الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغلاتهم نماذج من هذه القصص مع تحوير في دلالة الصليب إلى أمور تنطلي على بعض المسلمين وذلك مع غياب الوعي لتعاليم الإسلام فأفسدوا عليهم دينهم بأمور ما أنزل الله بها من سلطان. ولذا فإن دور المسلم يجب أن يركز على نبذ هذا التقليد الذي يجر لما هو أبعد من كونه يهدف لتسلية الصغار وإيناسهم، مع عدم السماح بإظهار مثل هذا في البيئات الإسلامية، حتى لا يرسخ هدفه في أذهان أطفال المسلمين، فيكبر معهم، ليباعدهم عن دينهم الحق، ويصدهم عن مصادره الصافية الصادقة التي لا يتطرق إليها الشك أو التأويل، لأنها من الله، وما كان من الله فلا مراء فيه ولا جدال.
أبعاد كذبة أبريل:
-
واحدة من العادات التي يتبعها عادات كثيرة سيئة لأن محورها الكذب، والكذب من أشر الخصال، وأسوأ مداخل الآفات.
يتعمد بعض الناس في أبريل الكذب على سبيل المزاح أحيانا، أو على سبيل المداعبة، ونشر المقالب فيما بين الناس، إما تندرا أو تفضيلا أو مزج ذلك بنواحي أخرى من أساليب الحياة، وقد يكون من بين تلك الحالات ما له حدان كالسيف ظاهر وباطن، فالظاهر المزاح كما يحصل بين الناس اقترانا بهذا الشهر، فإن كشفت الحالة أصبحت من الأكاذيب التي يجد لها مقترفها تفسيرا بأنه في شهر أبريل، وهذه من أكاذيبه، التي
لا شيء فيها، وما هدف القائل من وراء ذلك إلا توثيق الصلة الأخوية بإزالة الحواجز، وإن لم تكشف سكت عن ذلك الأمر واعتبره مكسبا، حيث يصبح الأمر حقيقة راسخة سواء كان ذلك الأمر قولا باللسان، أو عملا بالجوارح مهما كان نوعها وينطبق في هذه الحالة المثل العامي عندنا:(الصديق المزاح إن شيف وإلا راح). والباطن منبعث من العقيدة التي تهدف لأمور من وراء الكذب فكم سمعنا عن سرقات حصلت لدى بعض الناس، ومن بعض من يعدونهم أصدقاء، وكم قيل لنا أو قرأنا عن أثار سيئة تركها هذا التقليد: سلوكيا وخلقيا واجتماعيا.
وما ذلك إلا أن كذبة أبريل عادة قد نشأت في بلاد الغرب، من منطلق يرتبط تاريخيا بهذا الشهر، الذي هو من أشهر الرومان، وهو الشهر الرابع من سنتهم الشمسية، وهو واحد من أشهر الربيع الذي تتفتح فيه الأزهار وتتزاوج الطيور، وتستيقظ الحيوانات من بياتها الشتوي الطويل، لتسعى في طلب الرزق، ثم التخزين لبيات آخر، ومثل ذلك الإنسان في سعيه.
وفي تتبع الكتب التي تهتم بالعقائد، وما طرأ على الديانات من دخائل نرى الغربيين خاصة من كتاب ومؤرخين يتحاملون على رجال الكنيسة وما يفرضونه على المجتمع عندهم من أمور، فضلا عن تشكيك بعضهم في صحة الديانة النصرانية لمخالفتها ما يمليه العقل، وما تتطلبه الحياة الحاضرة، ولذا كثر نقاد
كتابهم المقدس وصحة وصدق روايته، يقابل ذلك جهود قوية لإثبات الأسس التاريخية للديانة النصرانية، وصراعهم هذا يتسم بالكذب كل من جانبه ليؤصل ما قصد إليه، يقول ديورانت عن هيرود الأكبر: كانت أخلاقه مثالا من أخلاق عصره الذي أنجب كثيرا من الرجال الذين كانوا أذكياء لا خلاق لهم، قادرين لا ضمير لهم، متحدثين لا صدق عندهم، شجعانا مجردين من الشرف، فلقد كانوا صورة مصغرة من أغسطس في بلاد اليهود (1).
كما كانت أسس الصراع بين اليهودية والنصرانية ورجال الدين فيها تنطلق من قاعدة راسخة في الكذب، ولذا حركت الحرب الأهلية في فرنسا هذه الجذور فصارت ثورة أوربية ضد تسلط رجال الكنيسة وسلطتهم، ورجال محاكم التفتيش.
وقد توسع بول ديورانت في قصة الحضارة، في الأجزاء المخصصة لعصر الإيمان، مما تناول الصراع بين اليهود والنصارى، وقيصر المسيح، حيث أبان كما أبان غيره من الدارسين، أن كبار رجال الكنيسة عرف عنهم تعمد الكذب على الناس، وأن واحدا من أكبر القائمين على إحدى الكنائس، أراد أن يبرر لأكاذيبه لما كثرت واكتشفت، بأننا في فصل الربيع، وهو الفصل الذي تبتهج فيه الحيوانات والطيور، بالطريقة الخاصة بها، وسائر المخلوقات أيضا لها أساليبها الخاصة في
(1) قصة الحضارة 11: 164.
