الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة
.
إن الدعاة إلى تحديد النسل ومنع الحمل قد اعتمدوا على عدة دواع وأسباب في دعايتهم لرأيهم وترويجهم له نذكرها فيما يلي مع مناقشتها:
الأول أن مساحة الأرض محدودة والصالح منها لسكنى الناس والزراعة وإنتاج ما يحتاجه الناس محدود، وأن وسائل المعاش الأخرى من الصناعة والصيد، وتربية المواشي، والتجارة، ونحوها محدودة أيضا. أما تناسل الناس فهو في نمو مستمر وزيادة غير محدودة فإذا استمر الحال على ذلك ضاقت الأرض بسكانها ولم تسعهم وسائل المعاش، ولم تكف لقوتهم وكسوتهم، وهبط مستواهم في جميع النواحي صحة وعلما وثقافة، وانتهى بهم الأمر إلى أن يعيشوا عيشة بؤس وشقاء أو أن يهلكوا نتيجة للعري والجوع والنزاع والتناحر على لقمة العيش، وما يدفع عنهم غائلة الحر والبرد فوجب أن يتخذ ما يلزم من وسائل لتحديد النسل، والوقوف به عند غايته، إنقاذا للناس من خطر داهم قد ظهرت بوادره وأنذرتهم سوء المصير.
المناقشة.
أولا: الحكم في أن زيادة التناسل وتضاعف عدد الناس في المستقبل يفضي إلى ضيق الأرض عن سكناهم وضيق وسائل المعاش العديدة عن أن تسعهم وتكفي لسد حاجتهم حكم مبناه الخرص والتخمين والنظر الاقتصادي الخاطئ الذي كذبه الواقع إن الأرض لم تضق بسكانها مع كثرة نموهم وتزايدهم، ولم تزل وسائل المعاش تتسع لهم منذ خلقوا إلى يومنا الحاضر، وقد قرر ذلك كثير من علماء الاقتصاد وخطئوا النظرية الاقتصادية التي يبني عليها دعاة تحديد النسل رأيهم.
ثانيا: إن دعوى أن مساحة الأرض التي تصلح للسكنى والزراعة والإنتاج محدودة دعوى غير صحيحة فإن ما سكن من الأرض وما استثمر منها في الزراعة والإنتاج وإخراج دفائنه وخاماته قدر ضئيل بالنسبة لما لم يسكن وما لم يستغل غير أنه يحتاج إلى تهيئة للسكنى والاستثمار وسعة في العلم بالكونيات وما أودعه الله في الأرض
ومعرفة بطرق استخراجها وتخليصها وخبرة بخواصها وكيفية استغلالها والانتفاع بها، فعلى تقدير وجود مشكلة فهي لم تنشأ عن كثرة تناسل وتكاثف السكان وإنما نشأت من الجهل بما أودعه الله في الأرض من خيرات، وقلة العلم بطرق الاستغلال وإهمال الناس أو إعراضهم عن العمل والسعي لكسب ما فيه سعة ورخاء ونهوض بهم وارتقاء.
