الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
وجهة نظر
"
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . .
وبعد فلقد كانت مسألة تدوين الأحكام الشرعية الراجحة في كتاب يعمم على المحاكم وإلزام القضاة التمشي بموجبه موضع دراسة من قبل هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة بناء على رغبة المقام السامي، وبعد الاطلاع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث حول تلك المسألة وتبادل الرأي بشأنها أسفرت الدراسة عن انقسام الرأي في المسألة بين مانع ومجيز.
وحيث إننا نحن الموقعين أدناه نرى جواز ذلك تحقيقا للمصلحة العامة - وقد أدلى كل منا في المسألة برأيه مقتضبا حينما جرى استطلاع الآراء دون ذكر للاستنادات والمبررات والاعتبارات التي بنينا فيها آراءنا - فإننا نوضح ذلك فيما يلي: -
أولا: هناك مجموعة اعتبارات يحسن بنا قبل البدء في توجيه ما نراه إيرادها. .
(1)
ما أجمع عليه المعنيون بالدراسات الاجتماعية من أن القضاء يعتبر عنوانا لما عليه البلاد من حال، فإن كان قويا مهيبا دقيقا في تحقيق العدل والإنصاف كان ذلك دليلا على قوة البلاد وحسن إدارتها، وإن كان غير ذلك دل على ضعفها واضطرابها وفوضويتها، كما أجمعوا على أن أول ما تفقده البلاد عند اضطرابها وتزعزعها النزاهة في المرافق القضائية.
(ب) ما عليه بلادنا من اتصالات مختلفة بالبلدان الأجنبية الأخرى سواء ما كانت بلادنا متصلة بها أو كانت هي متصلة ببلادنا مما كان لذلك أثره في قيام علاقات مختلفة معها وما تبع هذا من قيام اتفاقيات وتبادل معلومات وخدمات.
(ب) إدراك الظروف والعوامل التي برزت للجهات المسئولة عندنا إيجاد وحدات قضائية لها استقلالها الكامل من الناحية الإدارية عن الجهة الإدارية للقضاء كمحاكم العمل والعمال ومكافحة الرشوة وفض المنازعات التجارية ومحاكم التأديب وغيرها. مما كان لذلك أثره في تفتت الوحدة الإدارية للقضاء في بلادنا وبالتالي تقلص الاختصاص القضائي من المحاكم الشرعية.
(د) الوضع القائم الآن ومنذ استتباب الأمن لحكومتنا الرشيدة مبني على الالتزام بالحكم بالراجح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكان ذلك امتدادا لما كانت عليه الحكومة التركية من التزام محاكمها بالحكم الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة، هذا بالنسبة إلى الحجاز وغيره من المناطق التي كانت خاضعة للحكم التركي سابقا. أما بالنسبة لنجد وتوابعها فقد كان الحكم في محاكمها طبقا للراجح من مذهب الإمام أحمد، وذلك قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حتى وقتنا هذا.
(هـ) ما عليه قضاة زماننا بالنسبة للمراتب العلمية التي ذكرها أهل العلم مما جاء في بحث اللجنة الدائمة من أن من يمكن إسناد القضاء إليه لا يخلو من أربع حالات، إما أن يكون مجتهدا مطلقا كالأئمة الأربعة، أو مجتهدا منتسبا كشيخ الإسلام ابن تيمية، أو مجتهدا في المذهب ممن له قدرة على التخريج والترجيح واستنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي انتسب إليه كمتقدمي أصحاب الأئمة، أو مقلدا متعلما كأصحاب الأئمة المتأخرين ممن
تبحروا في مذاهب أئمتهم وتمكنوا من تقرير أدلتهم إلا أنهم لم يبلغوا درجة الترجيح والتخريج.
(و) انتشار الوعي الحقوقي في البلاد وتطلع تلك الفئات الواعية إلى التعرف على المسالك القضائية وعجزها عن حصر تلك المسالك في إطار واضح المعالم، وما نتج عن ذلك من تساؤلات وتعريضات بنزاهة القضاء وخضوعه لتأثيرات خارجية واعتبارات شخصية.