التعبير عن فرحها ومرحها، ونحن البشر الذين يمر بنا فصل بين فصلين: بين الشتاء وثلوجه وبرده، وما يتركه لدى الناس من كآبة، وبين الصيف الذي يلفح الناس بحره، فعلينا أن نعبر عن أنفسنا بهذا الأسلوب الذي يعتبر من الكذب الأبيض (1) فكان مثل هذا التعليل قاعدة استحسنها بعض الناس الذين يكذبون لمآرب، ويستمرئون الكذب لمصالح ولست أدري من أين جاءهم التقسيم هذا عن الكذب: الأبيض والأسود، إذ الكذب واحد وهو نقل الشيء على غير صورته.
ونحن المسلمين ندين الله بما جاء في مصدر التشريع في عقيدة الإسلام، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقت الكذب، وأن الله لا يحب الكاذبين وأنه من علامات النفاق حيث أبانت شريعة الإسلام، كما جاء في القرآن الكريم عن سوء عاقبة المنافقين وأنهم في الدرك الأسفل من النار ولا نصير لهم، لأنهم يكذبون، ويفترون، ويخادعونه وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر (2)» . فهذه من علاماته البارزة التي تدل عليه.
ولذا فإن مفهوم الكذب الذي يترتب عليه التعدي على الأموال
(1) قصة الحضارة 11: 164.
(2)
متفق عليه بلفظ: وإذا وعد أخلف. . . الخ
والأعراض، وإيقاع المظالم على الآخرين والاستهانة بهم وترويعهم، مما يمقته الإسلام، وينهى عن التحلي به، وهو واحد، فلا فرق فيه بين كذب أبيض ولا أسود، ولا أخضر ولا أحمر، ولا غيرها من الألوان، حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن الكذب على الصبيان وعلى الحيوان، فضلا عن الإنسان.
وتبرير كذبة أبريل ما هو إلا موسم يريدون منه، تنشيط هذه العادة، وترسيخها لدى الناس، وحماية ما يصدر عنهم من أغاليط وافتراءات، ولتعويد الآخرين هذا المنهج الذي أنكره مفكروهم، ولذا سميت صفة التعامل الحسن والصدق في القول بالأخلاق التجارية، ونبل الأخلاق وقوة التحمل بالأخلاق التجارية.
وإذا رجعنا إلى ما ذكره ديورانت في موسعة قصة الحضارة، عن رجال الكنيسة، وشهرتهم بالكذب، وهو شاهد من ملتهم عليهم، لرأينا ذلك متأصلا من جذور وثنية، سبقت الديانة النصرانية، فقد أخذوا ذلك عن الديانة الزرادشتية، وعن تعدد الآلهة عند الرومان، حيث تجري احتفالات دينية يتباكون فيها حزنا على موت بعض الآلهة في معتقدهم، لعدة أيام، ثم تضج أسواقهم بعد ذلك بأصوات الفرح ببعث ما يؤلهون من قبره وأن ما قيل ما هو إلا كذب (1).
وهذا مصدر من مصادر فكرة هذه الكذبة المتعارف عليها،
(1) قصة الحضارة 11: 146 - 163.
وإن كان لم يحدد شهرا بعينه، إلا أنه قال في العيد الربيعي، ومعلوم أن شهر أبريل في الربيع.
أما محمد عبد الله عنان المؤرخ الأندلسي الشهير، فإنه قد ذكر في كتابه: نهاية الأندلس أشياء في نهاية تاريخ العرب بالأندلس، في الكتابين الثالث والرابع، من مأساة الموريسكيين أو العرب المنتصرين حيث اعتبر من مراحل الاضطهاد والتنصير الإجباري: ديوان التحقيق النصراني، ومتابعة المسلمين، وذروة الاضطهاد التي أوجبت ثورة الموريسكيين، حيث كانوا يتخفون بدينهم أكثر من مائة عام، فكانوا ينتهجون في ملاحقة المسلمين أساليب عديدة تعتمد كلها على الكذب في المتابعة والتحقيق، والمحاكاة الحاقدة على الإسلام ودفعهم المسلمين على الكذب، الذي هو منهجهم في تعاملهم مع المسلمين ومع بني جلدتهم ومع كل ديانة تخالف الكاثوليكية وما يجب أن تسير عليه.
ذلك أننا لو تتبعنا جزئيات كتب التاريخ، فإننا سنجد نماذج كثيرة جزئية وكلية، تفصح عن أساسيات هذا المنهج العقدي في كل بلاد لا ترتبط بالإسلام عقيدة وشريعة، إذ له جذور بوثنيات تنافي الإسلام بل إن الإسلام يحارب ذلك الأسلوب الذي تنفر منه كل الكائنات الحية، لأنه يخالف الفطرة السليمة، الإ أن بعض البشر الذين انقادوا للشيطان وغواياته قد انجذبوا إلى كل أمر يغضب الله عز وجل.
ولذا كان القرآن الكريم، وهو المصدر الأول للشريعة
الإسلامية، وهو أمكن وأصدق من أي قول بشري، يؤكد أن أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى، كان من أعمالهم: تحريف الكلم عن مواضعه، وليس هذا على الناس فيما بينهم، حتى تلتمس لهم المعاذير، كما نرى من قولهم: هذه كذبة أبريل، أو هذه كذبة بيضاء، أو لا نريد غير المزاح، وما إلى ذلك.
إذ هذا يهون أمره أمام ما هو أكبر منه، فلقد كذبوا على الله، وعلى رسل الله وغيروا في شرع الله الذي شرع لهم قال تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} (1) وقال سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} (2). وعن رسل الله قال الله عنهم: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} (3).
