المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أصول الكتاب بحثت في مكتبات كثيرة عن نسخ مخطوطة لهذا التفسير، - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٣٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ مصادر البحث

- ‌وجهة نظر

- ‌خلاصة رأيي

- ‌ وجهة نظر

- ‌المذهب الحنفي:

- ‌المذهب المالكي:

- ‌المذهب الشافعي:

- ‌المذهب الحنبلي:

- ‌الفتاوى

- ‌ حكم نفي الإيمان عن المسلم

- ‌ يقول لصاحبه أنت كافر قبل أن يعلمه بعمله

- ‌ حكم من لم يكفر الكافر

- ‌ هل يجوز أن تدعو النصراني كافرا

- ‌ حكم تذنيب الخطابات والعرائض بكلمة: ودمتم

- ‌ العين والفم أيهما أشد ذنبا من الآخر

- ‌ أسباب اختلاف العلماء

- ‌ حكم زيارة المرابطين الذين يزعمون علم الغيب

- ‌ حكم الإسلام في الأحزاب

- ‌ من هو الموفق أمام الله

- ‌ موقف الشباب من الإسلام

- ‌ الفرق بين الشريعة والطريقة

- ‌ فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌التساهل في الحكم بغير شريعة الله

- ‌حكم بيع واقتناء الحيوانات المحنطة

- ‌هل الوصية واجبة وما نصها الشرعي

- ‌حكم الإسبال إذا كان عادة وليس خيلاء

- ‌ترجمة موجزة للمؤلف

- ‌وصف المخطوط:

- ‌مراجع التحقيق

- ‌مقدمة:

- ‌التعريف بالتفسير:

- ‌أصول الكتاب

- ‌المراجع:

- ‌فضل العمل والحث عليه:

- ‌امتنان الله تعالى على عبادة بتهيئتهم للعمل:

- ‌احترام الإسلام للعمل:

- ‌الإسلام والفراغ:

- ‌من تعلم مهنة فلا يتركها:

- ‌رعاية شئون الأسرة:

- ‌أي المكاسب أفضل:

- ‌فضل الشجرة والزراعة:

- ‌حكم الزراعة:

- ‌التشجيع على الزراعة لا يعني إهمال الواجبات:

- ‌عناية المسلمين بالزراعة:

- ‌متى يتحقق الأجر في الزراعة:

- ‌الزراعة وعدد السكان:

- ‌المراجع:

- ‌جرير بن عبد الله البجليالسفير القائد

- ‌هدم ذي الخلصة

- ‌ في ردة اليمن:

- ‌ في العراق:

- ‌ في أرض الشام:

- ‌ في العراق ثانية:

- ‌ في القادسية:

- ‌ فتح (المدائن)

- ‌ في بلاد فارس:

- ‌ولاية تزويج الصغيرة

- ‌مقدمة:

- ‌تزويج الأب البكر الصغيرة

- ‌تزويج غير الأب من الأولياء للبكر الصغيرة

- ‌ تزويج الوصي للبكر الصغيرة

- ‌تزويج الثيب الصغيرة

- ‌الخاتمة:

- ‌حكمة الزواج ومنافعه

- ‌ المحافظة على النسل واستمراره:

- ‌ تلبية الغريزة الجنسية واعتدالها:

- ‌ تحقيق السكن النفسي:

- ‌ العناية بتربية النشء:

- ‌ صيانة المجتمع من الانحلال الخلقي:

- ‌ الحفاظ على الأنساب:

- ‌ إشباع غريزتي الأبوة والأمومة:

- ‌ تنمية الروابط الأسرية والاجتماعية:

- ‌ التدرب على تحمل المسئوليات:

- ‌ تحقيق العبودية والثواب والغنى:

- ‌ حفظ الصحة وبركة العمر:

- ‌من قرارات هيئة كبار العلماء

- ‌ أجهزة الإنعاش

- ‌ كتابة المصحف بطريقة الإملاء

- ‌حكم تغيير رسم المصحف العثماني

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ ‌أصول الكتاب بحثت في مكتبات كثيرة عن نسخ مخطوطة لهذا التفسير،

‌أصول الكتاب

بحثت في مكتبات كثيرة عن نسخ مخطوطة لهذا التفسير، وبعد بحث وتنقيب لم أعثر إلا على نسخة واحدة، أما بقية النسخ الواردة في فهارس بعض المكتبات فهي للتفسير المختصر لسورة الناس، وليست لهذا التفسير، وقد طبع هذا المختصر عدة مرات كما أشرت آنفا، أما هذا التفسير فلم أجده مطبوعا من قبل.