ثانيا:
أن أمر إثبات الراجح من أقوال أهل العلم وتدوين ذلك في كتاب وتعميمه على المحاكم الشرعية للعمل بمقتضاه ليس أمرا محدثا وإنما كانت الفكرة موضع إثارة وبحث الجهات المعنية بالمرافق القضائية وذلك منذ أكثر من عشرة قرون، وقد أوردت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في بحثها الموضوع فصلا تاريخيا للفكرة وكيف أنها برزت من حيز التفكير إلى نطاق العمل بعد أن تكاثرت الأسباب الملحة في الأخذ بها فنجتزئ بذلك وتكتفي بإيراد حلقة تاريخية للفكرة لم تشر إليها اللجنة في بحثها. ذلك أن جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وغفر له، أراد أن يحمل القضاة على الأخذ بأحكام مختارة يجري تدوينها، ثم تعميمها على المحاكم فقد جاء في افتتاحية أم القرى في عددها الصادر بتاريخ 28/ 2 / 46 هـ ما نصه:
إن جلالة الملك - حفظه الله - يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة. وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293 هـ، ولكنها تختلف عنها بأمور أهمها عدم التقيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلا من الكتاب والسنة. وجاء فيها ما نصه:
فأصدر أمره إلى هيئة المراقبة القضائية بالشروع في عملها على الطريقة التالية: -
إذا اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام فيكون هذا الحكم معتبرا وملزما لجميع المحاكم والقضاة. والمذاهب الأربعة هي متفقة في الأحكام الأساسية وفي كثير من الأحكام الفرعية. أما المسائل الخلافية فيشرع في تدوينها منذ اليوم وفي كل أسبوع تجتمع هيئة مراقبة القضاء مع جملة من فطاحل العلماء وينظرون فيما يكون اجتمع لدى الهيئة من المسائل الخلافية وأوجه حكم كل مذهب من المذاهب فيها، وينظر في أقوى المذاهب حجة ودليلا من كتاب الله وسنة رسوله فيصدر قرار الهيئة على إقراره والسير على مقتضاه، وبهذه الوسيلة تجتمع لدى الهيئة معظم المسائل الخلافية التي هي منشأ الصعوبة في التأليف بين أحكام المذاهب ويصدر القرار بشأنها، ويكون هذا القرار ملزما لسائر المحاكم الشرعية والقضاة وأساسا قويا لتوحيد الأحكام وتأليفها. اهـ. المقصود، ثم تحولت الفكرة إلى أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد فقد صدر قرار الهيئة القضائية رقم 3 في 17/ 1 / 47 المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24/ 3 / 1347 هـ بما يأتي: -
(أ) أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل نظرا لسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
(ب) إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة، ويقرر السير فيها على ذلك المذهب مراعاة لما ذكر.
(جـ) يكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد على الكتب الآتية: -
1 -
شرح المنتهى.
2 -
شرح الإقناع.
فما اتفقا عليه أو انفرد به أحدهما فهو المتبع، وما اختلط فيه فالعمل على ما في المنتهى، وإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران يكون الحكم بما في شرحي الزاد أو الدليل إلى أن يحصل بها الشرحان، وإذا لم يجد القاضي نص القضية في الشروح المذكورة طلب نصها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها وقضى بالراجح اهـ.