ثالثا: إن ضرورة الناس وشدة حاجتهم ألجأتهم إلى تهيئة ما يستطيعون من الأرض وإصلاحه للسكنى والزراعة واضطرتهم أن يتعلموا من العلوم الكونية ما يساعدهم على التوسع في ذلك، ويفتح لهم أبوابا كثيرة لمعرفة الوسائل العديدة التي تقوم عليها حياة الناس، وتجعلهم مترفين منعمين، ولا يزالون يجدون في العمل ويدأبون فيه بدافع فطرتهم وغرائزهم حتى تكشفت لهم وسائل عمرانية لم يعهدوها من قبل، وعرفوا كثيرا من طرق الكسب والمعاش والنهوض والرخاء لم تكن تخطر لهم ببال، وليس ببعيد لو عرضت عليهم من قبل أن يقول قائلهم إنها سحر أو ضرب من ضروب الخيال، وما ندري ما يسفر عنه المستقبل من شئون الحياة التي قدرها الله لعباده، وأودع لهم أصولها في أبواب السماء وخزائن الأرض، وجعل لهم من الأفكار والعلوم ما به يتمكنون من تسخيرها لمصالحهم وسعادتهم، قال الله تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (1){وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (2){وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (3) ومن نظر في زيادة المساحة المعمورة من الأرض وتحويلها إلى قصور شاهقة وزروع مثمرة وجنات فيحاء ممتعة، ونظر إلى زيادة وسائل العيش وكثرتها وتنوعها وجدها تتضاعف مضاعفة مطردة مع نمو السكان وزيادة عددهم، ولا عجب في ذلك، فإنهم الأيدي العاملة التي خلقها الله لعمارة الأرض وإنها لسنة الله سبحانه في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولولا ذلك لكانت الأرض خرابا يبابا، أو وقف بها العمران عند غاية تتفق مع عدد السكان وقدراتهم ومعارفهم حسب ما تقضي به سنة الله سبحانه في الأسباب العادية ونتائجها، وإن الواقع لأقوى وأعدل شاهد لما تقدم وإنه لدليل واضح على خطأ النظرية الاقتصادية التي بنى عليها دعاة تحديد النسل مقالتهم، وقد اضطر هذا الواقع كثيرا من علماء الاقتصاد أن يردوا على إخوانهم دعاة تحديد النسل مذهبهم وأن يبينوا لهم مخالفته لواقع الحال وحقيقة الأمر، ولذلك أيضا رجع عن هذا الرأي كثير ممن كانوا يدعون إليه حينما أحسوا بعواقبه السيئة من ضعف في قوى حماية البلاد والدفاع عنها، وفي قوى الإنتاج لقلة الأيدي العاملة. إلخ. ودعوا إلى التناسل ورغبوا في كثرته بإعطاء المكافآت إنقاذا لأنفسهم من الخطر الذي أصابهم من جراء الدعوة المشؤومة إلى تحديد النسل وبهذا يعرف فساد ما زعمه بعضهم من أن عدم تحديد النسل يخرج للأمة أولادا لا حاجة إليهم، ولا يفيدونها في ميدان الحياة، وربما
(1) سورة الذاريات الآية 20
(2)
سورة الذاريات الآية 21
(3)
سورة الذاريات الآية 22
ولدوا مرضى فيكونون كلا على أولياء أمورهم أو على حكومتهم، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند الكلام على مضار وسائل تحديد النسل أو منعه أو تنظيمه.
رابعا: إن الدعاة إلى تحديد النسل خشية أن تضيق الأرض بالسكان، وخشية أن تضيق بهم وسائل العيش من كثرتهم مع خطئهم في تقديرهم وقصور عقولهم يظنون بالله الظنون، ويتدخلون في تقديره لشئون عباده، وهذا هو الضلال البعيد، فإن الله هو الذي خلق عباده، وهو الذي يدبر معايشهم، وهو الرزاق ذو القوة المتين، وقد قدر أرزاقهم وما يجري عليهم في جميع أحوالهم قبل أن يكونوا، قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) وقال {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (2) وقال {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) وقد أنكر على المشركين قتلهم أولادهم خشية الفقر، لاشتماله على جرائم، جريمة قتل النفس، وجريمة ظن السوء بالله، ودخول الإنسان فيما لا يعنيه مما هو شأن من شئون الله، وكل من قتل النفس وظن السوء بالله، والدخول فيما هو من شئون الله وحده جريمة، قال الله تعالى {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (4) وقال {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (5) وقال تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (6) فمن حدد النسل بإجهاض قد يكون مرتكبا لهذه الجرائم الثلاث أو لبعضها، ومن حدده بمنع الحمل بوسيلة غير الإجهاض فهو مرتكب لجريمة ظن السوء بالله، وجريمة الدخول فيما هو من شئونه وحده، وكفى بذلك عدوانا وضلالا مبينا.
الثاني: ذكر دعاة تحديد النسل أن الفطرة وضعت حدا مناسبا لتنظيم النسل والمنع من تضخمه في جميع أنواع الأحياء حتى الإنسان، وذلك بالقضاء على كثير من أسباب التوالد والتناسل ابتداء وبالموت
(1) سورة القمر الآية 49
(2)
سورة الرعد الآية 8
(3)
سورة هود الآية 6
(4)
سورة الأنعام الآية 151
(5)
سورة الإسراء الآية 31
(6)
سورة الإسراء الآية 36
والفناء بعد الوجود في أطوار وأزمان مختلفة، فليس بعجيب أن يقال بتحديد النسل أو تنظيمه بالوسائل الحديثة المتبعة اليوم، بل في ذلك مجاراة للفطرة، وسير معها إلى الهدف المنشود من التوازن بين عدد السكان ووسائل العيش والنهوض بالإنسان إلى مستوىيكفل له الراحة وطمأنينة النفس والشعور بمتعة الحياة ولذاتها.
