الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال (1). الرملي على قول النووي (مجتهد) قال: فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد، ومضى إلى أن قال بعد بيان صفة المجتهد المطلق: واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه. أما مقلد لا يعدو ومذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع، فإنه مع المجتهد كالمجتهد في نصوص الشرع، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه، كما لا يجوز له الاجتهاد مع النص.
قال (2). الإمام فخر الدين في كتابه ملخص البحر لا يجوز لمفتي على مذهب إمام أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته في ذلك المذهب، وأما المقلد فلا يجوز له الحكم بغير مذهب مقلده، إذا ألزمناه اتباعه ذكره الغزالي واقتصر عليه في الروضة وغيرها، وقال ابن الصلاح: لا يجوز لأحد في هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه، فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد، وكذا في أدب القضاء للفزي كلام ابن الصلاح، ومرادهم بالمقلد من حفظ مذهب إمامه ونصوصه لكن عاجز عن تقويم - وفي نسخه تقديم - أدلته غير عارف بغوامضه ا. هـ بواسطة - المنقور.
(1) نهاية المحتاج 8/ 240.
(2)
مجموع المنقور 2/ 152.
المذهب الحنبلي:
وعلى المقلد (1). أن يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها ويقلد كبار مذهبه في ذلك ويحكم به، ولو اعتقد خلافه لأنه مقلد ومخالفة المقلد في فتواه نص إمامه كمخالفة المفتي نص الشارع (الإنصاف) ومن حاشية ابن قندس قوله:" فعلى هذا يراعي ألفاظ إمامه " ومتأخرها ويقلد كبار مذهبه في ذلك ظاهره وجوب مراعاة ألفاظ إمامه ووجوب الحكم بمذهب إمامه وعدم الخروج عن الظاهر
(1) الإنصاف 11/ 179.
عنه وهذا كله يدل على أنه لا يصح حكمه بغير ذلك لمخالفته الواجب عليه - إلى أن قال -: وظاهر ما ذكره المصنف هنا وجوب العمل بقول إمامه والمنع من تقليده غيره، وظاهره ترجيح القول من منع تقليد غيره، وهذا هو اللائق لقضاة الزمان ضبطا للأحكام ومنعا من الحكم بالتشهي. فإن كثيرا من القضاة لا يخرجون من مذهب إمام بدليل شرعي بل لرغبة في الدنيا وكثرة الطبع، فإذا ألزم بمذهب إمامه كان أضبط وأسلم دائما يحصل ذلك إذا نقض حكمه بغير مذهب إمامه، وإلا فمتى أبقيناه حصل مراد قضاة السوء ولم تنحسم مادة السوء، ويرشح ذلك بأن يقال: هذه مسألة خلافية فبعضهم ألزم بذلك وبعضهم لم يلزمه، والإمام إذا ولاه الحكم على مذهب إمامه دون غيره فهو حكم من الإمام بإلزامه بذلك فيرتفع الخلاف - إلى أن قال -: قال بعض أصحابنا: مخالفة المفتي إمامه الذي قلده كمخالفة المفتي نص الشارع - إلى أن قال - قال النووي في الروضة: فرع إذا استقضى مقلدا للضرورة فحكم بغير مذهب مقلده قال الغزالي: إن قلنا: لا يجوز للمقلد تقليد من شاء بل عليه اتباع مقلده نقض حكمه، وإن قلنا: له تقليد من شاء لا ينقض - ثم قال -: الذي تقرر أن مذهبنا أن الحاكم لا يجوز له الحكم بغير مذهبه بخلاف الشافعية فيجوز أن يحكم بغير مذهب إمامه قال شيخنا.
قال (1). شيخ الإسلام ابن تيمية: وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس فعلى كل منهم أن يتحرى بما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله، واتباع كتاب الله ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان الواجب، وإن لم يمكن لضيق الوقت أو عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه هذا أقوى الأقوال، وقد قيل ليس له التقليد بكل حال، وقيل له التقليد بكل حال والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد.
(1) جزء 21 - من فتاوى شيخ الإسلام صحيفة (732 - 74).
وقال: ثم قد يكون الحاكم وقت الوقف له مذهب وبعد ذلك يكون للحاكم مذهب آخر. كما يكون في العراق وغيرها من بلاد الإسلام، فإنهم كانوا يولون القضاء تارة لحنفي وتارة لمالكي وتارة لشافعي وتارة لحنبلي. وهذا القاضي يولي في الأطراف من يوافقه على مذهبه تارة أو يخالفه أخرى، ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط وفي فساد العقد وجهان.
ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط (فعلوا)، فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما في التقدير كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولكن هذا لا يسوغ لواقف أن يجعل الخطر في الوقف إلا لذي مذهب معين دائما مع إمكان إلا أن يتولى في ذلك المذهب، فكيف إذا لم يشترط ذلك؛ ولهذا كان في بعض بلاد الإسلام يشرط على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب معين كما صار أيضا في بعضها بولاية قضاة مستقلين ثم عموم النظر في عموم العمل، وإن كان في كل من هذا نزاع معروف، وفيمن يعين إذا تنازع الخصمان: هل يعين الأقرب أو بالقرعة؟ فيه نزاع معروف وهذه الأمور التي فيها اجتهاد إذا فعلها ولي الأمر نفذ.
أما العلماء المعاصرون الذين يرون التدوين والإلزام فإننا نورد أقوالهم ما يلي: -
قال (1). الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا: والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها ويأمر بالعدل بقول ضعيف مرجوح إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك، فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به وبذلك صرح فقهاؤنا وفقا لقاعدة
(1) المدخل الفقهي العام 1/ 391 ونسبه إلى رد المحتار 1/ 55.
(المصالح المرسلة). وقاعدة تبدل الأحكام بتبدل الزمان ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السطان إذا أمر بأمر في موضوع اجتهادي " أي قابل للاجتهاد غير مصادم للنصوص القطعية في الشريعة " كان أمره واجب الاحترام والتنفيذ شرعا.
وقال (1). أيضا تعليقا على ذلك: جاء في كتاب الوقف من الدر المختار وحاشيته رد المحتار نقلا عن معروضات المولى أبي السعود - وهو مفتي المملكة العثمانية، ثم قاضي القسطنطينية في عهد السلطانين سليمان وسليم، ومن كبار رجال المذهب الحنفي المتأخرين المعول على فتاويهم وترجيحاتهم - أنه إذا صدر الأمر السلطاني بعدم نفاذ وقف المدين في القدر الذي يتوقف تسديد الدين من أمواله عليه قطعا لما يلجأ إليه بعض الناس من وقف أموالهم لتهريبها من وجه الدائنين.
وبناء على الأمر صرح الفقهاء من بعده بعدم نفاذ مثل هذا الموقف شرعا، وقد كانت النصوص في أصل المذهب صريحة في نفاذ وقف المدين ولو كان دينا محيطا بجميع أمواله؛ لأن الدين إنما يتعلق بذمته لا بعينه، ومضى إلى أن قال: والمهم جدا في هذه النصوص ليس هو الموضوعات التي وردت فيها بل المبدأ الفقهي الذي تتضمنه لما له من تأثير ذي بال في شتى الأحكام وقال الدكتور أحمد موافي - في كتابه الفقه الجنائي المقارن:
ومن القواعد المقررة في الشرعية الإسلامية أن لولي الأمر ولاية حمل الناس على ما يختاره لهم من الأحكام وصياغتها في نصوص مكتوبة يلزم بها القضاة.
وينهي الدكتور أحمد موافي بحثه بقوله: وهكذا نخلص مما تقدم إلى: -
1 -
أن تدوين الأحكام في الشرع عمل سائغ.
2 -
أن الأحكام موجودة من قبل التدوين على عكس القوانين الوضعية فإنها
(1) المدخل الفقهي العام 1/ 392 وما بعدها.
لا تعتبر قائمة إلا من بعد تدوينها.
3 -
وأن غير المدون في القوانين لا يعتبر حكما، ولكنه في الشرع يستدل عليه بالاجتهاد ويستنبط بالطرق المرسومة لذلك في علم الأصول.
4 -
وأنه يمكن مسايرة التطور بالبحث عن حكم الله وصياغته في مواد كلما دعت حاجة المجتمع ومصلحته إلى ذلك؛ لأنه حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله.
5 -
وأن لولي الأمر ولاية حمل الناس على إلزامهم باتباع حكم بذاته غير مقيد في ذلك المجتمع ومصلحته ما دام يرى المصلحة في ذلك.
هذا وقد أسلفنا أن الشرع الإسلامي من وضع الله سبحانه وتعالى، فكل حكم في الشريعة الإسلامية منه جلت قدرته قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (1) فقد أنزل الله الشريعة على رسوله بالقرآن الكريم ومما أوحاه إليه من أحكام وبما أمره عليه من اجتهاد، وفي ذلك يقول سبحانه:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2).
