الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونظرا إلى أن الحدود لا تثبت إلا بتوقيف في أصلها وكيفيتها فلا يدخل اجتهاد، أما العقوبات التي تعتبر تعزيرا لا حدودا فإنها محل اجتهاد الإمام فيجوز فيها التجزئة إذا رأى المصلحة في ذلك.
خامسا: ما يثبت به شربها من شهادة أو رائحة أو قيء ونحو ذلك
.
يثبت شرب الخمر بشهادة الشهود والإقرار والرائحة والسكر والقيء، ونظرا إلى أن الرائحة والقيء من قرائن الأحوال التي يثبت بها الشرب عند من يقول بالاستدلال بها على ذلك فإننا نذكر نقولا عن أهل العلم بالعمل بالقرائن، ثم نذكر أدلة العمل بها من الكتاب والسنة وطائفة من أمثلة العمل بها وبعد ذلك نتكلم على هذه الأدلة الخمسة مبينين خلاف العلماء في كل دليل ومستندهم مع المناقشة:
أ - أما كلام العلماء فمن ذلك ما جاء في معين الحكام قال بعض العلماء: على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها وقد جاء العمل بها في مسائل اتفق عليها الطوائف الأربع انتهى.
وقال ابن فرحون نقلا عن ابن العربي ما يتفق مع هذا الكلام (1).
وقال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى
(1) معين الحكام - / 161 - 2 تبصرة الحكام 2/ 101 على هامش فتاوى عليش.
والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلي معرفة حكم الله ورسوله - ومضى في ذكر الأدلة والأمثلة إلى أن قال - ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله. انتهى (1).
ب - وأما ما يدل على ذلك من الكتاب فمنه قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (2){وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (3){فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (4).
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله على هذه الآية: يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على
(1) إعلام الموقعين 1/ 94 - 95.
(2)
سورة يوسف الآية 26
(3)
سورة يوسف الآية 27
(4)
سورة يوسف الآية 28
أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب، لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها فإن عارضها قرينة أقوى منها بطلت وذلك في قوله تعالى:{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (1) لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب، ولاشك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرنية أقوى منها وهي عدم شق القميص فقال: سبحان الله! متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يشق قميصه؟!، ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (2)
وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن (3) انتهى.
والأظهر أن تكذيب يعقوب لبنيه في دعواهم أن الذئب أكل يوسف ليس من أجل كون الدم ليس دم إنسان، ولا من أجل كون الثوب لم يخرق، لأن هذين الأمرين منقولا عن بني إسرائيل ونحوهم وأخبارهم لا تصدق ولا تكذب ولا يعتمد عليها إلا بدليل يدل على صحتها، وإنما كذبهم لأمر آخر إما لكون الرؤيا
(1) سورة يوسف الآية 18
(2)
سورة يوسف الآية 18
(3)
أضواء البيان 3/ 69 - 70 ويرجع إلى تبصرة الحكام لابن فرحون 2/ 101.
التي رآها يوسف في سجود الكواكب والشمس والقمر له لم تتحقق بعد، وإما لوحي أوحاه الله إليه عرف منة ما يدل على كذبهم في دعواهم.
ج - وأما الأدلة من السنة فمن ذلك:
1 -
أنه صلى الله عليه وسلم حكم باللوث في القسامة وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة.
2 -
أنه صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده فقال: «العهد قريب والمال أكثر من ذلك» .
3 -
أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها وجعل وصفه لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة.
4 -
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بالقافة وجعلها دليلا على ثبوت النسب وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات.
5 -
ابنا عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: أرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما: هذا قتله، وحكم له بسلبه (1).
د - وأما المسائل التطبيقية للعمل بها فقد ذكر صاحب معين الحكام وابن فرحون والإمام ابن القيم مسائل كثيرة نذكر
(1) تبصرة الحكام 2/ 103.
منها ما يلي:
الأولى: أن الفقهاء كلهم يقولون بجواز وطء المرأة إذا أهديت إليه ليلة الزفاف وإن لم يشهد عنده عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقدت عليها، وإن لم يستنطق النساء أن هذه امرأته، اعتمادا على الظاهرة المنزلة منزلة الشهادة.
