الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراستنا الآتية نماذج لكل ما أسلفنا القول فيه في هذا التمهيد، وسوف نعرض من خلال هذه النماذج مواقف الأخفش من القراءات القرآنية، ومن لغات العرب، ومن أصول النحو وفروعه، لنرى ما إذا كان يعد في المقلدين فحسب، أو في المجددين وحدهم، أو أنه كان بين هؤلاء وهؤلاء يجدد تارة ويقلد غالبا، أو يفعل عكس ذلك.
ب)
القراءات القرآنية وموقف البصريين والكوفيين بعامة
منها:
مما عيب به البصريون الإسراف في التأويل والتقدير في آيات القرآن التي تخالف أقيستهم وقواعدهم في حين رغب الكوفيون عن هذا إلا في الضرورة.
وفي ظني أن البصريين، وكذلك الكوفيون الذين فعلوا ذلك، إنما فعلوه جميعا لغرض طبيعي هو محاولة إقامة التناسب وإزالة التنافر بين النص وقانونهم النحوي، ولا يلزم أن يكون ذلك لخطأ النص وفساده بل هو إظهاره عن طريق التأويل والتقدير لما في حقيقة هذا النص من التطابق مع قانونه خلافا للتناقض الظاهر بينهما، فيصح النص وكذلك القاعدة ويزول ما يبدو بينهما من تناقض غير حقيقي ويظهر الانسجام بين ما أولوه ووجهوه وقدروه وبين ما قعدوه وقننوه، وفي التمثيل لذلك نذكر قول البصريين: إن الجملة الاسمية إذا وقعت جوابا للشرط وجب ربطها بالفاء وقد تنوب عنها إذا الفجائية، ولما عورضت قاعدتهم هذه بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (1) أولوا الشاهد في الآية وقالوا إن "إذا" فيها ليست شرطية وإنما هي ظرف زمان لخبر المبتدأ بعدها، لأنها لو كانت شرطية هنا لوجب اقتران جوابها بالفاء (2).
ولما عورضوا أيضا بقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} (3)
(1) سورة الشورى الآية 39
(2)
انظر الهمع 60: 2، ويرى الأخفش أن الآية على حذف الفاء وأن إذا شرطية خلافا للبصريين.
(3)
سورة البقرة الآية 180
وفيها جواب الشرط جملة اسمية غير مقترنة بالفاء أو بإذا الفجائية وكان من غير الممكن القول بأن "إن" غير شرطية لأن "إن" غير "إذا" ذهبوا بذكاء إلى أن جواب الشرط محذوف وهو مقترن بالفاء وفاقا لقاعدتهم، وأن التقدير "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الوصية للوالدين إن ترك خيرا فليوص".
ونسوق في التمثيل لذلك أيضا قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (1) الذي خرجه سيبويه وجمهور البصريين على تقدير فعل محذوف مماثل للفعل المذكور؛ لأن قاعدتهم لا تجيز دخول إن الشرطية على اسم، في حين أعرب القراء وجمه
ور الكوفيين الذين يجيزون تقديم الفاعل الاسم الظاهر على فعله - "امرؤ" فاعلا متقدما لفعل الشرط المؤخر المذكور، وأعرب الأخفش البصري "امرؤ" مبتدأ وما بعده خبرا والجملة الاسمية (2) شرطا لإن، فمجيء شرط إن جملة اسمية من قواعده المقررة.
ومع أن إعراب الأخفش ثم إعراب الكوفيين أوضح وأسلس من إعراب جمهور البصريين وإمامهم؛ لأن ما لا يحتاج إلى تقدير خير مما يحتاج إليه كما يقال - فإن ذلك لا يعني أن إعراب البصريين خطأ، كما لا يعني أن مبعث ما فعلوه هو أن نص الآية كما هو غير مستقيم يحتاج إلى تأويل وتقدير لإقامته.