والقرآن الكريم مليء بما يفصح عن نوايا نفوسهم، وما نطقت به ألسنتهم، وما لقنوه للمشركين، ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبارات التكذيب، مما ينبغي معه أن يبتعد المسلم عن الكذب جدا أو هزلا، وأن ينتهج دربا يخالف دربهم، لأنه يتحلى بعقيدة تباين عقيدتهم ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسلم بمخالفتهم في كل أمر أو فعل، وألا يصدر في أحواله إلا عما هو مختوم بخاتم الإسلام، ومطبوع بطابع تعاليمه التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طاهرة نقية.
(1) سورة الزمر الآية 32
(2)
سورة الأعراف الآية 37
(3)
سورة القمر الآية 25
والمسلم مأمور بعدم التساهل في الصغائر، لأنها تجر إلى الكبائر، ومأمور بالابتعاد عن أعداء دينه ومنهجهم، لأن ذلك يجر إلى محبتهم وموالاتهم، ومأمور بأن يعرض كل ما يعترضه على مصدري التشريع في دينه: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما خالفها يجب نبذه، وما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحا فهو قبيح، والشاعر يقول: -
كل المصائب مبداها من الصغر
…
ومعظم النار من مستصغر الشرر
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
صفحة فارغة
الأخفش الأوسط أمقلد هو أم مجدد؟
بقلم
د / عبد الكريم بن محمد الأسعد
ترجمة الأخفش وأضواء على شخصيته العلمية:
عاش الأخفش الأوسط في فترة ازدهار الدولة العباسية العلمي زمن المهدي والرشيد حيث سادت الجو العلمي العام آنذاك المظاهر الآتية:
كان القرآن الكريم بين أيدي النحويين، وقارئوه معهم، والبادية الفصيحة حولهم، والقبائل بين ظهرانيهم تحيط بالبصرة والكوفة ومنها يأخذون ما يريدون، كما كان النحاة يذهبون إلى الأعراب الفصحاء يسألونهم عن كلمة أو يسمعون أحاديثهم أو ينقلونها من أفواه حاملي المأثور وحافظيه منهم، ثم يروونها عنهم.
كانت حلقات الدرس تعقد في المساجد، ومجالس المناظرة تقام في
دواوين الملوك والأمراء وبيوت علية القوم وأعيانهم، وكان الأعراب يجوسون خلال هذه الحلقات والمجالس ويقفون فيها على دروس النحويين ومناظراتهم.
ظهرت حاجة الخلفاء والأمراء والعظماء آنذاك للعلماء لتأديب أولادهم أو تزيين مجالسهم بما لا يقل عن حاجة العلماء إلى أموالهم.
انتشرت الأفكار الفلسفية ونشط الناس لدراستها، فتجلى الاعتزال، وظهر أثره القوي في علوم الدين، وساد الجدل فيها، وعم المنطق، وسيطر حتى على بعض الخلفاء كالمأمون وغيره.
تأثر البحث اللغوي والنحوي حينذاك بالعلوم العقلية وما فيها من العلل والبراهين، مما أخرجه إلى حد كبير عن النقل والسماع المحض، كذلك تأثر اللغويون والنحويون بهذا الجو تأثرا عميقا ظهر في مناهجهم في الدرس وطرائقهم في التفكير والتوجيه والتحليل.
وقد اشترك في لقب " الأخفش " كثيرون من مختلف الأمصار، أشهرهم ثلاثة، هم:
1 -
أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، الأخفش الأكبر، أو الكبير، النحوي البصري، المتوفى سنة 157 هـ، أو سنة 177 هـ، وكان من أكابر علماء العربية ومقدميهم، أخذ عنه أبو عبيدة معمر بن المثنى، كما أخذ عنه سيبويه.
2 -
أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي -صاحبنا - الأخفش الأوسط، المتوفى سنة 211 هـ، أو سنة 214هـ، وسنفصل القول عنه بعد قليل.
3 -
أبو الحسن علي بن سليمان، الأخفش الأصغر، أو الصغير المتوفى سنة
315 هـ ببغداد، قرأ على ثعلب والمبرد واليزيدي، ورحل إلى مصر ثم إلى حلب فبغداد، قال المرزياني: إنه " لم يكن بالمتسع في الرواية للأخبار والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئا ولا قال شعرا، وكان إذا سئل عن مسألة في النحو ضجر وانتهر من يواصل مساءلته "(1) لكن ياقوت ذكر أن له كتاب " التثنية والجمع " وكتاب " شرح سيبويه " وكتاب "تفسير رسالة كتاب سيبويه "(2).
وقد تعارف الباحثون على أن لقب " الأخفش " إذا أطلق انصرف إلى الأخفش الأوسط دون سواه، لأنه أشهر الأخافش على الإطلاق، فإطلاقه عن القيد يغني لشهرته عن لزوم تقييده به دائما، في حين لا غنى عن تقييد غيره على وجه الدوام بما ينبغي أن يقيد به من خاص لقبه.
سكن سعيد بن مسعدة البصرة، مولى لمجاشع بن دارم من تميم، فقطعت نشأته في بني مجاشع بينه وبين فارسيته، وأزالت حياته في البصرة اللكنة عن لسانه، وجعلته يلتزم بالتعبير الفصيح ويحرص على نقاء اللغة وينكر ما ألف الناس استعماله من العامية أو من غير العربية.
وقد حملته دواعي الدين وطلب الرفعة على الدرس والتحصيل، فحضر حلقات العلم في مساجد البصرة وأجاد فنون اللغة والنحو إجادة عظيمة، لقنه علم ذلك أعلام المعرفة في عصره، فقد أخذ عنه طائفة جليلة من العلماء مثل:
- عيسى بن عمر المتوفى سنة 1949 هـ الذي تلقى منه القراءة والنحو والصرف واللغة.