وقال الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر المتوفى عام 1365 هـ، وكان رئيسا لمحكمة مصر الشرعية العليا - القاضي المقلد لا ينفذ قضاؤه بخلاف مذهب متبوعه عامدا أو ناسيا؛ لأنه إنما ولي ليحكم بمذهب متبوعه - كأبي حنيفة مثلا - فهو معزول عن الحكم بغير هذا المذهب، وللسلطان أن يحكم ويقضي بين الخصوم على المفتى به، ومتى صادف مجتهدا فيه نفذ أمره ولا شبهة في أن علة عدم نفاذ حكم القاضي بخلاف مذهبه سواء كان مجتهدا أم مقلدا انحصرت في أمرين:
- الأول: اتباع الهوى.
- الثاني: عزله عن خلاف مذهبه.
(1) سورة الأنعام الآية 57
(2)
سورة الجاثية الآية 18
ونحن لا نخالف في هذا ونصرح بأن الحكم بالهوى باطل. ونصرح بأن الحكم بخلاف ما أذن به القاضي من الحاكم الذي ولاه باطل. ولكن الذي نتحدث عنه شيء وراء هذا كله؛ ذلك أننا نتحدث عن شيء سيضعه الحاكم ويلزم فيه القضاة باتباع مذاهب معينة غير مذاهبهم لمصلحة رآها ورآها المسلمون، ونحن نصرح بأن هذا جائز شرعا، وأن القاضي يجب عليه شرعا أن يقضي في مثل هذا بما يقيده به الحاكم، ولا يجوز له أن يقضي بغير ما قيده به الحاكم، وإلا كان قضاؤه باطلا؛ وذلك لأن القاضي نائب عن الحاكم في الحكم، وقد كان يجوز للحاكم أن يقضي بالأقوال التي يريد تقييد قضائه بها فيجب عليهم اتباع شروط التوكيل عنه، إلى أن قال: والمجتهد يحرم عليه شرعا أن يعمل بغير رأيه سواء كان مجتهدا مطلقا أو مجتهدا في مسألة أو مسائل خاصة، والمقلد الذي يستطيع النظر في الأدلة وترجيح بعضها على بعض يجب عليه أن يعمل بما يرجح عنده بالدليل، ولا يجوز له أن يتخير، ومن يستطيع الترجيح يتخير أو يعمل بما يطمئن إليه قلبه.
والقاضي والمفتي لا يحيدان عن هذا غير أن القاضي يمتاز عمن يريد العمل لنفسه؛ ذلك أنه عندما يقلد القضاء من الحاكم يجب عليه اتباع شروط الحاكم الذي ولاه، فإن ولاه على أن يحكم بمذهب إمام معين كأبي حنيفة مثلا وجب عليه امتثاله، وإن حتم عليه العمل بالراجح وجب عليه امتثاله، وإن نص في منشوره على العمل بأقوال قيل: إنها مرجوحة في مسائل معينة وجب عليه امتثاله، وإن نص في منشوره على العمل بغير مذهب أبي حنيفة في مسائل معينة وجب عليه امتثاله، ومتى حكم القاضي بما يقيده له الحاكم الذي ولاه لا يمكن أن يقال: إن حكمه للهوى والغرض ولا أنه حكم بأخذ المال.
أما الشيخ أبو الأعلى المودودي فقد دعا في كتابه القانون الإسلامي إلى تدوين الأحكام الفقهية على شكل مواد وفق الأسلوب الحديث لتنفذها المحاكم وتدرسها كليات الحقوق.
ومن هذه الأقوال التي نقلناها عن عدد من علماء المذاهب الأربعة وما
اطلعنا عليه ضمن بحث اللجنة الدائمة نستطيع أن نقول: إن الإجماع يكاد يكون منعقدا على أن من توفرت فيه من القضاة شروط الاجتهاد التي ذكرها العلماء في كتبهم، فإنه لا يجوز إلزامهم بالحكم بمذهب معين، أما إذا كان القاضي مقلدا ولا يتصف بأي شروط من شروط الاجتهاد كما هو حال قضاتنا - فإن الأقوال طافحة وصريحة بأن إلزام أمثال هؤلاء بالحكم بمذهب معين - أمر سائغ. والذين لا يجيزون الإلزام بالحكم بمذهب معين فإنهم لا يقولون بأن غير المجتهد من القضاة لا يصح إلزامه؛ لأنهم يرون أن تولية القضاء غير المجتهد غير صحيح وهو رأي فيه من الحرج والضيق الشيء الكثير، وما أحسن قول شهاب الدين بن عطوة في هذا المقام حيث يقول: فإن ولاية الحكام في وقتنا ولايات صحيحة؛ لأنهم سدوا من ثغور الإسلام ثغرا سده فرض كفاية - ولو - أهملنا هذا القول ومشينا على طريقة التفاؤل التي يمشي عليها من مشى من الفقهاء الذين يذكر كل منهم في كتابه شروطا في القاضي إذا قلنا به - لم يصح أن يكون أحد قاضيا حتى يكون من أهل الاجتهاد، ثم يذكر في شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام فهذه إحالة أو كالتناقض، وكانت تعطيلا للأحكام وسدا للباب وألا ينفذ حق ولا يكاتب فيه ولا تقام بينه إلى غير ذلك من القواعد الشرعية - فكان هذا غير صحيح. اهـ.