والأوجه في هذه الآية ونحوها أن ينبني ترجيح أحد الإعرابين على قسيمه على المفاضلة بينهما باعتبار أن الأفضل والمفضول صحيحان، وأن الأولى لا يقتضي بطلان غير الأولى، ومن ثم لا يسوغ القول إن تقدير سيبويه ومن تابعه وتوجيههم للآية هو تخطئة لها أو التواء بها لتنسجم مع القاعدة النحوية لمجرد التمسك بالصنعة وحدها أو التحمل في تطبيق قواعدها.
(1) سورة النساء الآية 176
(2)
انظر العدوي، حاشيته على شرح الشذور 55:1.
ولقد رمي البصريون أيضا بأنهم -خلافا للكوفيين - لم يستفيدوا في تقرير قواعد النحو وتحرير مسائله من جميع القراءات القرآنية التي تتمثل فيها أفصح لغات العرب حتى إن شذت، مع أن هذه القراءات في كل الأحوال أقوى بكثير من سائر المرويات التي احتجوا بها والتي ليست بقرآن، ومع أن القرآن نفسه بصرف النظر عن قراءاته يعد - كما لا يخفى - الينبوع الأعظم والبرهان الأقوم في مبانيه ومعانيه على حد سواء.
وقد استدل الرامون على ما قالوا بمواقف النحاة البصريين في كثير من المسائل النحوية، ومن هذه المسائل على سبيل المثال:
قول البصريين تبدل الهمزة من حرف المد الزائد الواقع بعد ألف فعائل أو مفاعل نحو عجائز وصحائف، والأصل عجاوز وصحايف؛ لأن مفرده عجوز وصحيفة، ولا تبدل منه إذا كان أصليا مثل معايب جمع عيب ومعاون جمع عون فلا يقال فيهما معائب (1) ومعائن.
ولما أوردت عليهم قراءة نافع "لكم فيها معائش" قالوا إنها ضعيفة في القياس (2)، على الرغم من أن نافعا من القراء السبعة وقد روى قراءته العديد من الثقات.
وقول بعضهم لا يجوز تسكين لام الطلب بعد ثم إلا في ضرورة (3) الشعر مع أن جمهور السبعة قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ لِيَقْطَعْ} (4)، وقرأ حمزة والكسائي من السبعة وغيرهما قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا} (5) بالسكون، وليس في الآيتين ضرورة شعرية.
وقول طائفة منهم لا يجوز صوغ اسم التفضيل من أفعل الرباعي إلا شذوذا (6) وحين أورد عليه قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} (7) وفيه أقسط وأقوم المصوغان من أقسط وأقام الرباعيين،
(1) انظر الهمع 22: 2، وابن الأنباري، البيان في غريب إعراب القرآن 355:1.
(2)
انظر الهمع 22: 2، وابن الأنباري، البيان في غريب إعراب القرآن 355:1.
(3)
انظر المغني 294 - 295 ت د. مازن المبارك وزميله.
(4)
سورة الحج الآية 15
(5)
سورة الحج الآية 29
(6)
انظر حاشية العدوي 170: 2.
(7)
سورة البقرة الآية 282
قالوا: إن أقسط مصوغة من قسط الثلاثي بصرف النظر عن أن معنى قسط هو جار ولم يعدل وأن هذا نقيض المعنى المراد في الآية، وقالوا: إن أقوم صحيحة فصيحة ولكن هذا لا يمنع من الحكم بشذوذها هنا حتى لو كانت في القرآن.
ويبدو أن البصريين - كما يظهر من هذه النماذج الثلاثة التي ذكرناها ومن نحوها لم يستقصوا وجوه قراءات القرآن على ما ينبغي قبل أن يقرروا قواعدهم ويحرروا ضوابطهم، مما جعلهم يعمدون إلى مثل ما رأينا من الأحكام، حين رأوا قواعدهم تقصر عن شمول بعض القراءات المعتد بها.