ولأجل التحقق من صحة النسخة المخطوطة وسلامتها من التصحيف أو التحريف قمت بمقابلتها على النسخ المطبوعة لتفسير سورة الناس لابن القيم رحمه الله تعالى ضمن (تفسير المعوذتين).

أما النسخة المخطوطة لهذا التفسير فقد صورتها من مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وهي برقم (2320) وهي مصورة عن المتحف العراقي كما كتب بخط اليد وتقع في خمس صفحات، في كل صفحة نحو ثلاثة وثلاثين سطرا، كما أنه يوجد نسخة لتفسير سورة الإخلاص ومعها تفسير المعوذتين في مكتبة الآثار العامة - ببغداد رقم (35179)، ونسخة أخرى في خزائن مكتبة الأوقاف ببغداد برقم (3279) بعنوان (تفسير سورة الإخلاص، والفلق، والناس).

وقد طلبت تصويرهما عن طريق مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وقد بادر المركز بإرسال طلب التصوير قبل سنتين ولم يتيسر ذلك حتى الساعة، علما أني لا أعرف أي التفسيرين فيهما التفسير المختصر أو التفسير المطول للشيخ محمد بن عبد الوهاب.

هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يغفر لي ما شابه من نقص أو قصور، إنه سميع مجيب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 146

صفحة فارغة

ص: 147

وأما سورة الناس.

فقد تضمنت أيضا (1).

مستعاذا به.

ومستعاذا منه.

ومستعيذا (2).

فأما المستعاذ به فهو: الله رب الناس ملك الناس إله الناس، فذكر ربوبيته للناس، وملكه إياهم، وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر في الاستعاذة من الشيطان.

فأضافهم في الكلمة الأولى (3) إلى ربوبيته، المتضمنة خلقهم،

(1) أي كما تضمنت ذلك سورة الفلق التي سبق للشيخ أن فسرها.

(2)

في المخطوطة (مستعاذ به، ومستعاذ منه، ومستعيذ) وهو لحن فصححته.

(3)

أي قوله سبحانه (رب الناس).

ص: 148

وتربيتهم، وتدبيرهم، وإصلاحهم، وحفظهم مما (1) يفسدهم، وهذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن (2) قدرته التامة، ورحمته الواسعة، وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة (3) دعواتهم، وكشف كرباتهم.

وأضافهم في الكلمة الثانية (4) إلى ملكه، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم في الشدائد والنوائب، فلا صلاح لهم، ولا قيام إلا به.

وأضافهم في الكلمة الثالثة (5) إلى إلهيته فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم (6) سواه، ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشاركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك (7) هو وحده إلههم ومعبودهم فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته، كما لا شريك معه (8) في ربوبيته وملكه.

وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة.

(1) في المخطوطة (لمن) والصواب كما جاء في تفسير ابن القيم رحمه الله تعالى (مما).

(2)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية: لابن قاسم ج 3: ص 112.

(3)

في المخطوطة (وبإجابة) والصواب ما أثبته من تفسير ابن القيم.

(4)

أي قوله سبحانه: (ملك الناس).

(5)

أي قوله سبحانه: (إله الناس).

(6)

في المخطوطة (لا إله سواه: وأثبت ما في تفسير ابن القيم لقوله بعد: (ولا معبود لهم غير).

(7)

إشارة إلى أن توحيد الربويية يستلزم توحيد الألوهية.

