الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعصبه لأهل بلده وعلى انفتاحه وإباحته ما حرموه والأخذ بما تركوه والإقرار بما أنكروه عن قصد وإرادة لا يشوبها تردد أو إحجام وعلى استعداده لقبول ما يعتقده حقا من مواقف منافسيهم حتى لو كان قومه يرونه غير ذلك، أو للانفراد بجديد لم يقل به غيره أو يسمع به هو وسواه من هذه اللغات.
على أن الأخفش خالف في الوقت نفسه بعض ما سمع من العرب الثقات مما يعني أنه كان يتخذ أحيانا موقفا مستقلا يرجح فيه ما يرى رجحانه من لغة على أخرى مع فصاحتهما واحترامه لهما، من ذلك:
النسب إلى "شية" ونحوها مما هو محذوف الفاء معتل اللام، فقد قال في النسب إليها "وشيي" على وزن "فعلي" برد فاء الكلمة وتسكين عينها وكسر لامها لمناسبة ياء النسب مع بقائها ياء، خلافا لما سمع من ناس من العرب يحتج بقولهم، على ما حكاه الأخفش نفسه عن يونس من أن حمادا الراوية حدثه أنهم يقولون في النسب إلى شية " شيوي " على وزن " علوي" بوضع الفاء موضع اللام ثم النسب، وقد خالف الأخفش في صيغته سيبويه أيضا الذي رأى أن النسب إلى شية هو "وشوي" على وزن "فعلي" برد فاء الكلمة وفتح عينها وقلب لامها واوا مكسورة (1).
(1) انظر نزهة الألباء 41.
الأخفش في سائر دراساته النحوية:
أ)
الحدود والتعاليل:
عني الأخفش بتطوير حدود أساتذة سيبويه وإخراجها عن الفطرة البسيطة إلى شيء من المفهوم الفلسفي المركب، وتقريبها من الحدود المنطقية الصريحة القائمة على ما يدخله الجنس ويخرجه الفصل والعرض
الخاص والعرض العام، يظهر هذا على سبيل المثال في حده الاسم بأنه "ما جاز فيه نفعني وضرني"(1) يريد أنه ما جاز أن يخبر عنه، في حين عرفه سيبويه تعريفا يسيرا عن طريق التمثيل له فحسب فقال:"الاسم رجل وفرس وحائط"(2).
وللأخفش إسهام في التعليل أيضا وهو في حقيقته مجاوزة مجرد النقل إلى العقل وتركيب ذهني وسبك فلسفي للأسباب يخرج بها عن العفوية اللغوية.
ومن تعليلات الأخفش العقلية تعليله لإضافة اسم الزمان إلى الفعل بقوله: "إنما أضيفت أسماء الزمان إلى الأفعال لأن الأزمنة كلها ظروف للأفعال والمصادر، والظروف أضعف الأسماء فقووها بالإضافة إلى الأفعال"(3).
وقد امتدت عناية الأخفش بالتعليل المنطقي وإمعانه فيه حتى شمل عنده تعليل ما لم يقع في اللغة، من ذلك تعليله امتناع الفعل المضارع من الجر الذي علله سيبويه من قبل بشكل أيسر وأدنى إلى الواقع اللغوي بقوله:"وليس في الأفعال المضارعة جر، لأن المجرور داخل في المضاف إليه معاقب للتنوين وليس ذلك في هذه الأفعال"(4)، لكن الأخفش أدلى بعلة جديدة أطول وأشد غموضا وأكثر تفلسفا فقال: "لم يدخل الأفعال جر لأنها أدلة، وليست الأدلة بالشيء الذي تدل عليه، وأما زيد وعمرو وأشباه ذلك فهو الشيء بعينه، وإنما يضاف إلى الشيء بعينه لا إلى ما يدل عليه، وليس يكون جر في شيء من الكلام إلا بالإضافة (5).
وعلى الرغم من كل هذا فقد ظهر في نحو الأخفش معالجات
(1) انظر الزجاجي، الإيضاح في علل النحو 49.
(2)
الكتاب 2: 1.
(3)
انظر الإيضاح 114.
(4)
الكتاب 3: 1.
(5)
انظر الإيضاح 109.