الثانية: أن الناس قديما وحديثا لم يزالوا يعتمدون في الصبيان والإماء المرسل معهم الهدايا، وأنها مرسلة إليهم فيقبلون أموالهم ويأكلون الطعام المرسل به، ونقل القرافي أن خبر الكافر في ذلك كاف.
الثالثة: أنهم يعتبرون إذن الصبيان في الدخول إلى المنزل.
الرابعة: أن الضيف يشرب من كوز صاحب البيت ويتكئ على وسادته ويقضي حاجته في مرحاضه من غير استئذان ولا يعد متصرفا في ملكه بغير إذنه.
الخامسة: جواز أخذ ما يسقط من الإنسان إذا لم يعرف صاحبه مما لا يتبعه كالفلس والتمرة والعصا التافهة الثمن ونحو ذلك.
هـ - وأما الأدلة التي يستدل بها على شربها فقد سبق أنها الشهادة والإقرار والرائحة والقيء والسكر، فأما الشهادة فيشترط
أن لا يقل عدد الشهود عن رجلين تتوفر فيهما شروط الشهادة ويزيد أبو حنيفة وأبو يوسف على هذا بأن تكون الرائحة قائمة وقت تحمل الشهادة، ويخالفهما محمد فلا يشترط ذلك.
وأما الإقرار فيكفي مرة واحدة في المذاهب الأربعة، ويرى أبو يوسف أن كل إقرار يسقط بالرجوع فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود فلا بد من الإقرار مرتين عنده، وأما الرائحة فالمقدم في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يجب الحد بوجود الرائحة، وبها قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى، ويخالفهم مالك رحمه الله فيرى وجوب الحد بوجود الرائحة، وقوله هذا رواية عن أحمد رحمه الله.
وكذلك القيء لا يعتبر وجوده دليلا شرعيا عند أبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله ورواية عن أحمد رحمه الله، ويخالفهم مالك رحمه الله وهو الرواية الثانية في مذهب أحمد رحمه الله وهو القول بوجوب الحد اعتمادا على القيء.
وأما السكر فالشافعي ومن وافقه يرون عدم حده، والرواية المقدمة في مذهب أحمد ومن يقول بها من العلماء أنه يحد.
وفيما يلي نقول عن فقهاء الإسلام في ذلك مع أدلتهم ومناقشتها:
1 -
جاء في البداية وشرحها الهداية (ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة وجاءوا به سكران فشهد الشهود عليه بذلك فعليه الحد وكذلك إذا أقر وريحها موجودة) لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد والأصل في قوله عليه الصلاة والسلام
«من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه (1)» .
وإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يحد، وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها، والسكر لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يحد، فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزنا، وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمن والرائحة قد تكون من غيره كما قيل:
يقولون لي أني شربت مدامة
…
فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا
وعندهما يقدر بزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه فيه: فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه.
ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة القرب، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل وإنما تشتبه على الجهال. وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد رحمه الله كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهم لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة، لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود رضي الله عنه، وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا.
فإن أخذه الشهود وريحها توجد منه وهو سكران فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به صرف قولهم جميعا، لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا والشاهد
(1) سنن أبو داود الحدود (4485).
لا يتهم في مثله.
(ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها) لأن الرائحة محتملة وكذا الشرب قد يقع عن إكراه أو اضطرار. ويثبت الشرب بشهادة شاهدين ويثبت بالإقرار مرة واحدة، (وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط الإقرار مرتين وهو نظير الاختلاف في السرقة. . ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال) لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان. انتهى (1).
وقال ابن الهمام على قول صاحب الهداية: (والرائحة قد تكون من غيره. . فظهر أن رائحة الخمر مما تلتبس بغيرها فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها ولا بذهابها، ولو سلمنا أنها لا تلتبس على ذوي المعرفة فلا موجب لتقييد العمل بالبينة بوجودها، لأن المعقول تقييد قبولها بعدم التهمة والتهمة لا تتحقق في الشهادة بسبب وقوعها بعد ذهاب الرائحة بل بسب تأخير الأداء تأخيرا يعد تفريطا وذلك منتفي في تأخير يوم ونحوه وبه تذهب الرائحة.