(8)

في المخطوطة (كما لا معه شريك) وأثبت ما في تفسير ابن القيم.

ص: 149

فإذا كان هو ربنا ومليكنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف، ولا يرجى ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه (1)، لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه، إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك فهو ربك فلا رب لك سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى روحك وحياتك وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه، فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء (2) وأعظمهم عداوة.

ثم إن الله سبحانه كرر الاسم الظاهر (3)، ولم يوقع المضمر موقعه (4)، فيقول: رب الناس، وملكهم، وإلههم، تحقيقا لهذا المعنى (5)، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه.

(1) هذه الأمور التي ذكرها من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى.

(2)

في المخطوطة (أعداء العدو) وهو خطأ فأثبت ما في تفسير ابن القيم.

(3)

أي (الناس) في قوله تعالى: (رب الناس، ملك الناس، إله للناس).

(4)

في المخطوطة (وقعه) وهو خطأ فصححته فأثبت ما في تفسير ابن القيم.

(5)

أي المناسبة التي بينها للإضافات الثلاث.

ص: 150

ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة.

قدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب، وأخر الإلهية لخصوصها لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده، ووحده، واتخذه إلها دون غيره، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه ولكن المشرك ترك (1) إلهه الحق واتخذ إلها غيره.

ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، المطاع إذا أمر، فملكه (2) لهم تابع لخلقه إياهم، فملكهم (3) من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه، وملكه يستلزم إلهيته، فهو الرب، الملك، الإله. خلقهم بالربوبية وقهرهم بالملك واستعبدهم بالإلهية.

فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على

(1) في المخطوطة (ولكن ترك) وزدت كلمة (المشرك) من تفسير ابن القيم.

(2)

في تفسير ابن القيم (وملكه).

(3)

تفسير ابن القيم (فملكه).

ص: 151

أبدع نظام وأحسن سياق (رب الناس، ملك الناس، إله الناس).

وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان (1) وتضمنت معنى جميع أسمائه الحسنى (2).

أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى.

فإن الرب هو: القادر، الخالق، البارئ، المصور، الحي، القيوم، العليم، السميع، البصير، المحسن، المنعم، الجواد، المعطي، المانع، النافع، الضار، المقدم، المؤخر، يهدي ويضل، ويسعد، ويشقي، ويعز ويذل، إلى غير ذلك من المعاني الربوبية.

وأما الملك: فهو الآمر، الناهي، المعز، المذل الذي يصرف أمور عباده كما يحب، ويقلبهم كما يشاء، فهو العزيز، الجبار، المتكبر الحافظ، الرافع، المعز، المذل، العظيم، الجليل، الوالي، المتعالي، الملك، المقسط، الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.

وأما الإله فهو الجامع لصفات الكمال، ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى.

(1) لاشتمالها على الربوبية و (الملك) و (الألوهية).

(2)

سيبين بعد ذلك وجه تضمن هذه الأسماء (الرب، الملك، الإله) للأسماء الحسنى.

ص: 152

ولهذا (1) كان القول الصحيح أن الله: أصله الإله، وأن اسم الله تعالى هو: الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، والصفات العليا وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أصل العلم الاستدلال بما يظهر منها على ما وراءه (2).

وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر (3) الذي هو سبب الذنوب والمعاصي وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.

فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من ظلم الغير بالسحر والحسد وهو شر من خارج (4).

وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل.

فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف، ولا يطلب منه الكف عنه، لأنه ليس من كسبه.

والشر الثاني الذي في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي، فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما.

فتضمنت سورة الناس الاستعاذة من شر العيوب كلها لأن أصلها كلها

(1) أي لكون الإله جامعا لصفات الكمال ولكونه أصلا لاسم الله فإن اسم الله جامع لمعاني الأسماء الحسنى.

(2)

أي الاستدلال بالمعاني الظاهرة على ما وراءها من الاستنباطات والنتائج واللوازم.

(3)

يعني الوسواس

(4)

في المخطوطة (وهو شر خارج) والصواب ما أثبته من تفسير ابن القيم.