لبعض الظواهر النحوية واللغوية استوحى فيها أساليب العربية في تركيب الكلام وذوق المعاني بعيدا عن منطق العلة وتفلسف البراهين وتعقيدات الجدل، وهو منهج كان الكوفيون يرتضونه ويميلون إليه كثيرا ويعملون به، ومن آيات ذلك:
قوله بزيادة "إن" بعد "ما" النافية في قول فروة بن مسيك (1) المرادي:
وما إن طبنا جبن ولكن
…
منايانا ودولة آخرينا (2)
وهي في هذه الحال تمنع "ما" عنده من نصب الخبر (3).
وقوله بزيادة أصبح وأمسى وكان بين ما وفعل التعجب (4).
وزيادة كاد في غير (5) التعجب نحو: ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها، وما كان أصح علم من تقدما، وقوله تعالى:{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} (6).
فقد حرص الأخفش في هذه الأمثلة ونحوها على أن لا تكون الزيادة في بنية الجملة عبثا بل محكومة بضابط لا مفر من مراعاته وهو أن لا تؤدي بحال إلى الخروج عن الذوق وإلى تعمية المعنى، وأن تكون لفائدة هي؛ التوكيد عن طريق تثبيت المعنى وتقوية المبنى وليس لمجرد التجميل ونحوه، وأن تكون كذلك ظاهرة المعنى لا غموض فيها يدعو إلى افتعال تفسير لوجودها أو تأويل للمراد منها بل هي بسيطة تتلاءم مع الفهم الواضح لمقصود أصحابها من تركيب كلامهم وترتيب نظامه.
وقوله بحذف حرف "قد" قبل الفعل الماضي ليصح (7) وقوعه حالا في قوله تعالى: {جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (8).
وقوله بحذف الاسم المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه في قوله
(1) وقيل إنه لعمرو بن قعاس، وينسب أيضا للكميت "انظر هارون، معجم شواهد العربية 386: 1".
(2)
الطب: العادة "انظر الفيروزآبادي، القاموس المحيط 100: 1".
(3)
انظر المغني 38 ت د. مازن المبارك وزميله.
(4)
انظر الهمع 129: 1، وشرح الأشموني للألفية 241: 1، وشرح ابن عقيل للألفية 249:1.
(5)
انظر الهمع 129: 1، وشرح الأشموني للألفية 241: 1، وشرح ابن عقيل للألفية 249:1.
(6)
سورة طه الآية 15
(7)
انظر المغني 430: 2 ت محمد محي الدين عبد الحميد.
(8)
سورة النساء الآية 90
تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (1)، ومثل هذا في التنزيل وغيره كثير، ومع ذلك فقد رأى الأخفش أن هذا الحذف مقصور على السماع وأن القياس على المسموع ممنوع، في حين رأى ابن جني أن الحذف (2) مقيس لكثرة المسموع منه في القرآن والشعر من جهة ولسعة المجاز في العربية واستمراره على ألسنة العرب من جهة أخرى.
وقوله بحذف الاسم المشاف إليه في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (3) أي لكل أمة، وفي قول جرير:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم
…
لا يوقعنكم في سوأة عمر
أي يا تيم عدي تيم (4) عدي.
وقوله بحذف الاسمين المضاف والمضاف إليه معا في قول القائل "ضربي زيدا قائما" فقد قدر الأخفش الجملة "ضربي زيدا ضربه قائما" فحذف خبرا مضافا وضميرا مضافا إليه في حين قدر سائر النحاة الجملة "ضربي زيدا حاصل إذ كان قائما" للماضي و"إذا كان قائما" للمستقبل، فحذفوا خبرا وظرفا وفعلا ناقصا واسمه أو فعلا تاما وفاعله، وهو فيما صنع أكثر منهم انسجاما مع الأصل المقرر القاضي بأنه ينبغي تقليل المحذوف ما أمكن لتقل مخالفة الأصل (5).
وقوله بحذف الفعل المضارع وفاعله بعد (لات) فقد رأى الأخفش أن (لات) لا تعمل شيئا فإذا جاء بعدها منصوب فهو مفعول بفعل مضارع هو أرى محذوف مع فاعله، فمعنى "لات حين مناص" لا أرى حين مناص، أو لات أرى حين مناص، وبينهما فرق في إلحاق التاء بلا على أنها حرف للتأنيث، وفي تركها على أنها حرف (6) زائد.
(1) سورة البقرة الآية 177
(2)
انظر الخصائص 451: 2، 452 والهمع 51:2.
(3)
سورة البقرة الآية 148
(4)
انظر ابن يعيش، شرح المفصل 21:3.
(5)
انظر الهمع 106: 1.
(6)
انظر ابن يعيش، شرح المفصل 109: 1، وشرح ابن عقيل للألفية 275:1.