رابعا: لئن كان للإلزام بالحكم بقول معين بعض المآخذ التي قد يكون من أهمها تبلد الفكر والجمود بالبحث، فإن في ذلك من المصالح العامة التي تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفاظ ما يدعو إلى التغاضي عن هذه المآخذ تطبيقا لقاعدة ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما، فالدواعي إلى الأخذ بذلك كثيرة نذكر منها ما يلي: -
(1)
ما عليه غالب القضاة من مستوى علمي ضعيف لا يستطيعون به الاجتهاد لأنفسهم ولا إدراك الراجح من مذهب من هم منتسبون إليه من بين الأقوال المبثوثة في كتب المذهب، لا سيما وفي الكتب المؤلفة في المذهب أقوال مختلفة يذكر كل مؤلف في الغالب أن ما ذكره في هذه
المسألة مثلا هو المذهب كما هو الأمر بالنسبة للمنتهى والإنصاف وغيرهما من كتب الحنابلة.
(ب) ما نتج عن إطلاق الأمر للقاضي في تعيينه الراجح من المذهب أو إطلاق الأمر إليه في الاجتهاد في الحكم بما يراه من الاختلاف في الأحكام الصادرة من المحاكم، ومن الاختلاف في اتجاهاتها فهذه تحكم بصرف النظر عن دعوى القسامة مثلا لعجز المدعي عن إحضار خمسين رجلا يحلفون خمسين يمينا على قتل المدعي صاحبهم، والأخرى تحكم بقتل المدعى عليه لحلف ورثة القتيل خمسين يمينا فيترك الأول ويقتل الثاني، كما أن إحدى المحاكم تحكم بقطع يد السارق بغض النظر عن مطالبة المسروق منه ذلك، بينما تشترط المحكمة الأخرى للحكم بقطع يده مطالبة المسروق منه بذلك فتقطع يد الأول وتترك يد الثاني، وهذه تحكم بالشفعة، وهذه تمنعها، وهذه تحكم بملكية المقطع، والأخرى تحكم بالاختصاص دون التملك، مما كان لذلك أثره السيئ في نفوس كثير من الناس قد يكون منه اتهام القضاة في أحكامهم بالهوى والتشفي والاستهانة بالحقوق ومجريا.
(جـ) كثرة الشكاوى من فئات مختلفة داخل البلاد وخارجها من أن القضاء في البلاد غير واضح المعالم حتى لطلبة العلم أنفسهم إذ إن أحدهم يمكن أن يكون طرفا في خصومة عند أحد القضاة، وقد يكون مستواه العلمي أعلى من مستوى القاضي نفسه، ومع ذلك لا يدري بم يحكم القاضي به، وقد كان لذلك أثره السيئ في تبرم البعض من حال القضاء لدينا وفي الطعن فيه من بعضهم بأنه يحكم أنه غير واضح المعالم في تحقيق العدل وفض النزاع ليس موضع ثقة.
(د) القضاء على التعللات التي كانت تبريرا لإيجاد محاكم مستقلة عن الجهة الإدارية للقضاء لدينا كمحاكم الرشوة والتزوير ومكافحة المخدرات وفض المنازعات التجارية وغيرها مما هو موجود أو في طريقه إلى الوجود
مما كان له أثره في تفتت الوحدة القضائية وتقلص اختصاص المحاكم الشرعية.
(هـ) منع الجائز لدى بعض أهل العمل قد يترتب عليه حصول مفسدة، ويخشى أن في الإبقاء على الوضع القائم ما يدعو إلى ما لا تحمد عقباه.
وفي التاريخ من ذلك عبر.