المناقشة.
أ- إن كان المراد بالفطرة في نظر دعاة تحديد النسل طبيعة الأحياء وخواصهم وغرائزهم التي أودعت فيهم لتقوم الحياة ويعمر الكون فما ذكروه مبررا لتحديد النسل أو تنظيمه مناقض للفطرة، وحرب على ما أودعه الله في الإنسان من طبائع وخواص فإن الإنسان مجبول على الرغبة الملحة في التزاوج، مجبول على حب التناسل، تواقة نفسه إلى الذرية مسلما كان أو كافرا، حتى إن من حرم الذرية أو أصيب فيما رزق منها بآفات قضت عليها ليكاد يتقطع أسى وحسرة على ما فاته من نعمة الذرية، واعتبر ذلك بلاء نزل به وقضى على سعادته إلا من عصمه الله بالإيمان، ورضي بقضاء الله وقدره فيه، ومن آتاه الله الذرية عد نفسه سعيدا، وتجلت فيه عاطفة الأبوة أو الأمومة وحنانها، وبذل جهده فيما يلزم لسعادة أولاده مع ارتياح ورحابة صدر، وسهر الليالي لسهرهم عملا على راحتهم وتحقيقا لمصلحتهم، وبهذا اتضح أي الأمرين جرى على سنن الفطرة، ومقتضى الطبيعة البشرية، الإبقاء على النسل وعدم الوقوف في طريق ازدياده أم العمل على منعه والقضاء عليه بعد الحمل بإجهاض ونحوه. أضف إلى ذلك ما في كلامهم من الزيغ، حيث نسبوا إلى فطرة الأحياء وطبائعهم تحديد النسل أو تنظيمه بالعقم أو بالموت والقضاء على كثير من أسباب التناسل، وذلك لا يصدر إلا عن جاهل فاسد العقيدة، قال تعالى {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (1){أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (2) وقال {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3).
ب- وإن زعموا أن المراد بالفطرة ما يسمى في شريعة الإسلام بالله رب العالمين ففيه أولا: سوء أدب في التعبير، وثانيا: التدخل في شأن من شئون الله وحده، وليس مما يعود إليهم تدبيره، وثالثا: قياس أنفسهم في تقديرهم لتحديد النسل على الله في تدبيره وتعريفه لشئون عباده، وشتان ما بين عبد مملوك خطاء قاصر الفكر والتقدير والتدبير. إلخ ورب حكيم له كمال القدرة وإحكام التدبير وله الخلق والأمر وكمال الاختيار يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد. إلخ. لقد فشلت نظرية تحديد النسل أول الأمر اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا؛ لمناقضتها
(1) سورة الشورى الآية 49
(2)
سورة الشورى الآية 50
(3)
سورة يونس الآية 56
مقتضى الفطرة وطبيعة البشر وبنائها على الخرص والتخمين الذي كذبه الواقع، ولإفضائها إلى نتائج خبيثة وعواقب وخيمة ومضار فادحة كما سيجيء بيانه في مضار الوسائل التي تتخذ لذلك، ولم يكتب لها الانتشار إلا بكثرة الدعاية والتلبيس على الناس ومصادفة هوى عند عباد الشهوات ومن يفرون من تحمل المسئوليات ويحرصون على نزواتهم دون المصالح العامة مع عوامل أخرى كالتقدم الصناعي وإقبال الناس على الصناعة وانتقالهم إلى المدن لذلك وزهدهم في الزراعة وانغماس الناس في الترف والنعيم وكثرة الكماليات والأثرة المادية فارتفعت الأسعار وكثرت التكاليف وعمل كل لنفسه بدافع غريزة حب التملك، وخرجت المرأة إلى ميدان العمل وكرهوا تحمل أعباء نفقة الأولاد ورعايتهم، ولم يلبث الأمر أن انكشف الستار وظهرت الحقيقة للمفكرين منهم فرجعوا عن ذلك، وردوا على هذه النظرية ردودا حاسمة.
