الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البصريين في التوجيه لا في القراءة.
وهكذا يتضح من كل ما سقناه: أنه لم يكن لكل واحدة من المدرستين على حدة، ولا لأحد من رؤسائهما وأعلامهما على التعيين - خط واحد ثابت في ذلك الوقت المبكر في موضوع القراءات لا يحيد عنه ولا يخالفه.
وأن القراءات التي وقف عندها النحاة بصريين كانوا أو كوفيين واستشكلوها هي في حقيقة الأمر قليلة إذا قيست بمجموع القراءات، وهي لا تعدو أن تكون حروفا معدودة لا يصح من أجلها أن يعمم الحكم بأن فريقا كان يخطئ القراءات وفريقا آخر يقبلها. والأليق أن يلتمس لهم جميعا العذر فيما فعلوا فيقال: إن من وقف منهم عند قراءة إنما وقف رغبة منه في التحري الدقيق للفظ القرآن ونطقه.
وقد سار أيضا على نهج الرعيل الأول من البصريين والكوفيين كسيبويه والأخفش والكسائي والفراء واقتدى بهم في مواقفهم المتنوعة من القراءات من بعدهم من النحاة في المدارس المتعاقبة، ففعلوا مثل ما فعل هؤلاء، اعترضوا تارة على بعض القراءات وتشددوا في حملها على الانسجام مع قواعدهم، وتوسعوا تارة أخرى في الاحتجاج بها وفي اتخاذها على إطلاقها مصادر لقواعدهم دون النظر إلى درجتها، واتفقوا فيها تارة ثالثة على آراء متطابقة لا فرق بينها.
جـ)
موقف الأخفش من القراءات:
لم يخرج الأخفش عن الإطار العام الذي التزم البصريون والكوفيون على حد سواء في موضوع القراءات، والتزم به كما التزموا، وعد القراءات
كما عدوها أساسا قويا من الأسس التي تبنى عليها قواعد النحو وقوانينه، شريطة أن تكون كل قراءة مهما كانت درجتها مطابقة لإحدى لغات العرب حتى لو كانت هذه اللغة أقل فصاحة من غيرها، فإذا جاءت قراءة ما غير مطابقة لأية لغة من لغاتهم فهي مرفوضة، لذلك قبل الأخفش جميع القراءات التي تطابقت مع لغات العرب وعدوها تراثا لا يمكن رده، من ذلك:
قراءة الجمهور "يرشدون" بفتح الياء وضم الشين وماضيه رشد بفتح الشين، وقراءة آخرين "يرشدون" بفتح الياء والشين، وماضيه رشد بكسر الشين، وقراءة غيرهم "يرشدون" بضم الياء وكسر الشين، وماضيه أرشد، وهي جميعا لغات (1).
قراءة بعضهم "الوقود" بفتح الواو بمعنى الحطب، وقراءة آخرين الوقود بضمها بمعنى المصدر وهو التوقد. قال الأخفش: الوقود بفتح الواو: الحطب والوقود بضمها الفعل، وقال أيضا: حكي أن بعض العرب يجعل الوقود والوقود جميعا بمعنى الحطب والمصدر، وذهب إلى أن الأول أكثر (2).
قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق وأبي السمال "اشتروا" بكسر الواو لالتقاء الساكنين، كما يكسرون في غير هذا الموضع على الأصل عند التقائهما، وهو في الآية لغة شاذة، وضم الواو هو اللغة المطردة وعليه القراءة الأفشى (3).
وقد رفض الأخفش (4) قراءة "إن هذين لساحران"(5) بالياء في "هذين" والألف في "ساحران" التي قرأ بها اللغويان النحويان أبو عمرو بن العلاء من السبعة وعيسى بن عمر، والتي قرأ بها أيضا الحسن البصري
(1) انظر العكبري، التبيان في إعراب القرآن 1: 153 - 154.
(2)
انظر أبا جعفر النحاس، إعراب القرآن 201: 1، وابن منظور، لسان العرب 194:1.
(3)
انظر التبيان في إعراب القرآن 32: 1، ومكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن 26:1.
(4)
انظر أبا جعفر النحاس، إعراب القرآن 43:3.
(5)
من الآية 63 من سورة طه، وهي مرسومة في المصحف "إن هذان لساحران".
وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعاصم الجحدري، وهي من القراءات المشهورة المعتد بها والمطابقة لقواعد العربية المجمع عليها والموافقة للقياس النحوي المبني على لغة قوية اطرد سماعها، وذلك لأنها لم توافق رسم المصحف.
وهو قد فضل قراءة على أخرى لموافقتها رسم المصحف وذلك في قوله تعالى: "الصراط"، فقد روي عن ابن كثير وأبي عمر السين والصاد، وقرأ ابن عباس بالسين (1)، ففيه على هذا لغتان، وقد اختار الأخفش قراءة الصاد لأنها كتبت كذلك في جميع القرآن، فهي تطابق الرسم القرآني في حين تخالف قراءة السين رسم المصحف.
وقد اشترط الأخفش أيضا لقبول أية قراءة أن تكون منسجمة المعنى مع السياق، وهو يردها إذا لم تكن كذلك، فعل هذا مثلا في قوله تعالى:{لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} (2)، فقد ذكر أن بعضهم يقرأ بتثقيل الصاد، وإنما معنى تثقيلها المتصدقون، وليس التصدق بالمعنى المقصود، وإنما المقصود التصديق (3).
وكان الأخفش يستقصي وجوه الإعراب والقراءات معا في آي القرآن على أكمل وجه وأدقه وأوضحه مما يدل على سعة اطلاعه وواسع إحاطته بالأمرين معا.
فهو إذا وجد في آية وجها إعرابيا لم يقرأ به أصلا، أو وجد آية لم يعرف لقراءة فيها وجهها من اللغة، فإنه ينص على ذلك صراحة، فقد ذهب مثلا في قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (4) إلى أن "عدة" بالرفع، وإن شئت نصبت على تقدير "فليصم عدة" إلا أن النصب لم يقرأ (5)، وذهب أيضا في قوله تعالى:
(1) انظر التبيان في إعراب القرآن 8: 1، وأبا جعفر النحاس، إعراب القرآن 174:1.
(2)
سورة الصافات الآية 52
(3)
انظر أبا جعفر النحاس، إعراب القرآن 421:3.
(4)
سورة البقرة الآية 184
(5)
انظر مكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن 86:1.