- وأبي عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 هـ الذي أفاد منه في القراءة وعلوم العربية، لكن أكثر ما نقله عنه على قلته جاءه منها بتوسط غيره
(1) انظر القفطي، إنباه الرواة 278:2.
(2)
انظر ياقوت، معجم الأدباء 248:13.
بينهما، فقد كان يقول مثلا " زعم يونس عن أبي عمرو بن العلاء ".
- ويونس بن حبيب المتوفى سنة 182 هـ الذي أفاد منه ونقل عنه في النحو والصرف واللغة، وفي القراءة والتفسير، وفى الرواية عن العرب والشعراء، وفي معاني الشعر.
- وأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 209 هـ أو سنة 213 هـ الذي اتهم الأخفش بأن كتابه في معاني القرآن صورة مغيرة لكتاب (1) معمر فيها.
- وأبي زيد الأنصاري البصري المتوفى سنة 214هـ أو سنة 215هـ الذي أفاد منه في الصرف وفي لغات العرب، التي كان يروي عنه كثيرا منها.
أما تلمذة الأخفش للخليل المتوفى سنة 160هـ أو سنة 170هـ، ففي جمهرة المصادر القديمة أن الأخفش لقي من لقيه سيبويه عنهم، والخليل كما هو معروف من هؤلاء، بل هو أهمهم وأكثرهم أثرا في سيبويه.
وبعض هذه المصادر ينفي ذلك، قال ابن جني نقلا عن أستاذه أبي علي:" كان الأخفش مع الخليل في بلد واحد فلم يحك عنه حرفا "(2).
وأغلب الظن عندي أن الأخفش قد تلمذ للخليل مرتين إحداهما مباشرة في العروض والأخرى في النحو بطريق غير مباشر، فقد كان الأخفش شديد العناية بالعروض والنحو معا، لذلك طلبهما عند أربابهما وأصحاب العلم الواسع فيهما، ولم يكن آنذاك من هو أعلم بهما من الخليل أستاذ سيبويه.
أما العرض فلم يكن ثم من فكر فيه وشغل باختراعه ثم اشتغل به آنذاك سوى الخليل، لهذا لازمه الأخفش لتلقي هذا العلم الجديد على
(1) انظر الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين 73.
(2)
ابن جني، الخصائص 311:3.
يديه، يدل على ذلك ويؤكده ما أجمعت عليه الروايات من أن عروض الخليل لم يأت إلا من طريق الأخفش، وأن هذا زاد في العروض فيما بعد بحر الخبب (1).
وأما النحو فقد كان الميدان في درسه واسعا، والمشتغلون به كثيرون، وجلهم متميز قوي متمكن منه ومن اللغة أيضا، من هنا طرق الأخفش فيهما كل باب، وجلس إلى جميع المشاهير فيهما في زمانه وسمع منهم وتلمذ لهم، ويبدو أن انشغاله بالتلقي عن أساتذته الجهابذة في النحو، واستغراقه في ذلك كل الوقت لم يكن يسمح له بالحضور في حلقة الخليل النحوية وأن اكتفاءه بما يفيده منهم، لم يكن ليجعله حريصا على غيرهم، فاكتفى لذلك بأن يقصد حلقة الخليل في دروس العروض التي تفرد بها والتي لم يكن ليجدها عند غيره ليتلقى عنه هذا العلم وحده بشكل مباشر.
أما النحو وغيره من علوم الآلة وكذلك اللغة فقد تلقى ما تلقاه منها عن الخليل من طريقين غير مباشرين، أحدهما: ما كان يسمعه من أساتذته من علم الخليل، والثاني: طريق كتاب سيبويه الذي كان معرضا لآراء أستاذه الخليل والذي كانت عامة الحكاية فيه عنه.
إن التأمل فيما ذكرته أكثر المصادر وفيما نقله ابن جني عن الفارسي قادني في محاولة التوفيق بينهما بما يجعلهما يسلمان مما يظهر عليهما لأول وهلة من التناقض إلى قول ما قلت، فأبو علي في أغلب ظني قصد إلى نفي تلقي الأخفش النحو والصرف واللغة - وهي العلوم التي كان أبو علي يهتم بها ويكاد يقصر علمه عليها - عن الخليل على نحو مباشر، ولم يقصد إلى نفي تلقي العروض - الذي لم يكن معنيا به - عنه على هذا النحو، أما
(1) انظر وفيات الأعيان 381:2.
الجمهور فقد أطلق القول إطلاقا وعممه تعميما، ولكنه لم يحدد أي الدرسين كان من الأخفش على الخليل مباشرة وأيهما كان عن طريق الكتاب وغيره.
ومن أساتذة الأخفش سيبويه المتوفى سنة 161هـ أو سنة 188هـ أو سنة 194هـ. وكان الأخفش أحفظ تلاميذه وأعلمهم حتى نعت لذلك بصاحب سيبويه أو صاحب كتاب سيبويه، وقد روى عن سيبويه كتابه بل كان الطريق الوحيدة إليه إذ لا يعرف أحد سواه قرأه على سيبويه أو قرأه سيبويه عليه، وقد جعل هذا الصلة بينهما عميقة وأواصر الصداقة منعقدة وملازمة الأخفش لسيبويه مستمرة.