الثالث: أن طبقات الناس متفاوتة غنى وفقرا، والطبقة الفقيرة منهم لا تتسع ثروتها لتربية الأولاد تربية تكفل لهم السعادة والهناء، وليس في أموالهم ما ينهض بتعليمهم تعليما عاليا يسمون به وتسمو به أمتهم فإذا تركوا وشأنهم في التناسل زاد عدد الأولاد وتكاثر، واشتدت الكارثة، وعجز أولياء أمورهم عن القيام بشئونهم تغذية وكسوة وتعليما على ما يرام، وعندئذ يعيشون عيشة لا يغبطون عليها أما الطبقة الغنية والمتوسطة فإن أولادهم إذا زاد عددهم تفتتت ثروتهم وهبط مستواهم وضعفت إمكانياتهم، وبذلك تسوء حالتهم وحال الأمة ويضعف شأنها وتتأخر علما وإنتاجا، وتعيش عيشة بؤس وشقاء، فلهذا وجب الحد من التناسل؛ صيانة للأسرة مما يتهددها من خطر كثرة الأولاد، وإنقاذا للأمة مما يتوقع لها من البلاء وشدة الأزمات (1) ".
المناقشة.
هذه الشبهة وليدة للشبهة الأولى وصنو لها، فيجاب عنها بما تقدم من المناقشة فيها ثم هي لا تزيد على أن تكون دعاية لتحديد النسل بتزيين الباطل، والتلبيس على الناس ليخدعوهم عن مقتضى فطرتهم السليمة التي فطرهم الله عليها، ويصدوهم عما هو مصدر سعادتهم، وما تتحقق به مصالحهم، ويحصل لهم به عوامل القوة والنماء والرخاء فإن الأولاد هم الأيدي العاملة وهم مصدر الثروة والنماء وزيادة الرخاء، فبكثرتهم تكثر الخيرات، ويزداد العمران في الأرض، وتنهض الأمم في جيشها وقوتها، وفي علمها واختراعها، وفي إنتاجها ورعايتها لجميع
(1) انظر ما نقله الأستاذ أبو الأعلى المودودي عن الأطباء وعلماء النفس في كتابه " حركة تحديد النسل
مرافق حياتها، وكثيرا ما وجدنا بيوتا قد فتحت على أيدي الأولاد، وعمها الخير والرخاء، وكثيرا ما شاهدنا العلماء من أبناء الفقراء والطبقات المتوسطة، وأنهم نهضوا بأممهم وقاموا بمصالحهم وكانوا ملاك سعادتها وزهرة حياتها، وعنوان مجدها، فإن تخلف شيء من ذلك فهو من الفوضى والإهمال والتفريط لا من زيادة التناسل، ومن المعروف أن النهوض وليد الطموح ويقظة النفس وشعورها بالحاجة، وأن الفساد والهبوط وليد الدعة وتبلد النفس وعدم الإحساس بالحاجة وقد يكون ذلك مع الغني كما يكون مع الفقير وإذا فليست المشكلة من كثرة التناسل وزيادة الأولاد حتى يسعى في حلها بتحديد النسل أو منع الحمل.
الرابع: زعموا أن تحديد النسل أو منع الحمل يحفظ للمرأة صحتها وجمالها، وأن تتابع الحمل والولادة وما يتبع ذلك من رعايتها لأولادها وقيامها بشئونهم ورعايتها لهم وسهرها على مصالحهم يهدم كيانها ويذهب قواها وجمالها، ويهدد حياتها الزوجية، فقد يزهد فيها زوجها فيطلقها أو ينصرف عنها إلى غيرها لسوء حالها واشتغالها عنه بأولادها.
المناقشة.
أ- إن هذه الشبهة إنما يتشدق بها ويروج لها من طغت عليه شهوته الحيوانية، وانحرفت فطرته الإنسانية فلا هم له إلا الاستمتاع بزوجته وقضاء وطره منها ويفر من تكاليف الذرية وتحمل أعبائها، استجابة لدواعي الشهوة البهيمية، وإيثارا لجانب اللذائذ الحيوانية التي لا تعدل في نفس من سلمت فطرته من الناس أو تقارب إرواء عاطفة الأبوة والأمومة الكامنة في أعماق النفوس وحياة القلوب.