ص: 153

الوسوسة.

وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه، فالوسواس الإلقاء الخفي في النفس:

إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه.

وإما بغير صوت ما يوسوس الشيطان إلى العبد.

و (الوسواس الخناس). وصفان لموصوف محذوف. وهو الشيطان.

فالوسواس: الشيطان، لأنه كثير الوسوسة.

وأما (الخناس) فهو فعال من خنس يخنس. إذا توارى واختفى (1) فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان (2) وبذر فيه الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها. فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس.

(1) قال ابن منظور: (خنس الرجل إذا توارى وغاب) لسان العرب مادة خنس ج: 6 ص: 71.

(2)

قال الله تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين "(الزخرف: 36).

ص: 154

والانخناس: تأخر ورجوع (1) معه اختفاء، قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب (2) في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس.

ويقال: رأسه كرأس الحية، وهو واضع رأسه على ثمرة (3) القلب يمنيه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس، وإذا لم يذكره عاد ووضع رأسه يوسوس إليه. وجيء بلفظ (الفعال) دون (الفاعل)(4) إعلاما بشدة (5) هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه. فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلا (6) لأنه يعذبه بذكر الله وطاعته وفي أثر عن بعض السلف، أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر، لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد.

وأما شيطان الفاجر فهو معه في راحة ودعة، ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه.

(1) ولا رجوع ولا اختفاء إلا بعد تقدم وظهور فالانخناس اختفاء بعد ظهور فهو يجمع أمرين الاختفاء والرجوع.

(2)

الخرطوم وهو الأنف. انظر لسان العرب لابن منظور ج: 12 ص 173.

(3)

تطلق الثمرة ويراد بها طرف الشيء، ومنه حديث ابن عباس أنه أخذ بثمرة لسانه أي بطرفه.

(4)

أي بلفظ (الخناس) دون الخانس. .

(5)

لو قال: (إعلاما بتكرار هروبه ورجوعه كلما ذكر الله ودأبه على ذلك) لكان أظهر كما سيأتي بيانه.

(6)

قال ابن مسعود رضي الله عنه: (شيطان المؤمن مهزول) انظر إحياء علوم الدين: الغزالي ج: 3 ص: 31.

ص: 155

وتأمل كيف جاء بناء الوسواس (1) مكررا لتكريره (2) الوسوسة الواحدة مرارا حتى يعزم عليها العبد.

وجاء بناء الخناس على وزن (الفعال) الذي يتكرر منه نوع الفعل، لأنه كلما ذكر الله انخنس فإذا غفل العبد عاوده (3) بالوسوسة، فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما.

وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (4) صفة ثالثة للشيطان، فذكر وسوسته أولا، ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس.

وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره فهو يجري منه مجرى الدم، وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات ومن وسوسته:

أنه يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله، ولهذا يضاف

(1) أي مكررا من الواو والسين وانظر ما جاء هامش ص 28.

(2)

في المخطوطة (لتكرره) وصححته من تفسير المعوذتين لابن القيم.

(3)

في المخطوطة (عاد) وأثبت ما في تفسير المعوذتين لابن القيم.

(4)

سورة الناس الآية 5

ص: 156

النسيان إليه (1) كما قال تعالى عن صاحب موسى: " فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان ". وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه (الوسواس إلى آخر السورة) ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة جميع شره، فإن قوله (من شر الوسواس)(2) يعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة فإن القلب يكون فارغا من الشر فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويشهيه فيصير شهوة، ويزينها ويحسنها له، فتصير إرادة، ثم لا يزال يمثل (3) ويشهي وينسي ضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فلا يرى إلا التذاذه بالمعصية فقط وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة (4) فيشتد الحرص من القلب، فلا يزال الشيطان بالعبد يقوده إلى الذنب وينظم

(1) من باب إضافة الشيء إلى سببه كما قال ابن القيم في تفسيره ص: 107.