ومن أساتذة الأخفش الذين أخذ عنهم نحوا أو غيره بمقدار أو بآخر أبو الخطاب الأخفش، وقعنب بن أبي قعنب المعروف بأبي السمال العدوي البصري القارئ، وأبو مالك عمرو بن كركرة النميري، وحماد بن الزبرقان، وكانا بصريين، وعلي الجمل وهو نحوي مغمور كان بالمدينة وضع كتابا في النحو (1) منه، وأبو شمر المعتزلي الذي اكتسب الأخفش منه علما بالكلام وحذفا للجدل وتأثر بآرائه الاعتزالية في كتابه " معاني القرآن " مما جعله يؤول آيات الصفات وينفي الرؤية ويؤول آياتها وينحو هذا النحو في غير ذلك من آيات العقيدة في القرآن الكريم.
وقد انفرد السيوطي (2) بالقول إنه حدث عن الكبلي والنخعي وهشام بن عروة. وكان يكثر من استعمال " بعضهم " وممن عناهم بهذا اللفظ الحسن البصري وبعض أساتذته المعروفين كسيبويه وأبي عمرو بن العلاء.
(1) انظر طبقات النحويين واللغويين 73.
(2)
انظر السيوطي، بغية الوعاة 590:1.
وكان للأخفش وراء هؤلاء أساتذة آخرون لا نعرف عنهم شيئا لأنه لم يصرح بأسمائهم في كتبه، وإنما كان يعبر عنهم بضمير الجماعة أو بالمفسرين أو بأهل التأويل أو بالنحويين أو بالجماعة أو بمن أثق به أو بعض أهل العلم، ولم توضح قرينة من نقوله عنهم أو نحوها، أو يذكر أحد من مترجميه أو شراحه من عنى بهذه التعبيرات.
أما تلاميذ الأخفش فقد كان الكسائي رأس الكوفيين وأحد القراء المشهورين المتوفى سنة 189 هـ في مقدمتهم، بدأت الصلة بينهما بعد المناظرة المشهورة التي جرت بين الكسائي وسيبويه في المسألة الزنبورية، وحين مر سيبويه بالبصرة مخذولا عرف الأخفش خبره مع الكسائي ثم مضى إلى الأهواز فما كان من الأخفش إلا أن تزود وركب سمارية (أي سفينة) توجه بها إلى بغداد ثم توجه إلى مسجد الكسائي وجلس في حلقته وكان فيها الفراء وأبو الحسن علي بن المبارك المعروف بالأحمر وهشام بن معاوية الضرير وابن سعدان من الكوفيين، وسأله عن مائة مسألة فأجاب الكسائي عنها بجوابات خطأه الأخفش في جميعها حتى أراد أصحاب الكسائي الوثوب عليه فمنعهم وعرفه وقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جانبه وطلب إليه أن لا يفارقه فأجابه إلى طلبه حتى إذا ما اتصلت الأيام وتوطدت الصلة بينهم سأله أن يؤلف كتابا في معاني القرآن فألفه فجعله الكسائي له إماما وعمل عليه كتابا في المعاني (1)، ثم إن الأخفش عاد إلى البصرة وجاء الكسائي إليها وسأله أن يقرأ عليه كتاب سيبويه فأقرأه فوجه إليه الكسائي خمسين دينارا أو سبعين (2).
ومن تلاميذه أيضا هشام بن معاوية الضرير المتوفى سنة 209 هـ الذي كان بين تلاميذ الكسائي في حلقته في مسجده ببغداد حين جاء
(1) انظر إنباه الرواة 37:2.
(2)
انظر نزهة الألباء 134.
الأخفش إليه.
وممن درس على الأخفش وروى عنه الجرمي المتوفى سنة 225 هـ ورفيقه المازني المتوفى سنة 236 هـ أو سنة 247 هـ أو سنة 249 هـ وقد أخذا عنه الكتاب (1).
ومن تلاميذه أبو حاتم السجستاني المتوفى سنة 250 هـ أو سنة 255 هـ الذي روى عنه ودرس عليه كتاب سيبويه مرتين، ومرد علم أبي حاتم بالنحو إنما هو إليه، لكنه اشتهر بأنه كان حسودا ذماما فنال أستاذه الأخفش من اتهاماته نصيب، ولعل السبب في تحامل أبي حاتم على الأخفش على الرغم من أن هذا كان أستاذا له أنه طعن في فهم تلميذه للغة القرآن فرد عليه السجستاني بعنف (2) ورماه ببعض المثالب وشيء من العيوب.
ومن تلاميذه الرياشي اللغوي المقتول بالبصرة سنة 257 هـ وقد تلمذ للأخفش وروى عنه، لكنه قرأ الكتاب على تلميذه المازني (3).
ومنهم أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني المتوفى سنة 288 هـ وقد اشتهرت روايته مسألتين في اللغة عن الأخفش، كما كثرت روايته عنه في كتابه " معاني الشعر "(4).
وانفرد أبو الطيب (5) اللغوي وتابعه السيوطي (6) بالقول إن من تلاميذ الأخفش أبا العباس الناشئ ولكن لم تعرف له في كتب النحو مسائل تؤكد ذلك.
وذكرا (7) أيضا أن التوزي المتوفى سنة 230هـ يعد في تلاميذه وقد قال التوزي نفسه إنه روى عن الأخفش، ونص ابن دريد على أخذه عنه، كما ذكر أبو حاتم أنه حضر ذات يوم مجلس الأخفش وعنده التوزي،
(1) انظر نزهة الألباء 134.
(2)
انظر الخصائص 301:3، 308، 309.
(3)
انظر إنباه الرواة 369:2.
(4)
انظر ابن جني، المنصف 135:1، والسيوطي، المزهر 1: 512 - 518.
(5)
انظر أبا الطيب اللغوي، مراتب النحويين 85.
(6)
انظر البغية 590:1.