ب- إن عزل المرأة عن وظيفة الحمل والولادة التي هي من أجل ما خلقها الله لها يحدث فيها كبتا ويولد فيها عقدا نفسية، ويورثها بؤسا وكآبة تذهب بجمالها وحسن رونقها، وإذا استعملت لمنع الحمل أو إسقاطه العقاقير وأمثالها زادها ذلك هما وضاعف آفاتها ومضارها. ولا شك أن هذا الخطر يزيد على ما يذكره دعاة تحديد النسل في شبهتهم من المضار الناشئة عن كثرة الحمل والولادة - مع ما في زيادة التناسل من النماء في الإنتاج وزيادة وسائل المعيشة والنفع الخاص بالأسرة والعام للأمة، فأي الأمرين أحق بالحرص عليه والدعوة إليه قال الدكتور " الكسيس كارل " في كتابه " الإنسان ذلك المجهول " إنه حتى هذه الأيام لم ينضج فكر الإنسان ولم يشعر على الوجه التام بما لوظيفة التوليد من الأهمية في حياة المرأة، إن قيام المرأة بهذه الوظيفة مما لا مندوحة عنه لكمالها القياسي، فما تحريف النساء عن التوليد ورعاية الطفل إلا حماقة شنيعة لا يقدم عليها عاقل. وقال الدكتور " ازوالد شوارز " أحد علماء النفس في كتابه " نفسية الجنس ": أي شيء يا ترى يدل عليه وجود الغريزة الجنسية في الإنسان؟ ولأي غرض قد وضعت فيه؟ ومن الحقيقة التي لا غبار عليها أن هذه الغريزة إنما هي لإنجاب الذرية وتخليد النسل، إذ من القوانين الثابتة في علم الأحياء أن كل عضو في جسد الإنسان يجب أن يؤدي وظيفته الخاصة المستقلة حتى يحقق بذلك المهمة التي قد أسندت إليه، وعلى هذا إذا منع هذا العضو من أداء وظيفته الخاصة فلا بد أن تتعرض حياة الإنسان لمشاكل مرهقة متعددة، ومما يتعلق بهذا البحث أن جسد المرأة لم يخلق في معظمه إلا لوظيفة الحمل والتوليد فهي إذا منعت أن تعمل لتحقيق هذه الوظيفة الأساسية لنظامها الجسدي والعقلي فلا بد أن
تذهب ضحية الاضمحلال والتذمر والعقد النفسية المتعددة، وعلى خلاف هذا فإنها عندما تصبح أما تجد جمالا جديدا وبهاء روحيا يتغلب على ما قد يعتريها من الضعف والاضمحلال بسبب وضع الطفل وإرضاعه.
وقال أيضا: إن كل عضو في جسدنا يجب أن يقوم بوظيفته، وعلى هذا فإنه إذا حيل بينه وبين أن يقوم بوظيفته فلا بد أن يختل به التوازن في نظامنا الجسدي، إن المرأة ليست بحاجة إلى إنجاب ذرية لمجرد أن ذلك تقتضيه عاطفة الأمومة التي قد فطرت عليها، أو لمجرد أنها ترى القيام بهذه الخدمة واجبا عليها، بناء على ضابط خلقي مفروض عليها، وإنما هي بحاجة إليها؛ لأن نظامها الجسدي ما بني كله إلا للقيام بها فهي إذا منعت أن تقوم بها فلا بد أن تتأثر شخصيتها كلها بالانقباض والحرمان والهزيمة واليأس المميت. أهـ.
إن الذين بدءوا بالدعوة إلى منع الحمل أو تحديد النسل وروجوا دعوتهم بما تقدم من الشبه وأمثالها جماعة لا يؤمنون بأن للعالم ربا عليما خبيرا بشئون عباده، حكيما في تدبير أمورهم وتصريف أحوالهم ولا يرضون بشريعة الإسلام دينا ولا بمحمد رسولا، فلا عجب أن يظنوا بالله الظنون الكاذبة، وأن يدخلوا تفكيرهم القاصر المحدود فيما هو من شأنه وحده، وأن يناقضوا شريعة الإسلام ويكونوا حربا على مقاصدها، ولا عجب أيضا أن يسير في ركابهم ويدعو بدعوتهم بعض جهلة المسلمين وأرباب الهوى منهم، فإن الجهل قتال يقذف بصاحبه في لجج الضلال والهلاك وأن الهوى يعمي ويصم، وإنما العجب أن يناقضوا ما يدعون أنهم قتلوه بحثا وأحاطوا به علما من نظريات الاقتصاد وأصول علم النفس وعلم الأحياء وتاريخ الأمم وما جرى عليها من أحداث.