أجاب المصنف وغيره بما حاصله: أن اشتراط قيام الرائحة لقبول الشهادة عرف من قول ابن مسعود، وهو ما روى عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن يحيى بن عبد الله التميمي الجابر عن أبي ماجد الحنفي قال: " جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود فقال عبد الله: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه
(1) البداية ومعها الهداية 2/ 111، 112.
ففعلوا، فرفعه إلى السجن ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر به فدقت ثمرته بين حجرين حتى صارت درة ثم قال للجلاد: اجلد وأرجع يدك وأعط كل عضو حقه ".
ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني ورواه إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن عبد الحميد عن يحيى بن عبد الله الجابر به.
ودفع بأن محل النزاع كون الشهادة لا يعمل بها إلا مع قيام الرائحة، والحديث المذكور عن ابن مسعود ليس فيه شهادة منع من العمل بها لعدم الرائحة وقت أدائها بفعل ولا إقرار إنما فيه أنه حده بظهور الرائحة بالترترة والمزمزة، والمزمزة: التحريك بعنف والترترة والتلتلة: التحريك، وهما بتاءين متتاليتن من فوق، قال ذو الرمة يصف بعيرا:
بعيد مساف الخطو غوج شمردل
…
تقطع أنفاس المهارى تلاتله
أي حركاته، والمساف جمع مسافة. والغوج بالغين المعجمة الواسع الصدر، ومعنى تقطيع تلاتله أنفاس المهارى: أنه إذا باراها في السير أظهر في أنفاسها الضيق والتتابع لما يجهدها، وإنما فعله لأن بالتحرك تظهر الرائحة من المعدة التي كانت خفت وكان ذلك مذهبه، ويدل عليه ما في الصحيحين: " عن ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت فقال عبد الله: والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت فبينما هو يكلمه إذ وجد منه رائحة الخمر فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب فضربه الحد.
وأخرج الدارقطني بسند صحيح " عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب أنه ضرب رجلا وجد منه ريح الخمر " وفي لفظ " ريح شراب ".
والحاصل أن حده عند وجود الريح مع عدم البينة والإقرار لا يستلزم اشتراط الرائحة مع أحدهما، ثم هو مذهب لبعض العلماء منهم مالك وقول للشافعي ورواية عن أحمد والأصح عن الشافعي وأكثر أهل العلم نفيه، وما ذكرناه عن عمر يعارض ما ذكرنا عنه أنه عزر من وجد منه الرائحة ويترجح لأنه أصح وإن قال ابن المنذر ثبت عن عمر أنه جلد من وجد رائحة الخمر حدا تاما، وهو أن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا أن يرد ويدرأ ما يستطيع فكيف يأمر ابن مسعود بالمزمزه عند عدم الرائحة ليظهر الريح فيجده، فإن صح فتأويله أنه كان رجلا مولعا بالشراب مدمنا عليه فاستجاز ذلك فيه (1) انتهى.
ويمكن أن يقال أنه إنما أمر بترترته ومزمزته لكونه لم يأت تائبا وإنما جاء به عمه ليقام عليه الحد فأراد ابن مسعود أن يستثبت في وقوع الشرب منه بالعمل المذكور لتظهر الرائحة.
(1) فتح القدير 4/ 180.
2 -
قال ابن فرحون:
ويجب الحد على من وجدت منه رائحة الخمر أو قاءها وحكم به عمر رضي الله تعالى عنه وفي حديث ماعز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «أشربت خمرا قام فاستنهكه فلم يجد منه ريح خمر (1)» قال اللخمي: فيه دليل أن الرائحة يقضى بها، دليل آخر أن إقرار السكران غير لازم (مسألة) قال اللخمي رحمه الله تعالى: ذهب مالك رضي الله تعالى عنه وجماعة من أصحابه أن الحد يجب على من وجد منه ريح السكر، والدليل على ذلك ما روي عن السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يجلد رجلا وجد منه ريح شراب فجلده الحد تاما، والدليل من جهة المعنى أن هذا معنى يعلم به صفة ما شرب المكلف وجنسه فوجب أن يكون طريقا إلى إثبات الحد، وأصل ذلك الرؤية، لما شربه بل الرائحة أقوى من معرفة حال المشروب من الرؤية، لأن الرؤية لا يعلم بها الشراب أمسكر هو أم لا وإنما يعلم ذلك برائحته.