(7)
انظر مراتب النحويين 75، والمزهر 2: 407 - 408.
وأنهما ناقشاه.
أما الزيادي المتوفى سنة 249 هـ فقد ذكر أنه أفاد من الأخفش في سؤال وجهه إليه عن قولهم: " مررت برجل قائم زيد أبوه، أأبوه بدل أم صفة؟ "(1).
وقد تلمذ قطرب المتوفى على المشهور في عام 206 هـ للأخفش، لكن أخذه عنه كان قليلا لا يعدو عدة مسائل.
ومن تلاميذ الأخفش:
اليزيدي (2) المتوفى سنة 225، وقد روى عنه كتابه:" معاني القرآن " وعرض عليه. والطوال (3) المتوفى سنة 243 هـ الذي روى عنه وتابعه في مسائل عديدة (4) والجاحظ (5) المتوفى سنة 255 هـ. وقد تحدث في كتبه أكثر من مرة عن الأخفش وعلمه بالشعر، وعن علاقته بطلابه.
وقد خلف الأخفش مؤلفات عديدة في فنون متنوعة، منها في النحو والصرف واللغة: المقاييس، المسائل الصغيرة، الاشتقاق، معاني الشعر، الأصوات، لامات القرآن، التصريف، الواحد والجمع في القرآن، البسيط، هي جميعا مفقودة.
ووصلنا من مصنفاته أربعة غير تامة هي:
كتاب " معاني القرآن " الذي ألفه في بغداد بناء على طلب الكسائي.
كتاب " المسائل الكبير " في النحو الذي صنفه في بغداد أيضا بعد أن سأله هشام الضرير بخاصة عن فروع نحوية، وبعد أن رأى اهتمام تلاميذه الكوفيين جميعا بالمسائل المتفرقة في النحو والصرف (6).
كتاب " الأوسط " في النحو.
كتاب " العروض والقوافي ".
(1) انظر الخصائص 428: 2.
(2)
انظر إنباه الرواة 41: 2، وابن رشيق، العمدة 105: 2، الجاحظ، الحيوان 63:1.
(3)
انظر إنباه الرواة 41: 2، وابن رشيق، العمدة 105: 2، الجاحظ، الحيوان 63:1.
(4)
انظر المغني 492: 2، ت محمد محي الدين عبد الحميد، والسيوطي، همع الهوامع 66:1.
(5)
انظر إنباه الرواة 41: 2، وابن رشيق، العمدة 105: 2، الجاحظ، الحيوان 63:1.
(6)
انظر طبقات النحويين واللغويين 73 - 74.
وقد أوردت المصادر نقولا كثيرة من أكثر كتب الأخفش النحوية واللغوية المفقودة، وذكر بعض المصنفين أسماء بعضها، فقد نقل على سبيل المثال من كتابه " الواحد والجمع في القرآن " في الهمع والمزهر (1)، ومن كتابيه " المسائل الصغير " و " البسيط " في الأشباه والنظائر (2) وذكر ابن جني في الخصائص كتابه " المقاييس "(3).
ولقد عاش الأخفش ملء السمع والبصر، فقد صحب سيبويه، وكان أبرع تلاميذه على الإطلاق، أخذ عنه كل ما عنده، وحرص على أن يقرأ عليه الكتاب مدققا فيه مستفسرا منه عن كل مشكلاته (4)، وحين برع التلميذ في النحو ناظر أستاذه كما أن الأستاذ إدركا منه لما آل إليه الأخفش من سعة العلم عرض عليه أشياء لاعتقاده أنه أعلم منه الآن بعد أن كان سيبويه أعلم (5)، وقد زاد تبجيل سيبويه له من تواضعه لأستاذه، فهو القائل له " إنما ناظرتك لأستفيد لا لغيره " (6) فيجيبه سيبويه:" أتراني أشك في هذا "(7).
هكذا كان الأخفش على علم دقيق بمنهج سيبويه وبمحتويات كتابه، وهكذا كانت ثقة سيبويه بالأخفش وبعمق فهمه عظيمة، فسيبويه أعظم النحاة وإمامهم آنذاك، والأخفش تلميذه في كتابه، ومستشاره في بعض ما وضع فيه، وحامله إلى الناس وحافظه للأجيال بعده، وهو في الوقت نفسه العالم بهفواته التي جرى كثير منها على لسانه بعد وفاة سيبويه أمام طلابه، مما حمل الكسائي الكوفي - وكان أحدهم - على أن يرى أنه لم يكن في البصريين من هو أعلم من الأخفش بالكتاب؛ لأنه الذي نبه على عواره (8).
كذلك كانت مصنفات الأخفش النحوية مصادر اعتمد عليها
(1) انظر الهمع 27: 1، والمزهر 149:2.
(2)
انظر السيوطي، الأشباه والنظائر 18: 1، 6: 2، 25.
(3)
انظر الخصائص 2: 1.
(4)
انظر عبد الأمير الورد، منهج الأخفش الأوسط 85.
(5)
انظر أبا الطيب اللغوي، مراتب النحويين 69.
(6)
السيرافي، أخبار النحويين البصريين 49.
(7)
السيرافي، أخبار النحويين البصريين 49.
(8)
انظر مراتب النحويين 68.
العلماء بعده، فكتابه "المسائل الكبير" مثلا مصنف ضخم عول عليه ابن السراج النحوي البغدادي المتوفي سنة 316هـ في كتابه المعروف "الأصول" وأخذت أيضا كتب النحو المعتمدة نقولا كثيرة منه (1).