(و) استحالة تنفيذ الرأي الذي أشار إليه بعض الزملاء في إعطاء بعض القضاة الحرية فيما يحكمون به للثقة بقدراتهم العلمية وتقييد الآخرين بالراجح من مذهب الإمام أحمد لاستحالة تصنيف القضاة إلى هذين القسمين.
(ز) اختلاف وجهات النظر حتى لدى محكمي التمييز في الرياض ومكة، ونذكر لذلك مثالا: فقد سبق أن قامت محكمة التمييز بالرياض بنقض حكم بالقسامة صادر من محكمة الرياض؛ لأنه كان مبنيا على قول مرجوح في المذهب بينما كانت محكمة التمييز في مكة المكرمة تشير إلى المحكمة الكبرى بمكة في قضية قتل بأن تحكم فيها بالقسامة بالقول المرجوح الذي قامت محكمة التمييز في الرياض بنقض الحكم المبني عليه.
(حـ) أن اختلاف الأحكام القضائية في صدر الإسلام لم يبعث على تدوين أحكام موحدة وعلى الإلزام برأي معين لقوة العلماء في ذلك العهد وكفايتهم فتوفرت الثقة في نفوس الأمة وأمنت الفتنة فلم يكن ثم حاجة إلى التدوين والإلزام به. أما في زمننا هذا وما قبله من أزمان بعد أن طرأ الضعف على الكيان الإسلامي فالحاجة ملحة إلى التدوين بالطريقة المقترحة والإلزام بالحكم بمقتضى ما دون أمر لا بد منه رعاية للمصلحة وحفظا للحقوق وإبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية.
(ط) حدوث مسائل جديدة ليس في الكتب الفقهية المعتمدة لدى القضاة لها
ذكر كالمعاملات المصرفية ومسائل المقاولات والمناقصات وشروط الجزاء ومشاكل الاستيراد والتصدير والتأمين بمختلف جوانبه ونحو ذلك مما لا قدرة لغالب القضاة على معرفة الحكم الذي يحكمون به في الخلاف حولها، مما كان سببا في إيجاد محاكم أخرى لها جهة إدارية مستقلة عن الجهة الإدارية للمحاكم الشرعية، وفي اشتمال هذه المحاكم على قضاة قانونيين يشتركون مع القضاة الشرعيين، وذلك كمحاكم الرشوة وفض المنازعات التجارية وغيرها.
(ى) هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية ممن أبعدها الاستعمار عن روح الشريعة، فبعد أن استقلت وتنفست الصعداء من ثقل وطأة المستعمر عليها راحت تخطط لعروبتها إلى الحكم بالشريعة الإسلامية إلا أنها تقرر العجز في اختيار ما تراه وليس أمامها شيء ميسور يمكن أن تسير عليه، ونمثل لذلك بباكستان. وإن الغيورين على الشريعة الإسلامية أخذوا في الآونة الأخيرة يطالبون بوضع قانون إسلامي مستمد من الشريعة الإسلامية - وعقدت لأجل ذلك المؤتمرات، ولذلك فإن على بلادنا أن تأخذ بزمام المبادرة وتقدم للعالم الإسلامي أحكاما إسلامية مدونة، وبلادنا أقدر البلاد الإسلامية على مثل تلك المبادرة لعدم وجود أي سيادة أو فكر للقانون الوضعي، والحمد الله.
خامسا: أن الإلزام بقول معين كان موضع الاعتبار والتنفيذ من الصدر الأول في الإسلام. ففي عهد عثمان رضي الله عنه جمع القرآن على حرف واحد ومنع القراءة بالحروف الأخرى، وأحرق المصاحف المخالفة؛ وذلك تحقيقا لمصلحة المسلمين وحفاظا على وحدة القرآن أن يكون موضع اختلاف، وكان الخير فيما فصل، ولا يرد ما قيل بأن الرسم العثماني كان مشتملا على جميع القراءات السبع حسب العرضة الأخيرة، فإن العرضة الأخيرة لم يشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد بن ثابت وليس في أمر عثمان للأربعة الأفاضل الذين
عهد إليهم بالمهمة أن يكون الجمع طبقا للعرضة الأخيرة. ثم إن تنقيط المصحف كان في القرن الأول من قرون الإسلام، قام به الحجاج بن يوسف، وقد تلقاه الناس بالقبول والارتياح، واعتبرت هذه مزية كريمة للحجاج مع أن التنقيط يستلزم إلغاء القراءات الأخرى في الرسم العثماني على افتراض أن يشملها بدون تنقيط. وفي عهد معاوية ألزم بتوريث المسلم من الكافر دون العكس، فكان شريح يقضي بذلك ويقول: هذا قضاء أمير المؤمنين، وفي زمننا صدرت عن الجهة المسئولة في القضاء لدينا مجموعة تعاميم لاعتبارها في المحاكم والتمشي بموجبها، ومن ذلك الاستشمام ومقادير الديات ونظام المساييل وغيرها.