(فصل) والكلام في ذلك يتعلق بثلاثة أمور، الأول: فيمن يجب استنكاهه. الثاني: فيمن يثبت ذلك بشهادته. الثالث: فيما يجب بذلك إذا تيقن رائحة المسكر أو أشكلت.
الأول: فيمن يجب استنكاهه، وذلك فيما يرى الحاكم منه تخليطا في قول أو مشي يشبه السكران، ففي الموازية من رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه إذا رأى ذلك منه أمر باستنكاهه قال: لأنه قد بلغ إلى الحاكم فلا يسعه إلا تحققه، فإذا ثبت الحد حد أمامه.
(مسألة) وكذلك لو شم منه رائحة ينكرها، أو أنكرها بحضرته من ينكرها قال الباجي: فعندي أن قد تعين عليه استنكاهه
(1) صحيح مسلم الحدود (1695).
وتحقق حاله، لأن هذه صفة ينكر بها حاله ويستراب بها، ويقوى بها الظن في وجوب الحد عليه فيجب بذلك اختباره وتحقق حاله كالتخليط في الكلام والمشي.
(مسألة) فإن لم يظهر منه شيء من هذه الأحوال - يريد التخليط في القول والمشي - لم يستنكه رواه أصبغ عن ابن القاسم في العتبية والموازية قال: ولا يتجسس عليه، فلا يجوز التجسس على الناس والتعرض لهم من غير ريبه.
الثاني: فيمن يثبت ذلك بشهادته، قال القاضي أبو الوليد: فأما من يثبت ذلك عليه بشهادته فإنه يحتاج إلى معرفة صفتهم وعددهم، فأما صفتهم فقد قال القاضي أبو الحسن في كتابه: إن صفة الشاهدين على الرائحة أن يكونا ممن خبر شربها في وقت ما، إما في حال كفرهما أو شرباها في إسلامهما فجلدا ثم تابا حتى يكون ممن يعرف الخمر بريحها، قال القاضي أبو الوليد: هذا عندي فيه نظر، لأن من هذه صفته معدوم قليل ولو لم تثبت الرائحة إلا بشهادة من هذه صفته لبطلت الشهادة بها في الأغلب، وقد يكون من لم يشربها قط يعرف رائحتها معرفة صحيحة بأن يخبره عنها المرة بعد المرة من قد شربها أنها هي رائحة الخمر حتى يعرف ذلك كما يعرفها الذي قد شربها.
(مسألة) وأما العدد فلا يخلو أن يكون الحاكم أمر الشهود بالاستنكاه أو فعلوا هم ذلك ابتداء، فإن كان الحاكم أمرهم بذلك فقد روى ابن حبيب عن أصبغ أنه يستحب أن يأمر شاهدين به
الحد، وإن كان الشهود فعلوا ذلك من قبل أنفسهم فلا يجزئ أقل من اثنين كالشهادة على الشرب، وقد روى ابن وهب عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه إن لم يكن مع الحاكم إلا واحد فليرفعه إلى من هو فوقه، قال القاضي أبو الوليد رحمه الله تعالى: وما رواه ابن حبيب عن أصبغ مبني على أن الحاكم يحكم بعلمه فلذلك جاز عنده علم من استنابه وإلا فقد يجب أن لا يحد في ذلك حتى يشهد عنده فيه شاهدان.
الثالث: فيما يجب بشهادة الاستنكاه، ولا يخلو أن يكون الشهود متيقنين للرائحة أو شاكين فيها فإن كانوا متيقنين للرائحة فلا يخلو أن يتفقوا على أنها رائحة مسكر أو على أنها غير رائحة مسكر أو يختلفوا في ذلك، فإن اتفقوا على أنها غير رائحة مسكر فلا نعلم في المذهب خلافا في وجوب ترك الحد، وإن اتفقوا على أنها رائحة مسكر وجب الحد عليه، وإن اختلفوا في ذلك فقال بعضهم: رائحة مسكر، وقال بعضهم: ليس برائحة مسكر فقد قال ابن حبيب: إذا اجتمع منهم اثنان على أنها رائحة مسكر حد، ووجه ذلك أن الشهادة قد قامت وكملت ولا يؤثر في ذلك نفي من نفى مقتضاها كما لو شهد شاهدان أنهما رأياه شرب خمرا وقال آخران: لم يشرب خمرا.