لكل هذا كان من الطبيعي أن يتعرض الأخفش من معاصريه أو غيرهم لما يتعرض له الأعلام من الأعلام في المعتاد، فوجهت إليه من بعضهم سهام الطعن، ونسبت إلى صياغاته في مؤلفاته المثالب؛ فقد قيل فيه مثلا: إنه كان يتزيد في حب المال، وإن آية ذلك حرصه على أن لا يقرئ كتاب سيبويه للكسائي والجرمي والمازني إلا بالأجر الوفير، وإنه كان يبهم في كتبه ويغمض في أساليبها حتى ضج من ذلك الكبار كالجاحظ المتوفى سنة 255هـ الذي ناقش الأخفش في سبب جعل كتبه في النحو غير مفهومة (2)، ولامه على ذلك لوما شديدا ودعاه إلى تبسيطها، وقد أجابه الأخفش قائلا:"أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه - يقصد الوضع السهل - قلت حاجاتهم إلي فيها، وإنما كانت غايتي المنالة. . وإنما قد كسبت في هذا التدبير، إذ كنت إلى التكسب ذهبت"(3). وكثعلب الكوفي المتوفى سنة 291هـ الذي قال لابن الخياط النحوي البغدادي المتوفى سنة 320هـ عن كتاب الأخفش: "المسائل الكبير" في النحو: "ويحك صاحبك هذا مجنون يتكلم بما لا يفهم"(4) فأجابه: "هذا رجل أشرف على بحر فهو يتكلم منه بما يريد"(5).
ولقد حملت صعوبة كتبه وتعقيد أساليبها المصنفين على الاهتمام البالغ بمعالجة ما فيها من الوعورة والحرص على إبانة مقصودها، فكتاب "الأوسط" مثلا جعل المبرد البصري المتوفى سنة 285هـ يحرص على
(1) انظر مثلا: الهمع 172: 1.
(2)
انظر الجاحظ، الحيوان 63:1.
(3)
الحيوان 92: 1.
(4)
طبقات النحويين واللغويين 74.
(5)
طبقات النحويين واللغويين 74.
إيضاحه لأهميته، فصنع عليه كتابا سماه "معنى كتاب الأوسط للأخفش " وكأني بمبرمان النحوي البغدادي المتوفى سنة 326هـ قد رأى أن هذا الكتاب المهم الذي يظهر آخر ما استقر عليه الأخفش من الآراء - لأنه الكتاب الذي عاد فيه إلى موافقة سيبويه في عدد من أقواله التي كان خالفه فيها من قبل والذي نص فيه على أن ما عاد إليه هو آخر قوليه (1) - مازال يحيط به الغموض، وأن شرح أستاذه المبرد لم يكن كافيا ولا شافيا في الكشف عن مكنوناته، فانصرف بدوره إلى شرحه مرة أخرى وإلى تجليته في صورة واضحة لا لبس فيها ولا التواء.
وقد تحامل عليه أيضا أبو حاتم السجستاني فنسب إليه أنه وضع كتابه في النحو من كتاب علي الجمل نحوي المدينة المغمور، وأنه أخذ كتاب أبي عبيدة في معاني القرآن وادعاه لنفسه بعد أن غير فيه وبدل، وأنه كان يحتج بشعر بشار المتوفى سنة 167 هـ في كتبه لا لشيء إلا ليدرأ عنه شر لسانه (2).
ومما يشكك في أن يكون احتجاج الأخفش بشعر بشار حقيقة وحقا مقطوعا بهما: أن غير أبي حاتم قد روى أن الاحتجاج بشعر بشار إنما كان من سيبويه (3) لا من الأخفش، ثم إن هذا الشك قد تحول عندنا إلى ما يشبه اليقين حين رأينا أن الأخفش قد توفي سنة 211هـ أو سنة 214هـ ولا يعقل أن يكون احتجاجه بشعر بشار مخافة لسانه وبين سنتي وفاتهما نصف قرن من الزمان تقريبا.
أما ما زعمه أبو حاتم من أن الأخفش وضع كتابه في النحو من كتاب علي الجمل فإنه يبدو لي أن أبا حاتم انتهز إحدى الفرص ليرمي الأخفش بهذا، فقد رأى الأخفش يقول في كتابه "الزيت رطلان بدرهم"
(1) انظر مثلا الهمع، 196: 2، والتصريح 333:2.
(2)
انظر إنباه الرواة 37: 2.
(3)
انظر الأصفهاني، الأغاني 3: 203 - 204.
في حين كان الزيت لا يذكر في البصرة لأنه ليس بإدام أهلها، فأسرع أبو حاتم إلى اتهامه بالنقل الحرفي - عن علي الجمل وهو النحوي الضعيف وعن كتابه في النحو الذي لم يكن شيئا فذهب - حتى للأمثلة التي لا تستعمل في بيئة الأخفش وأبي حاتم البصرية (1).
أما أن الأخفش قد أخذ كتاب أبي عبيدة في معاني القرآن وادعاه لنفسه بعد أن غير فيه وبدل على حد قول أبي حاتم فأحسن جواب على هذا ما روي من أن أبا حاتم قال للأخفش حين رأى كتابه في معاني القرآن: أي شيء هذا الذي تصنع؟ من أعرف بالغريب؟ أنت أو أبو عبيدة؟ فأجابه: أبو عبيدة، فقاله له السجستاني: هذا الذي تصنع ليس بشيء، فأجاب الأخفش: الكتاب لمن أصلحه وليس لمن أفسده (2).