سادسا: ما يقال بأن التدوين خطوة إلى إلغاء الشريعة الإسلامية والاستدلال على ذلك بأن حكومة ما دونت الراجح من مذهب من هي منتسبة إليه في مواد وألزمت العمل بذلك في محاكمها ثم ألغت الشريعة مطلقا، فهذا مردود لأن تلك الحكومة لم يقتصر تنكرها للدين على المسلك القضائي في المحاكم وإنما نفضت يدها من الدين مطلقا وانتقلت إلى دولة علمانية، ثم إن هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية ليست دولة أو دولتين لم يكن لها مواد مدونة من الشريعة الإسلامية، وإنما كانت محاكمها تحكم بالراجح من مذهب إمام ما من أئمة المسلمين فكان منها والعياذ بالله أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية وأخذت بقوانين أوربا وغيرها وتركت التعاليم الإسلامية عن القضاء خاصة بالأحوال الشخصية. نقصد بذلك أن التدوين ليس وسيلة إلى تحقق ما بدت المخاوف منه.
وأما القول بأن في التدوين تبليدا للفكر وجمودا به عن البحث والاستقصاء فيجاب عن ذلك بأمرين: الأمر الأول: أن الإلزام بمذهب معين كان موضع التنفيذ لدى كثير من ولاة أمر المسلمين على مختلف الأمصار والأعصار ولم يكن هذا مانعا من الاتساع الفقهي بل إن مطولات الكتب في الفقه لم
توجد إلا في هذه الفترات.
الأمر الثاني: أن الإلزام ليس شاملا للجهات العلمية المختلفة وإنما هو خاص بالقضاة فيما يحكمون به مع أن القاضي إذا كان لديه الأهلية في البحث والاستقصاء والاجتهاد فإن الجهة المختصة به إداريا ستعير اجتهاده ما يستحقه، كما أن تدوين الأحكام لا يمكن أن يكون شاملا لجميع القضايا؛ فإن الأمر كما قيل:" القضايا ممدودة والأحكام محدودة " فللقضاة مجال البحث والتحقيق في قياس ما لم ينص عليه على ما نص عليه، وذلك بالرجوع إلى المصادر الشرعية المستقى منها هذا التدوين. ثم إن طبيعة العمل القضائي لا سيما في العصور المتأخرة تقتضي تبلد الفكر وركود الحصيلة، والقضاة يقررون ذلك ويكثرون من الشكوى منه، وقد روي عن الإمام أبي حنيفة أنه لا يرى أن يتولى القاضي القضاء أكثر من سنتين خشية ضياع علمه. .
سابعا: أن النهوض بالمرفق القضائي يتطلب مجموعة عوامل يعتبر التدوين في نظرنا أحدها لا أنه العامل الوحيد للنهوض بمستواه، بمعنى أن الاقتصار عليه لا يعطي نتيجة مرضية في ذلك.
لذلك كله وبحكم ممارسة أكثرنا للأعمال القضائية مدة طويلة - حكما وتدقيقا - وما نتج عن ذلك من إدراك لأحوال القضاة واطلاع على جوانب النقص في أحكام غالبيتهم، وتحسبا لما نخشى وقوعه في حال رفض هذه الفكرة - فإننا نرى جواز تدوين الأحكام الشرعية المختارة من أرجح أقوال العلماء دليلا في كتاب يجري تعميمه على المحاكم وإلزام القضاة الحكم بموجبه، وإلى أن يتم التدوين نرى أن يؤكد ما سبق صدوره في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله من أن الحكم يكون بالراجح من مذهب الإمام أحمد ما عدا المسائل التي يصدر فيها قرار من هيئة كبار العلماء أو مجلس القضاء الأعلى بأن الراجح فيها من حيث الدليل خلاف الراجح في المذهب. وإذا ظهر لأحد القضاة وجه
للحكم في قضية بخلاف ذلك فعليه الرفع عن وجهة نظره مع ذكر مستنده إلى مرجعه لدراسة ذلك في مجلس القضاء الأعلى.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم