ج: الآيتان ليستا منسوختين بل محكمتان، وقوله عز وجل:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (4) اختلف أهل العلم في معنى ذلك مع إجماعهم على أن نعيم الجنة دائم أبدا لا ينقضي ولا يزول ولا يخرجون منها؛ ولهذا قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (5) لإزالة بعض ما قد يتوهم بعض الناس أن هناك خروجا فهم
(1) سورة هود الآية 106
(2)
سورة هود الآية 107
(3)
سورة هود الآية 108
(4)
سورة هود الآية 107
(5)
سورة هود الآية 108
خالدون فيها أبدا؛ ولهذا قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (1){ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (2) يعني آمنين من الموت، وآمنين من الخروج، وآمنين من الأمراض؛ ولهذا قال عز وجل بعد ذلك:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (3){لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (4)، فهم فيها دائمون ولا يخرجون ولا يموتون، قال تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (5){فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (6){يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (7){كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (8){يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (9){لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (10){فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (11)، فأخبر سبحانه أن أهل الجنة في مقام أمين لا يعتريه خراب ولا زوال وأنهم آمنون أيضا لا خطر عليهم من موت ولا مرض ولا خروج ولا يموتون أبدا.
فقوله: إلا ما شاء ربك قال بعض أهل العلم: معناه مدة مقامهم في القبور ليسوا في الجنة، وإن كان المؤمن في روضة من رياض الجنة لكنها ليست هي الجنة ولكنه شيء منها فإنه يفتح للمؤمن وهو في قبره باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها ونعيمها وينقل بعد ذلك إلى الجنة فوق السماوات في أعلى شيء.
وقال بعضهم: إلا ما شاء ربك يعني مدة إقامتهم في موقف القيامة للحساب والجزاء وذلك بعد خروجهم من القبور فإنهم بعد ذلك ينقلون إلى الجنة، وقال بعضهم: مجموع الأمرين مدة بقائهم في القبور ومدة بقائهم في الموقف ومرورهم على الصراط في كل هذه الأماكن ليسوا في الجنة لكنهم ينقلون منها إلى الجنة. ومن هذا يعلم أن المقام مقام واضح ليس فيه شبهة ولا شك، فأهل الجنة في الجنة أبد الآباد ولا موت ولا مرض ولا خروج
(1) سورة الحجر الآية 45
(2)
سورة الحجر الآية 46
(3)
سورة الحجر الآية 47
(4)
سورة الحجر الآية 48
(5)
سورة الدخان الآية 51
(6)
سورة الدخان الآية 52
(7)
سورة الدخان الآية 53
(8)
سورة الدخان الآية 54
(9)
سورة الدخان الآية 55
(10)
سورة الدخان الآية 56
(11)
سورة الدخان الآية 57
ولا كدر ولا حزن ولا حيض ولا نفاس بل في نعيم دائم وخير دائم، وهكذا أهل النار يخلدون فيها أبد الآباد ولا يخرجون منها كما قال عز وجل في حقهم:{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (1)، والآيات في هذا المعنى كثيرة، أما قوله عز وجل في حقهم: إلا ما شاء ربك فقيل: إن المراد بذلك مقامهم في القبور، وقيل: مقامهم في الموقف وهم بعد ذلك يساقون إلى النار ويخلدون فيها أبد الآباد كما قال تعالى في حقهم في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2)، وقال سبحانه في سورة المائدة:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3)، والله ولي التوفيق.
…
(1) سورة فاطر الآية 36
(2)
سورة البقرة الآية 167
(3)
سورة المائدة الآية 37
س: هل يجوز أن أختم القرآن الكريم لوالدي علما أنهما أميان لا يقرآن ولا يكتبان؟ وهل يجوز أن أختم القرآن لشخص يعرف القراءة والكتابة ولكن أريد إهداءه هذه الختمة؟ وهل يجوز لي أن أختم القرآن لأكثر من شخص. .؟
ج: لم يرد في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام ما يدل على شرعية إهداء تلاوة القرآن الكريم للوالدين ولا لغيرهما وإنما شرع الله قراءة القرآن للانتفاع به والاستفادة منه وتدبر معانية والعمل بذلك. قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1)، وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2)،
(1) سورة ص الآية 29
(2)
سورة الإسراء الآية 9
وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (1)، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام:«اقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (2)» ، ويقول صلى الله عليه وسلم:«إنه يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن أصحابهما (3)» المقصود أنه أنزل للعمل به وتدبره والتعبد بتلاوته والإكثار من قراءته لا لإهدائه للأموات أو غيرهم، ولا أعلم في إهدائه للوالدين أو غيرهم أصلا يعتمد عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4)» ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك، وقالوا: لا مانع من إهداء ثواب القرآن وغيره من الأعمال الصالحات وقاسوا ذلك على الصدقة والدعاء إلى الأموات وغيرهم، ولكن الصواب هو القول الأول للحديث المذكور وما جاء في معناه، ولو كان إهداء التلاوة مشروعا لفعله السلف الصالح. والعبادة لا يجوز فيها القياس لأنها توقيفية لا تثبت إلا بالنص من كلام الله عز وجل أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم للحديث السابق وما جاء في معناه. أما الصدقة عن الأموات وغيرهم والدعاء لهم والحج عن الغير ممن قد حج عن نفسه وهكذا العمرة عن الغير ممن قد اعتمر عن نفسه، وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . والله ولي التوفيق. .
(1) سورة فصلت الآية 44
(2)
صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 249).
(3)
صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (805)، سنن الترمذي فضائل القرآن (2883)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 183).
(4)
صحيح مسلم الأقضية (1718)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 180).