وينبغي لنا مع هذا كله أن نتحفظ في قبول ما وجهه أبو حاتم على وجه الخصوص إلى أمانة الأخفش العلمية من المطاعن، وأن لا ننظر إليه بمعزل عما يكنه أبو حاتم في نفسه للأخفش من التحامل والضغينة لسبب شخصي هو ما رماه به من سوء فهمه لمعاني القرآن، بالإضافة إلى أن أبا حاتم نفسه كان بطبيعته طعانا حقودا كثير الافتراء للمثالب والعيوب يرمي بها غيره بالحق والباطل.
ولا يصح أيضا في النظر السليم أن يقبل ما زعم من محاولة الأخفش ادعاء كتاب سيبويه استنادا إلى ما كان بينهما من صلة شخصية وثيقة وعلاقة علمية عميقة، فقد جاء هذا الاتهام في قصة غريبة ذكرتها بعض الروايات، وفحوى هذه القصة أن كتاب سيبويه آل إلى الأخفش بعد موت صاحبه وربما في حياته، وأن الأخفش أخذ يقصد بعد سيبويه
(1) انظر مراتب النحويين 100.
(2)
انظر طبقات النحويين واللغويين 73.
لقراءته عليه؛ لأنه كان أعلم الناس به وأكثرهم اطلاعا عليه، كما اشتهر عنه استحسانه له ورأيه بأنه لا نظير له في حسنه وصحته وجمعه لأصول النحو وفروعه، وقد علم بهذا الجرمي والمازني فيمن علم فخشيا أن ينتحله، واتفقا على أن السبيل إلى إظهاره ومنع الأخفش من ادعائه هو قراءته عليه بالأجرة، فأرغباه بها مجزية، فقبل، وشرعا في ذلك وأخذا الكتاب عنه ومن ثم أعلنا أنه لسيبويه وأشاعا ذلك (1).
إن هذا الزعم لم يثبت على وجه القطع وإن ثبتت قراءة الجرمي والمازني الكتاب على الأخفش، ذلك أنه كان من الممكن أن يكون حب الأخفش للمال ورغبته فيه وميله للاستكثار منه سببا يحمله على أن يضن بإقراء كتاب سيبويه لمن يرغب في ذلك من الطلاب إلا بأجر كبير وداعيا له على أن يخفيه حتى يحمل الراغبين فيه على الانصياع لرغبته في هذا الأجر ولا سيما أنه وحده المالك للنسخة الوحيدة منه، فإنه ليس من الضروري في حكم العقل أن يكون ذلك سببا قطعيا نتهمه من أجله بمحاولة انتحال الكتاب، إذ لا رابط بين الأمرين على وجه لازب. إن هذا الاتهام الذي لم تجمع عليه الروايات ولم يردده أكثرها ملفق في غلبة الظن وهو إن كان صدر من الجرمي والمازني فإنه لا يخلو أن يكون مسببا من الحسد الطبيعي الذي لا يستغرب بين كبار العلماء أو أن مبعثه سبب أو آخر من الأسباب الشخصية.
وأيا ما كان الداعي فإن مرد هذا الأمر كله إنما هو بدون شك إلى ما كان عليه الأخفش من منزلة عليا وما اتصف به من اقتدار وتفوق ونبوغ في درس اللغة والنحو مما أنفس معاصريه وغيرهم وأوجدهم وأحفظهم عليه.
(1) انظر نزهة الألباء 134.
وفي ظني أن حرص الأخفش على المال واتخاذه الوسيلة للحصول عليه عن طريق إغماض المعاني وإبهام المباني حتى يحتاج إليه في إدراك المقاصد فيعمد إلى التعلم بالأجر الذي يريد - إنما كان منه لكي لا يصير إلى ما صار إليه الخليل، وقد عرف أنه عاش فقيرا في خص من خصاص البصرة لا يشعر به أحد وأصحابه يكسبون بعلمه وكتبه الأموال (1)، أو إلى ما صار إليه سيبويه الذي لم يسعفه الحظ في الوصول إلى الثروة والجاه في حياته كما اشتهى، وليصبح في وصوله إلى مراده منهما كالكسائي والفراء فيهيء لنفسه العيش الكريم والمنزلة اللائقة مثلهما.
ويؤكد هذا المعنى ما هو معروف من قصة الأخفش مع الكسائي، حين ذهب الأخفش من البصرة إلى بغداد؛ ليثأر لأستاذه سيبويه من خصمه الكسائي، الذي هزمه بغير وجه حق في المناظرة الشهيرة في المسألة الزنبورية في دار الرشيد بحضرته وحضرة وزيره وعلية القوم معهم، ولم يكن سيبويه نفسه ليذهب إلى بغداد ليناظر الكسائي شيخ الكوفيين إلا طمعا في مثل ما رآه عليه من قرب للخلفاء والأمراء والوزراء ونحوهم، وإلا رغبة فيما يؤدي إليه هذا في العادة من نعيم ورفاهية فارهة ونفوذ علمي كان الكسائي ورؤساء النحاة الكوفيين يتمتعون بها جميعا، كذلك لم يكن تلميذه الأخفش - وهو البصري الأصيل كأستاذه - ليتحول بعد وصوله بغداد ولقائه بالكسائي وترحيب هذا به من العداء له بخاصة والخلاف مع الكوفيين بعامة إلى نقيض ذلك تماما لولا ميله إلى مثل ما مال إليه سيبويه من قبل ورغبته فيما رغب فيه، وقد تحقق له على كل حال ما لم يتحقق لأستاذه، فعاشر العظماء في بغداد وعاش مع الكبراء، واختلط بهم، وعلم أولادهم، وأقام المناظرات في مجالسهم، وأفاد منهم مالا
(1) انظر نزهة الألباء 135.