(2)

في المخطوطة (الوسواس) وأثبت ما في تفسير ابن القيم.

(3)

في تفسير ابن القيم (يمثل له).

(4)

في المخطوطة (فتصير الإرادة جازمة) وأثبت ما في تفسير ابن القيم.

ص: 157

شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة. فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة.

فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا.

فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف، وكذلك يبيت في البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم، ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية، ثم يلقي في قلوب أعدائه يقظة ومناما أنه فعل كذا وكذا.

ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس (1) فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته فيغتر العبد، ويقول: هذا ذنب لم يره إلا الله، ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته، وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة.

ومن شره أنه يعقد على رأس العبد إذا نام عقدة تمنعه من اليقطة كما في صحيح البخاري: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد (2)» . . . الحديث.

(1) في المخطوطة (لا يطلع عليه إلا الله أحدا من الناس) وأثبت ما في تفسير ابن القيم.

(2)

صحيح البخاري الجمعة (1142)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (776)، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1607)، سنن أبو داود الصلاة (1306)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1329)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 243)، موطأ مالك النداء للصلاة (426).

ص: 158

ومن شره أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح.

ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبطه وعوقه. فإن عمله وفرغ منه سعى فيما يبطله.

ويكفي من شره أنه أقسم ليأتينهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم.

فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فلا خلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده ولا يمكن حصر أجناس شره، فضلا عن آحادها، إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه، ولكن ينحصر شره في ستة (1) أجناس.

فإذا ظفر بذلك من ابن آدم (2) استراح وهو أول ما يريد من العبد، فإن يئس منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه (3) نقله إلى (المرتبة الثانية) من الشر وهي: البدعة.

(1) في المخطوطة (أربعة) ولكنه ذكر ستة كابن القيم في تفسيره.

(2)

في المخطوطة (بابن آدم) وأثبت ما في تفسير المعوذتين: لابن القيم.

(3)

لعله يريد من ولدوا في ديار الإسلام ولم يعرفوا الشرك.

ص: 159

وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها متعد وهو ذنب لا يتاب منه وهي مخالفة لدعوة الرسل. ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها، صار نائبا له وداعيا من دعاته، وإن عجز من هذه المرتبة نقله إلى (المرتبة الثالثة) وهي الكبائر على اختلاف أنواعها. فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها، ولا سيما إن كان عالما متبوعا فهو حريص على ذلك لينفر الناس منه ثم يشيع من ذنوبه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها تقربا (1) - بزعمه - إلى الله - وهو نائب إبليس ولا يشعر، فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم هذا إذا أحبوا إشاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها، فإن عجز عن هذه المرتبة نقله إلى (المرتبة الرابعة) وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض (2)» وذكر حديثا معناه أن كل واحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا.

ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها، فيكون صاحب

(1) وما أكثر الذين يخوضون في أعراض العلماء في مجالس العامة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

(2)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 403).

ص: 160

الكبيرة الخائف أحسن حالا منه، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى:(المرتبة الخامسة) وهي: انشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عاقبتها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته شحيحا به، يعلم أنه مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى:(المرتبة السادسة) وهي أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليفوته ثواب العمل الفاضل فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه إذا تضمن ترك ما هو أفضل منه، وقل من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا إلى نوع من الطاعة فإنه لا يكاد (1) يقول هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير (2) ولم يعلم أن الشيطان يأمره بسبعين بابا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا، وأجل، وأفضل.

وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله، ولرسوله ولكتابه، ولعباده المؤمنين، خاصتهم وعامتهم، وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك لا يخطر بقلوبهم (3).

فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست سلط عليه حزبه من

(1) أي يستبعد أن يكون هذا من وسوسة الشيطان لجهله أن الشيطان قد يأمر بخير لتفويت أعظم منه فضلا.

(2)

في المخطوطة (خيرا) وصححته من تفسير المعوذتين لابن القيم.

(3)

في المخطوطة (محجوبون، ذلك لا يخطر بقلوبهم).