ولم يكن الإلزام بالعمل بالراجح من المذهب ابتداء من ولي الأمر، وإنما كان بمشورة هيئة علمية هي الهيئة القضائية فالتزم القضاة التابعون لرئاسة القضاة بذلك، واستمر الالتزام به حتى وقتنا هذا، ويندر من أحدهم الخروج عن المذهب، فإن خرج نقض حكمه كما كان الحال بالنسبة للحكم الصادر من رئيس وقضاة محكمة الرياض بعدد 57/ 1 وتاريخ 2/ 8 / 86 هـ في قضية قسامة فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بالرياض بعدد 6/ 3 وتاريخ 6/ 10 / 87 هـ لعدة أسباب منها الخروج بذلك عن المذهب، وتأيد النقض من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله موجب خطابه رقم 3798/ 2 / 1 في 17/ 11 / 87 هـ، وكذا بالنسبة للحكم الصادر من محكمة الرياض بعدد 86/ 1 وتاريخ 9/ 6 / 88 هـ في قضية قسامة فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بعدد 7/ 3 وتاريخ 26/ 3 / 90 هـ.
كما صدر من سماحة رئيس القضاة ومفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله خطابه رقم 1492 وتاريخ 21/ 9 / 80 هـ ويتضمن الاعتراض على الفتوى باعتبار الثلاث في الطلاق واحدة. وقد جاء فيه ما نصه:
نفيدكم أن الذي عليه الفتوى وقوع مثل هذا الطلاق ثلاثا، وهو الذي عليه الجماهير من أهل الفتوى إلى أن قال: فلا ينبغي لأحد أن يفتي بخلاف ما عليه الفتوى في عموم المحاكم في سائر أنحاء المملكة لما في ذلك من الاختلاف الذي هو شر. إلى آخره. وأخيرا فإن هيئة التمييز بالمنطقة الوسطى قد أصدرت قرارا برقم 88/ 2 وتاريخ 20/ 3 / 91 هـ بصدد قضية رجل قتل
غيلة، وحكم على قاتله بالقتل دون التفات إلى عفو الورثة. جاء فيه ما نصه: -
أولا: أن هذا الحكم مخالف للمفتى به في مذهب أحمد أو مخالف لمذهبه بالكلية، وقد صرح العلماء أن المقلد إذا خالف مذهب إمامه ينقض حكمه. . إلى أن قالت.
ثانيا: أن إمام المسلمين أصدر التعليمات المقيدة لأحكام القضاة بأن تكون على المفتى به من مذهب أحمد، وفي بعض الأوامر قيد الحكم في ذلك في كتب معينة، ولا يخفى أن هذا تعيين مشترط والمسلمون عند شروطهم، والقاضي إذا أقدم على الحكم بشيء لم يعينه إمامه فيه ولم يسمح له يكون قد حكم بغير ما ولي فيه، ومعروف حكم ذلك، وقد وقع القرار المشار إليه رئيس الهيئة الشيخ عبد العزيز بن رشيد وأعضاؤها المشايخ محمد البواردي ومحمد بن سليم ومحمد بن عودة وصالح بن غصون كما أن هيئة التمييز بالمنطقة الغربية قد أصدرت قرارها رقم 505 وتاريخ 15/ 4 / 90 هـ حول قضية وقف انتهت فيه إلى أن المادة (121) والمادة رقم (122) من مجموعة النظم قد جاء فيها: أنه إذا لم يكن للوقف أو الوصية شرط ثابت أو عمل يستأنس به يجري النظر في دعوى المستحقين على بعض على المفتى به من مذهب الواقف أو الموصي إن علم، وإلا فيجري النظر على المذهب الذي كان الحكم بمقتضاه في زمن الواقف، وقالت الهيئة: إن القاضي يتخصص فيما يخوله ولي الأمر له. ومن هذا الاستعراض التاريخي القريب لهذه الفكرة وما ذكر من الوقائع يتضح بأنها من حيث العموم موضع التنفيذ وأن العمل جار على اعتبارها في مجالات القضاء والإفتاء والتدريس. وأن ما يرغب ولي الأمر - حفظه الله - إعطاء الرأي نحوه لا يخرج عن كونه تنظيما لهذا الوضع القائم مع الخروج عن التقيد المذهبي، وذلك بتعيين الأقوال الراجحة من قبل هيئة علمية على مستوى يسمح لها بذلك وتدوينها في كتاب يجري تعميمه على المحاكم للعمل به بدلا من أن