الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صالحة للزراعة حتى أصبحت خرابا يبابا منبتا للأشواك.
ومن أجرى مقارنة عادلة بين الزراعة، وبين كثير من الوظائف الإدارية والكتابية، وجد الفرق بينهما واضحا، والفضل لها ظاهرا.
فالزراعة أقرب إلى التوكل، وأدعى إلى التخشن، وقوة الجسم لما فيها من الحركة والنشاط، والمزارع أنقى جوا، وأصح جسما، وأبعد عن الضوضاء والتلوث بسبب نقاء الهواء، وسلامة الغذاء من الصناعة والمواد الكيمياوية ولذلك تجد الموظفين والإداريين على اختلاف درجاتهم لا يستغنون عن ساعات من الاستجمام والراحة يقضونها في المزارع والحقول وبين البساتين يمتعون أنظارهم، ويريحون أفكارهم، وأجسادهم، ويبتعدون عن ضوضاء المدينة، وصخب المصانع، وهدير الآلات، ويعودون وقد ملئوا نشاطا وحيوية وسعادة. إن تلك النظرة الخاطئة عن الزراعة قد أنكرها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في الزراعة ويحث عليها، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلا مر به وهو يغرس غرسا بدمشق فقال: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تعجل علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غرس غرسا لم يأكل منه آدمي، ولا خلق من خلق الله إلا كان له به صدقة (1)» .
(1) أخرجه أحمد (6/ 444) والطبراني قال الهيثمي: رجاله موثقون وفيهم كلام لا يضر (مجمع الزوائد 3/ 68). قلت: في إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الدمشقي صاحب أبي أمامة وهو صدوق إلا أنه يغرب كثيرا (انظر التقريب 1/ 450) وفي سماعه من أبي الدرداء نظر، والله أعلم.
التشجيع على الزراعة لا يعني إهمال الواجبات:
إن فضل الزراعة والغرس وإعمار الأرض لا يجوز أن يشغل المسلم عما هو أهم أو يطغى على غيره من الواجبات الأخرى كطلب العلم، والجهاد وغير ذلك.
وعلى هذا تحمل الأحاديث والآثار الواردة في التنفير من اتخاذ الضيعة أو الاشتغال بالحرث والزرع.
فالزراعة كغيرها من المهن - لا يجوز أن يشغل بها المرء عن واجباته الشرعية أو أن يفرط في حقوق الله تعالى، أو حقوق الآدميين من أبناء وبنات وأسرة وغيرهم ممن لهم عليه حق التربية والتعليم، أو أن يستكثر منها بحيث يترك الجمعات والجماعات، وينقطع عن مجالس العلم، ومواطن التذكير، أو يقوده الربح فيها إلى الطمع والشح، وإمساك حق الفقراء بمنع الزكاة، فيكون بذلك قد ارتكب ما حرم الله تعالى، وتعدى وظلم.
قال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث أنس: «ما من مسلم يغرس غرسا (1)» في الحديث فضل الغرس والزرع، والحض على عمارة الأرض، ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها، وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة وحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا «لا تتخذوا الضيعة فتركبوا في الدنيا (2)» قال القرطبي: يجمع بينه وبين حديث الباب - أي حديث أنس - بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين، وحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها ا. هـ (3).
وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا فقال: (باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به) ثم أورد حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: وقد رأى سكة وشيئا من آلة الحرث -: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل (4)» ، وفي رواية في المستخرج:«إلا أدخلوا على أنفسهم ذلا لا يخرج عنهم إلى يوم القيامة (5)» .
(1) صحيح البخاري المزارعة (2320)، صحيح مسلم المساقاة (1553)، سنن الترمذي الأحكام (1382)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 229).
(2)
سنن الترمذي الزهد (2328)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 377).
(3)
ابن حجر، فتح الباري (5/ 401).
(4)
صحيح البخاري المزارعة (2321).
(5)
وأما قول الأستاذ أنور الرفاعي: إننا نشك في صحة هذا الحديث لأنه يتنافى مع المبدأ الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم في تشجيع الزراعة وإحياء الموات: فأقول: لا معنى لهذا الشك والحديث في صحيح البخاري، ثم هو لا يتعارض مع المبدأ الذي سار عليه صلى الله عليه وسلم إذ مبدؤه أن لا يطغى جانب على الآخر، فتشجيعه للزراعة لا يعني الإخلاد إلى الأرض وترك الواجبات الأخرى.
قال ابن حجر: أو أراد بذلك ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم الولاة بها وكان العمل في الأرض أول ما فتحت على أهل الذمة فكان الصحابة يكرهون تعاطي ذلك.
قال: وقد أشار البخاري بالترجمة إلى الجمع بين حديث أبي أمامة، والحديث الماضي في فضل الزرع والغرس، وذلك بأحد أمرين:
إما أن يحمل ما ورد من الذم على عاقبة ذلك ومحله ما إذا اشتغل به فضيع بسببه ما أمر بحفظه.
وإما أن يحمل على ما إذا لم يضيع إلا أنه جاوز الحد فيه.
ونقل ابن حجر أيضا عن الداودي أن هذا يحمل على من يقرب من العدو فإنه إذا اشتغل بالحرث لا يشتغل بالفروسية فيتأسد عليه العدو فحقهم أن يشتغلوا بالفروسية، وعلى غيرهم إمدادهم بما يحتاجون إليه (1).
وقال العيني: المقصود الترغيب والحث على الجهاد (2).
ولا ريب أن الاشتغال بالزراعة، وترك الجهاد، وأعمال الفروسية، من أسباب ذلة الأمة.
ولقد كان في درس الأندلس أعظم العبر والعظات للمسلمين حيث انصرفوا آخر أمرهم إلى الترف، والتأنق في العمارة، والاشتغال بالزراعة وبناء الجسور، والقنوات، وصناعة الآلات الرافعة كالنواعير والدواليب والمبالغة في الاهتمام بالأزهار، والورود والعطور، وانصرفوا عن أخلاق الفروسية، وصناعة الآلات الحربية، وتركوا أشعار الحماسة والجهاد إلى أشعار الوصف والغزل إلى أن دهمهم العدو المتربص، وأحاط بهم من كل جانب فرزأهم في
(1) ابن حجر، فتح الباري (5/ 402).
(2)
بدر الدين العيني، عمدة القاري (12/ 155).