ص: 161

الإنس والجن بأنواع الأذى، والتكفير، والتبديع، والتحذير منه ليشوش عليه قلبه، وليمنع الناس من الانتفاع به.

فحينئذ يلبس المؤمن لأمة (1) الحرب ولا يضعها عنه، إلى الموت ومتى وضعها أسر وأصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.

فتأمل هذا الفصل وتدبره، واجعله ميزانك، تزن به نفسك، وتزن به الناس، والله المستعان.

وتأمل السر في قوله تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (2) ولم يقل قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب، وهو بمنزلة الدهليز وبيته، فمنه تدخل (3) الواردات إليه فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب، ومن القلب تخرج (4) الأوامر، والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود.

ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} (5) فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته ويلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب.

فهو موسوس (6) في الصدر وسوسة واصلة إلى القلب، ولهذا قال تعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} (7) ولم يقل: فيه، لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله إليه فدخل في قلبه (8).

وقول تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (9).

(1) اللأمة: الدرع. لسان العرب جـ: 12 ص: 532.

(2)

سورة الناس الآية 5

(3)

في المخطوطة (يدخل).

(4)

في المخطوطة (يخرج).

(5)

سورة آل عمران الآية 154

(6)

في المخطوطة (فهو سوس) وهو خطأ فصححته.

(7)

سورة طه الآية 120

(8)

فالوسوسة في الصدر ومنه إلى القلب.

(9)

سورة الناس الآية 6

ص: 162

اختلف الناس في هذا الجار والمجرور، وبم يتعلق فقال الفراء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم أي أن الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن، فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي، وهذا القول ضعيف جدا لوجوه منها:

أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي.

(والناس)(1) اسم لبني آدم، فلا يدخل الجن في مسماهم.

والصواب القول الثاني وهو: أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (2) بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان، إنس، وجن، فالجني يوسوس في صدر الإنسي، والإنسي يوسوس إلى الإنسي (3).

(1) هذا هو الوجه الثاني.

(2)

سورة الناس الآية 6

(3)

عند ابن القيم (في صدور الإنس).

ص: 163

فالموسوس نوعان: إنس، وجن.

فإن الوسوسة هي: الإلقاء الخفي في القلب (1) وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى الواسطة لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم على أن الجني قد يتمثل ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي كما في البخاري (2) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الملائكة تحدث في العنان - والعنان الغمام - بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة

(1) ذكرت تعريف الوسوسة فيما سبق.

(2)

رواه البخاري في صحيحه جـ: 4 ص: 94 وليس فيه (من عند أنفسهم).

(3)

صحيح البخاري بدء الخلق (3288)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (824).

ص: 163

فتقرها (2) القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم».

فهذه (3) وسوسة وإلقاء من الشيطان (4) بواسطة الأذن، ونظير اشتراكهما (5) في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (6)،.

ونختم الكلام على السورتين في ذكر قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويحترز منه، وذلك عشرة أسباب:(أحدها) الاستعاذة

(1) في المخطوطة (تحدر). (3)

(2)

(1) في أذن الكاهن، كما تقر في المخطوطة (فيقرها. . كما يقر).

(3)

في المخطوطة (فهذا).

(4)

يعني شيطان الجن.

(5)

أي شيطان الجن وشيطان الإنس.

(6)

سورة الأنعام الآية 112

ص: 164

بالله من الشيطان الرجيم.

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) والمراد بالسميع هاهنا سميع الإجابة لا السمع العام.

(الحرز الثاني) قراءة هاتين السورتين.

فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة (2) بالله من شره ودفعه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وكان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كل صلاة وذكر صلى الله عليه وسلم أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي، وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء.

(الحرز الثالث) قراءة آية الكرسي (3).

(1) سورة فصلت الآية 36

(2)

في المخطوطة (والاستعاذة).

(3)

رواه البخاري ج: 8ص: 104، وانظر الحديث بتمامه ج: 3ص: 63 - 64.

ص: 165

(الحرز الرابع) قراءة سورة البقرة.

ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان (1)» .

(الحرز الخامس) خاتمة البقرة.

فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه (2)» .

(الحرز السادس) أول سورة حم المؤمن. إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (3).

ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي ليلى عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم المؤمن إلى قوله: وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح (5)» ، وعبد الرحمن المليكي، وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي، وهو محتمل على غرابته.

(1) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجعلوا بيوتكم مقابر، وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان ". الجامع الصحيح: للترمذي جـ: 5 ص: 157، وقول المصنف رحمه الله تعالى:(ففي الصحيح) إشارة إلى رواية مسلم ولفظه: " لاتجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة " صحيح مسلم جـ: 1 ص: 539.

(2)

رواه البخاري جـ: 6 ص: 104، ومسلم جـ: 1 ص 555.

(3)

سورة غافر الآية 3

(4)

سنن الترمذي كتاب فضائل القرآن (2879)، سنن الدارمي فضائل القرآن (3386).

(5)

سورة غافر الآية 3 (4){إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}

ص: 166

(الحرز السابع) لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة.

ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك (1)» .

فهذا حرز عظيم النفع، جليل الفائدة، يسير سهل على من يسره الله عليه (الحرز الثامن): وهو من أنفع الحروز من الشيطان: كثرة ذكر الله عز وجل وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة الناس، فإن وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس إذا ذكر العبد ربه انخنس، فإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.

(الحرز التاسع) الوضوء، والصلاة.

وهذا من أعظم ما يتحرز العبد به ولا سيما عند الغضب والشهوة فإنها نار

(1) صحيح البخاري جـ: 4 ص: 95، وصحيح مسلم جـ: 4 ص: 2071.

ص: 167

تصلى (1) في قلب ابن آدم، كما روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم (2)» فما أطفأ (3) العبد جمرة الغضب بمثل الوضوء والصلاة، فإن الصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال على الله فيها أذهبت أثر ذلك جملة، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل.

(الحرز العاشر) إمساك فضول النظر، والكلام، والطعام، ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما ينال غرضه من ابن آدم من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر: يدعو إلى الاستحسان، ووقوع المنظور (4) إليه في القلب والاشتغال به، وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«النظرة (5) سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلي يوم يلقاه» أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب، وكم من حرب جرتها كلمة واحدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وهل يكب

(1) عند ابن القيم (تغلي).

(2)

من حديث طويل وفيه " ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاح أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض. الحديث " رواه الترمذي: وقال هذا حديث حسن صحيح جـ: 4 ص: 483 - 484، وإلامام أحمد في مسنده. جـ: 3 ص: 19.

(3)

في المخطوطة (طفى) والتصويب من تفسير المعوذتين لابن القيم.

(4)

في المخطوطة (يدعو إلى استحسان وقوع المنظور).

(5)

في المخطوطة (النظر).

ص: 168

الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم (1)». وفي الترمذي: «أن رجلا من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة: طوبى له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه (2)» .

وأكثر المعاصي إنما تولد من فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان بخلاف شهوة البطن. فإنه إذا امتلأ (3) لم يبق فيه إرادة للطعام، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا.

وكان السلف يحذرون من فضول الكلام (4) وكانوا يقولون ما من شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان (5)،.

(1) رواه الإمام أحمد في مسنده جـ: 5 ص: 231، والترمذي جـ: 5 ص: 12، وقال (هذا حديث حسن صحيح)، ورواه الحاكم في المستدرك جـ: 2 ص: 413، (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.

(2)

رواه الترمذي جـ: 4 ص: 2316 وقال: (هذا حديث غريب)، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت بلفظ آخر ص: 73 - 74.

(3)

في المخطوطة (امتلى).

(4)

في المخطوطة (من فضول النظر) وهو خطأ فهو يتحدث عن فضول الكلام

(5)

وينسب هذا القول لابن مسعود رضي الله عنه (انظر تصفية القلوب: يحيى بن حمزة اليماني ص 100).