(مسألة) فإن شك الشهود في الرائحة هل هي رائحة مسكر أو غيره نظرت حاله فإن كان من أهل السفه نكل، وإن كان من أهل العدل خلي سبيله حكاه ابن القاسم في العتبية
والموازية، ووجه ذلك أن من عرف بالسفه والشر والتخليط خيف أن يكون ما شك فيه مما حرم عليه ووجب أن يزجر عن التسمية بذلك لكي لا يتطرق بذلك إلى إظهار معصية وأما من كان من أهل العدل فتبعد عنه الريبة والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة: قال القاضي أبو الوليد رحمه الله تعالى: فإذا ثبت ذلك فإن الحد يتعلق بما يقع به النظر من تجاوز الشراب من الفم إلى الحلق.
مسألة: ولو شهد شاهدان أنه قاء خمرا وجب عليه الحد، لأنه لا يتقيئها حتى يشربها، وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وسيأتي في باب القضاء بالسياسة صفة الشهادة وصفة الضارب والضرب وما يضاف إلى الحد إن شاء الله تعالى.
3 -
جاء في المنهاج وشرحه نهاية المحتاج: "ويحد بإقراره وشهادة رجلين" أو علم السيد دون غيره كما مر نظيره في السرقة "لا بريح خمر" وهيئة "سكر وقيء" لاحتمال أنه احتقن أو أسعط بها أو أنه شربها لعذر من غلط أو إكراه، أما حد عثمان بالقيء فاجتهاد له " ويكفي في إقرار وشهادة شرب خمرا " أو شرب مما شرب منه غيره فسكر، وسواء أقال وهو مختار عالم أم لا، كما في نحو بيع وطلاق؛ إذ الأصل عدم الإكراه والغالب من حال الشارب علمه بما يشرب.
"وقيل يشترط في كل من المقر والشاهد أن يقول: شربها وهو
عالم به مختار لاحتمال ما مر كالشهادة بالزنا؛ إذ العقوبة لا تثبت إلا بتعيين، وفسر الأول بأن الزنا قد يطلق على مقدماته كما في الخبر على أنهم سامحوا في الخمر لسهولة حدها ما لم يسامحوا في غيرها لا سيما مع أن الابتداء بكثرة شربها يقتضي التوسع في سبب الزجر عنها فوسع فيه ما لم يوسع في غيره.
ويعتبر على الثاني زيادة من غير ضرورة احترازا من الإساغة والشرب لنحو عطش أو تداو (1) انتهى.
(1) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج 8/ 16.
4 -
وقال ابن قدامة:
ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين: الإقرار والبينة ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم؛ لأنه حد لا يتضمن إتلافا فأشبه حد القذف، وإذا رجع عن إقراره قبل رجوعه، لأنه حد لله سبحانه فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الإقرار وجود الرائحة.
وحكي عن أبي حنيفة: لا حد عليه إلا أن توجد رائحة، ولا يصح لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة، ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه، ولأنه إقرار بحد فاكتفي به كسائر الحدود.
(فصل) ولا يجب الحد بوجود رائحة الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي، وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك وهو قول مالك، لأن ابن مسعود
جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر.
وروي عن عمر أنه قال: إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا، فقال عمر: إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته. ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار.
والأول أولى، لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها وحسبها ماء فلما صارت إلى فيه مجها وظنها لا تسكر، أو كان مكرها أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فإنه لم يحده بوجود الرائحة ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر.
(فصل) وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرها أو لم يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي، ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد ها هنا بطريق الأولى، لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها فأشبه ما لو قام البينة عليه بشربها.
وقد روى سعيد حدثنا هشيم حدثنا المغيرة عن الشعبي قال: " لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي فقال: أشهد أني رأيته يتقيؤها، فقال عمر: من قاءها فقد شربها فضربه الحد".
وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال: شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه
رآه شربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي: أقم عليه الحد، فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه، رواه مسلم. وفي رواية له " فقال عثمان لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم ولم ينكر فكان إجماعا، ولأنه يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها أو لا يسكر منها حتى شربها. "
(فصل) وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا يحتاجان إلى بيان نوعه، لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح وعلى دواعيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«العينان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (1)» فلهذا احتاج الشاهدان إلى تفسيره، وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا إلى ذكر علمه أنه مسكر، لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر بعيد فلم يحتج إلى بيانه ولذلك لا نعتبر ذلك في شيء من الشهادات ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة ولا اعتبره عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة، ولو شهدا بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ها هنا (2) انتهى.
وجاء في حاشية المقنع على قوله: "وهل يجب الحد بوجود
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6243)، صحيح مسلم القدر (2657)، سنن أبو داود النكاح (2152)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 344).
(2)
المغني 9/ 143 وما بعدها.
الرائحة على روايتين" إحداهما: لا يحد، وهو قول عامة أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي، وعنه يحد وهو قول مالك، لأن ابن مسعود رضي الله عنه جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر وعنه يحد إذا لم يدع شبهة. قال ابن أبي موسى: وهي أظهر عن أحمد واختارها ابن عبدوس في تذكرته والشيخ تقي الدين.
ووجه الأول أنه يحتمل أنه تمضمض بها أو ظنها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر أو كان مكرها (1) انتهى.
وجاء في الإنصاف على قول ابن قدامة "وهل يحد بوجود الرائحة على روايتين" وأطلقهما في مسبوك الذهب وتجريد العناية ونهاية ابن رزين إحداهما: لا يحد وهو المذهب صححه المصنف والشارح وابن منجا في شرحه وصاحب الخلاصة والتصحيح وغيره، وجزم به في الوجيز والمنور. . والرواية الثانية: يحد إذا لم يدع شبهة. قال ابن أبي موسى في الإرشاد: هذه أظهر عن الإمام أحمد رحمه الله واختارها ابن عبدوس في تذكرته والشيخ تقي الدين رحمه الله وقدمها في المستوعب، وعنه يحد وإن ادعى شبهة ذكرها في الفروع وذكر هذه المسألة في باب حد الزنا وأطلقا في تجريد العناية، ونقل الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله: يؤدب برائحته واختاره الخلال كالحاضر مع من شربه.
فائدتان: إحداهما لو وجد سكران وقد تقيأ الخمر فقيل: حكمه حكم الرائحة، وقدمه في الفصول وجزم به في الرعاية
(1) المقنع ومعه الحاشية 3/ 471.
الكبرى.
وقيل: يحد هنا وإن لم نحده بالرائحة، واختاره المصنف والشارح وهو ظاهر كلامه في الإرشاد، وهذا المذهب على ما اصطلحناه في المقدمة وأطلقهما في الفروع.
والثانية: يثبت شربه للخمر بإقراره مرة على الصحيح من المذهب كحد القذف، جزم به في الفصول والمذهب والحاوي الصغير والمغني والشرح وقدمه في الفروع.
وعنه مرتين، واختاره القاضي وأصحابه وصححه الناظم واختاره ابن عبدوس في تذكرته وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين وجزم به في المنور وغيره، وجعل أبو الخطاب أن بقية الحدود لا يثبت إلا بإقراره مرتين. وقال في عيون المسائل في حد الخمر بمرتين، وإن سلمناه فلأنه لا يتضمن إتلافا بخلاف حد السرقة، قال في الفروع: ولم يفرقوا بين حد القذف وغيره، لأنه حق آدمي كالقود فدل على رواية فيه قال وهذا متجه.
ويثبت أيضا شربها بشهادة عدلين مطلقا على الصحيح من المذهب، وقيل ويعتبر قولهما، عالما بتحريمه واختياره وأطلقهما في الرعاية الكبرى (1) انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والحد واجب إذا قامت البينة أو اعترف الشارب، فإن وجدت منه رائحة الخمر أو رئي وهو يتقايؤها ونحو ذلك فقد قيل لا يقام عليه الحد،
(1) الإنصاف 10/ 233.