إن ما سبق حمل مخالفي البصريين وأخصامهم على أن يعيبوا عليهم شدة حفاظهم على قواعدهم، وتمسكهم بها كما وضعت، وركوبهم متن الشطط في جعلها أهم من قبول المسموع والإقرار به كما هو، وتخطئتهم ما يعجزون عن تأويله من الشواهد المختلفة، وحملهم أيضا على أن يرموهم بالمبالغة في التكلف لكي لا تنتقض هذه القواعد بشاهد حتى لو كان من القرآن الكريم، ودفعهم كذلك إلى أن يستنكروا زعم بعض البصريين أن القراءات المخالفة لقوانينهم إن لم تكن ظنا فهي تخليط ربما تولد من خطأ كتاب المصاحف في الرسم، وأن القرآن يجب أن يستمد قراءاته من قواعدهم، مع أن الواجب هو أن يستمدوا قواعدهم من الكتاب العزيز وأن يدينوا له بالإذعان؛ لأنه أفصح كلام عرفه اللسان العربي المبين.
على أن كتب النحو والقراءات القديمة والحديثة قد تضمنت ردودا مستفيضة على هذه الاتهامات التي وجهت إلى البصريين ودفاعا حسنا عن مسلك جمهورهم، ويمكن أن أضيف إلى هذه الردود أن ما نسب
إليهم حتى لو صح بعضه وكان حقا في طرف من الشواهد والآيات فإنه ليس موقفا مستمرا على الدوام لا يفارقهم أجمعين ولا يفارقونه في جميع أحوالهم، فقد رأينا لبعض أئمة البصريين كسيبويه والأخفش مواقف من القراءات - وغيرها - تتسم بالاعتدال والحرص على الاستفادة منها أيا كانت درجتها وعدم إهدار واحدة منها، فهما - وقد حذا حذوهما أيضا كثير من البصريين - قد أكثرا من الاحتجاج بالقراءات القرآنية في كتبهما، كما كثر عندهما توجيه ما لا يجري من القراءات على مقاييس قومهما وقوانينهم توجيها رفيقا لا قسر فيه أو عنتا أو غلوا ولا تنافر فيه أو إخلالا أو إبعادا.
ولا يغض من هذا ما حدث أحيانا منهما أو من غيرهما من نحاة مدينتهما، فهو قليل من كثير، لا يغير من حقيقة الحكم عليهما وصوابه فيهما وفيمن تشبه في مسلكه بهما من سائر البصريين. صحيح أن سيبويه قد أطلق على بعض القراءات أوصاف القبح أو الرداءة أو الضعف أو الشذوذ (1) حتى ليظن أنه قد خطأها لذلك، لكن هذا - فيما أرى - لا يعني بالضرورة أن تكون هذه القراءات خطأ أي غلطا، فهذه الأوصاف في حقيقة الأمر شيء، والخطأ بمعنى الغلط شيء آخر، والقراءة المتصفة بواحد من هذه الأوصاف تعد صحيحة، ويقال في المعتاد للصحيح الكثير مطرد، في حين يطلق الشاذ على الصحيح القليل أو النادر، وكلاهما فصيح مقبول، وإنما يقاس على المطرد منهما ويحفظ الشاذ ولا يقاس عليه.
ولقد حدث أيضا أن بعض الكوفيين - الذين ينسب إليهم في العادة الانسجام الدائم مع كل القراءات والقبول الكامل بها كما هي
(1) انظر نماذج من ذلك في كتاب "سيبويه والقراءات" للدكتور أحمد مكي الأنصاري 11 - 37.
وإقامة قواعدهم عليها - وقف عند بعض الحروف فقدر وأول ما لا يلزم تقديره وتأويله في الحقيقة، ومن هؤلاء الكسائي، فهو مثلا حين رأى المضارع محذوف النون في قوله تعالى:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1) قال إنها حذفت على تقدير لام الأمر، ورتب على ذلك قاعدة نحوية عامة هي حذف لام الأمر من الفعل المضارع بشرط تقديم الفعل "قل" عليه، بينما رأى البصريون - ورأيهم أيسر - أن الفعل المضارع يجزم في جواب الأمر ترتيبا على الآية ونحوها من قولنا:"ائتني أكرمك" دون تأويل أو تقدير (2).