ص: 169

وأما فضول الطعام (1) فهو داع لأنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها (2) عن الطاعات وحسبك بهذين شرا فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، ولهذا جاء في بعض الآثار " ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن (3)» .

ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله، فإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة غلبه الشيطان وشهاه وهام به في كل واد، فإن النفس إذا شبعت تحركت وطافت على أبواب الشهوات وإذا جاعت سكنت وذلت.

وأما فضول المخالطة فهو الداء العضال، الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازة، ففضول المخالطة خسارة في الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة.

ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى

(1) في المخطوطة (وأما فضول الكلام) وهو سبق قلم.

(2)

في المخطوطة (ويثقله) والصواب ما أثبته من ابن القيم

(3)

ونص الحديث: " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه " رواه الإمام أحمد في مسنده جـ: 4 ص: 132. والحاكم في مستدركه جـ: 4 ص: 331 - 332، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (إرواء الغليل جـ: 7 ص: 41).

ص: 170

خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر: -

(أحدها) من مخالطته كالغذاء، لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه، هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر.

وهم العلماء بالله وأمره، ومكائد عدوه، وأمراض القلوب، وأدويتها، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله، ولخلقه، فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كله.

(القسم الثاني) من مخالطتهم كالدواء، تحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا تستغني عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت تحتاج إليه في أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة.

(القسم الثالث) من مخالطتهم كالداء، على اختلاف أنواعه، وقوته، وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا، أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.

ومنهم من مخالطته كوجع الضرس، فإذا فارقك سكن الألم.

ومنهم من مخالطته حمى الربع وهو الثقيل البغيض الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه (1)

(1) في المخطوطة (منزلته).

ص: 171

فيضعها في منزلتها، بل إن تكلم، فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه، وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها.

ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: " ما جلس إلى جنبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أثقل من الجانب الآخر ".

ورأيت يوما عند شيخنا (1) - قدس الله روحه - رجلا من هذا الضرب، والشيخ يحمله وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إلي وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع. ثم قال: ولكن أدمنت أرواحنا على الحمل فصارت لها عادة، أو كما قال. وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى الربع، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته (2) فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.

(القسم الرابع) من مخالطته هلكة، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لآكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس - لا كثرهم الله - وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة.

إن جردت التوحيد قالوا: تنقصت الأولياء والصالحين، وإن جردت المتابعة للرسول قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين، وإن وصفت الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا: أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عن المنكر قالوا: أنت من

(1) المراد به ابن تيمية رحمه الله تعالى شيخ ابن القيم مؤلف أصل التفسير.

(2)

إشارة إلى قول المتنبي: ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى عدوا له ما من صداقته بد

ص: 172

المفتنين، وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من الملبسين وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين.

فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله ورسوله بإغضابهم وأن لا تبالي بذمهم ولا بغضهم، فإنه عين كمالك. كما قال:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني فاضل

وقال آخر: (1):

لقد زادني حبا لنفسي أنني (2)

بغيض إلى كل امرئ ، غير طائل (3)

فمن كان (4) بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم وهي فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة (5) التي يتحرز بها من الشيطان فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه باب جهنم، وفتح عليها باب الرحمة ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء، فعند الممات يحمد العبد التقى (6) و (عند الصباح يحمد القوم السرى).

(1) سقطت من المخطوطة.

(2)

في المخطوطة (وقد) وكذا عند ابن القيم في المخطوطة (بأني).

(3)

هذا البيت للطرماح بن حكيم. انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة ص390

(4)

عند ابن القيم (فمن أيقظ بواب قلبه).

(5)

أي التي قبل هذا الحرز، فالمجموع عشرة.

(6)

أحسبه مثلا لكني لم أجده في كتب الأمثال.

ص: 173

والله الموفق لا رب غيره. ولا إله سواه.

آخر الكلام على السورتين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وسلم.

ص: 174