ولقد كان الكسائي أيضا من أوائل من خطأوا القراء ومنعوا القراءة ببعض الحروف، من ذلك أنه لم يجز قراءة جمهور السبعة الفعل "يكون" في قوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) بالرفع على جعل الكلام مكتفيا بقوله تعالى: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} (4) ثم قال: " فيكون " أي فيكون ما أراد الله على الاستئناف أو عطف الجمل، ورأى أن الصواب هو النصب على عطف " فيكون " عطف نسق على الفعل المنصوب بـ"أن" وهو "يقول"(5)، وهو ما قرأ به ابن عامر من السبعة.
وقد حذا الفراء حذو أستاذه الكسائي فأنكر عددا من القراءات وخطأ قراءها، فقد اعترض مثلا على قراءة عاصم - من السبعة - والأعمش لكلمة "يؤده" بسكون الهاء في قوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (6) وقال إن الجزم ليس في الهاء وإنما هو فيما قبلها، وإن ما حدث من عاصم ومن شاكله من القراء خطأ أو توهم.
وقد صحح الفراء في بعض الأحيان ما خطأه الكسائي من
(1) سورة إبراهيم الآية 31
(2)
انظر سيبويه، الكتاب 452:1.
(3)
سورة يس الآية 82
(4)
سورة يس الآية 82
(5)
انظر الفراء، معاني القرآن 1: 74 - 75.
(6)
سورة آل عمران الآية 75
القراءات، قال مثلا: قرأ الكسائي وابن عامر من السبعة "يكون" في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) - بالنصب؛ لأنها مردودة؛ أي معطوفة على فعل قد نصب بـ"أن" وهو "نقول" وأكثر القراء على الرفع، والرفع صواب، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله تعالى:"إذا أردناه أن نقول له كن" فقد تم الكلام، ثم قال "فسيكون ما أراد الله"، وإنه لأحب الوجهين إلي، وإن كان الكسائي لا يجيز الرفع في الآية ويذهب إلى النسق (2).
كذلك اتفق أئمة البصريين والكوفيين أحيانا على موقف واحد دون خلاف، فعلوا هذا مثلا في قراءة أبي جعفر "ليجزي قوما بما كانوا يكسبون" ببناء الفعل "يجزي" للمجهول، وهي قراءة شاذة، ومع ذلك أخذ بها الكوفيون وكذلك الأخفش البصري وأقاموا عليها قاعدتهم القاضية بجواز إنابة غير المفعول به مع وجوده عن الفاعل وطردوها، ولم يخطئ سيبويه والبصريون أيضا هذه القراءة الشاذة لكنهم ذهبوا إلى أن الاستدلال بها إنما يتم على أن نائب الفاعل هو ضمير مستتر يعود إلى مصدر الفعل المبني للمجهول وهو الجزاء وليس الجار والمجرور، كما قال بذلك الأخفش والكوفيين، أو على أن الجار والمجرور هو نائب الفاعل كما قال هؤلاء، لكن على وجه الاستثناء لأن هذه القراءة تعد عندهم مقبولة كما هي مقبولة عند الأخفش والكوفيين، فلا يسعهم رفضها، لكنهم يحفظونها فلا يقيسون عليها لشذوذها وهي في ذلك تشبه عندهم ما يكون في ضرورات الشعر، في حين يقيس عليها الفريق الآخر مع عدم تواترها ولا يحملها محمل الضرورة (3).
وهذا على كل حال اختلاف بين الكوفيين والأخفش وبين جمهور
(1) سورة النحل الآية 40
(2)
انظر الفراء، معاني القرآن 1: 74 - 75.
(3)
انظر ابن هشام، شرح الشذور 164، ومحمد محي الدين عبد الحميد، منتهى الأرب 164.