ونختتم الكلام على ما ذكروا من البواعث والدواعي لمنع الحمل أو تحديد النسل بذكر بعض دواع أخرى تقع قليلا أو نادرا فيحكم فيها بما يناسبها من الأحكام، فإنها تختلف عما تقدم في أهدافها ومقاصدها وربما كان لمن ألمت به العذر في منع الحمل أو تنظيمه.
أ- قد يكون بالمرأة ما تتعذر معه الولادة العادية، فيخرج الولد بإجراء عملية جراحية، وربما كان في ذلك خطورة، كما أن تكرر ذلك خطر على المرأة وقضاء على حياتها ففي مثل هذا يمكن أن يقال بوجوب منع الحمل أو المنع من تكراره، محافظة على حياة المرأة وذلك راجع إلى مقصد من المقاصد الضرورية الخمسة، وهو المحافظة على النفس ولكن من الواضح أن هذا وأمثاله ليس من تحديد النسل ولا من تنظيمه ولا يتفق معه في الدواعي أو الغرض الذي ألجأ إليه، فلا يصح أن يخلط بينهما تلبيسا على الناس، ولا أن يحتج بمثل هذا على تحديد النسل أو منعه للدواعي الأخرى.
ب- وقد يضر المرأة تتابع الحمل لضعف بها أو مرض، ويقرر أهل الخبرة إن كان عليها من تتابعه خطورة، فلها أن تتخذ وسائل غير ضارة لتنظيم الحمل وتأخيره فترة من الزمن تستجم فيها، وتسترد نشاطها وقوتها، ويرجع فيما تستخدمه من الوسائل لأهل الخبرة، مخافة أن تصاب بعقم أو مرض آخر من جراء استخدام الوسائل لتنظيم الحمل، للبواعث الأخرى التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل فلا مستند فيه لهم.
ج- وقد يظن الرجل أن وطأه امرأته أو أمته وهي ترضع يضر بالولد، فيمتنع من ذلك محافظة على صحة الرضيع وحرصا على سلامته، سواء قلنا تغير لبن المرأة وتضرر الرضيع بنفس الجماع أو بالحمل المتوقع منه فعلى تقدير أن ذلك يعتبر عذرا للرجل في ترك الجماع أو للزوجة في الامتناع منه فإنه ليس من باب تحديد النسل أصلا ولا من جنس منع الحمل للدواعي المنكرة التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل أو منعه، على أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن ينهى عن الغيلة محافظة على الرضيع ثم رجع عن ذلك وبين السبب، روى أحمد ومسلم عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول:«لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت إلى الروم فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا (1)» . . " الحديث.
د- ربما يحتاج الرجل إلى العزل عن أمته أو زوجته حرة أو أمة، وقد اختلف العلماء في حكم ذلك اختلافا كثيرا فمنهم من حرم ذلك مطلقا عن أمته وزوجته حرة أو أمة، ومنهم من أجازه مطلقا وفرق جماعة بين الأمة والحرة، وفرق آخرون بين حالة الإذن وعدمه فأباحه في الأولى دون الثانية وتفصيل الخلاف في ذلك معروف في كتب الفقه، ومنشؤه اختلاف العلماء في فهم ما ورد في ذلك من الأحاديث واختلافهم فيمن له الحق في الوطء والولد ومن لا حق له في ذلك.
ولما كان كلام ابن القيم مستوفيا لتفصيل القول في حكم العزل مع الأدلة والمناقشة اكتفينا بذكره هنا قال رحمه الله (2) فصل: في حكمه صلى الله عليه وسلم في العزل.
ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد قال «أصبنا سبيا فكنا نعزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وإنكم لتفعلون قالها ثلاثا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة (3)» . وفي السنن عنه أن رجلا قال: «يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال: كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه (4)» . وفي الصحيحين عن جابر «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل (5)» . وفي صحيح مسلم عنه «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا (6)» . وفي مسلم أيضا: عنه قال: «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذلك لا يمنع شيئا أراده الله قال فجاء الرجل فقال يا رسول الله إن الجارية التي ذكرتها لك حملت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا عبد الله ورسوله (7)» .
وفي صحيح مسلم أيضا عن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول
(1) صحيح مسلم النكاح (1442)، سنن الترمذي الطب (2077)، سنن النسائي النكاح (3326)، سنن أبو داود الطب (3882)، سنن ابن ماجه النكاح (2011)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 434)، موطأ مالك الرضاع (1292)، سنن الدارمي النكاح (2217).
(2)
ص30 من ج4 من زاد المعاد طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية
(3)
صحيح البخاري النكاح (5210)، صحيح مسلم النكاح (1438)، سنن الترمذي النكاح (1138)، سنن النسائي النكاح (3327)، سنن أبو داود النكاح (2172)، سنن ابن ماجه النكاح (1926)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 68)، موطأ مالك الطلاق (1262)، سنن الدارمي النكاح (2224).
(4)
سنن أبو داود النكاح (2171)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 82)، موطأ مالك الطلاق (1262)، سنن الدارمي النكاح (2224).
(5)
صحيح البخاري النكاح (5209)، صحيح مسلم النكاح (1440)، سنن الترمذي النكاح (1136)، سنن ابن ماجه النكاح (1927)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 309).
(6)
صحيح البخاري النكاح (5209)، صحيح مسلم النكاح (1440)، سنن الترمذي النكاح (1136)، سنن ابن ماجه النكاح (1927)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 309).
(7)
صحيح مسلم النكاح (1439)، سنن أبو داود النكاح (2173)، سنن ابن ماجه المقدمة (89)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 388).
الله، إني أعزل عن امرأتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل أشفق على ولدها أو قال على أولادها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ضارا ضر فارس والروم (1)». وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها (2)» وقال أبو داود: سمعت أبا عبد الله ذكر حديث ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن المحرز بن أبي هريرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها (3)» فقال: ما أنكره! فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل. وقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة. علي وسعد بن أبي وقاص وأبي أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وابن مسعود. قال ابن حزم: وجاءت الإباحة للعزل صحيحة. عن جابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن مسعود، وهذا هو الصحيح.
وحرمه جماعة منهم: أبو محمد بن حزم وغيره وفرقت طائفة بين أن تأذن له الحرة، فيباح، أو لا تاذن: فيحرم. فإن كانت زوجته أمة أبيح بإذن سيدها ولم يبح بدون إذنه. وهذا منصوص أحمد. ومن أصحابه من قال: لا يباح بحال ومنهم من قال: يباح بكل حال، ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة ولا يباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حق المرأة في ذوق العسيله لا في الإنزال ومن حرمه مطلقا: احتج بما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة عن جذامة بنت وهب أخت عكاشه قال: «حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس فسألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي وهي قوله تعالى (5)» قالوا: وهذا ناسخ لأخبار الإباحة فإنه ناقل عن الأصل، وأحاديث الإباحة: على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية قالوا: وقول جابر «كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيئا ينهى عنه لنهى عنه القرآن (6)» فيقال: قد نهى عنه من أنزل عليه القرآن بقوله: «إنه الموءودة الصغرى (7)» والوأد كله حرام قالوا: وقد فهم الحسن البصري النهي من حديث أبي سعيد الخدري، «لما ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا عليكم ألا تفعلوا. ذاكم: إنما هو القدر (8)» قال ابن عون: فحدثت به الحسن فقال والله لكأن هذا زجر قالوا ولأن فيه قطع النسل المطلوب من النكاح وسوء العشرة وقطع اللذة عند استدعاء الطبيعة لها قالوا ولهذا كان ابن عمر لا يعزل وقال: " لو علمت أن أحدا من ولدي يعزل لنكلته " وكان علي يكره العزل. ذكره شعبة عن عاصم عن زر بن حبيش عنه وصح عن ابن مسعود أنه قال في العزل هو الموءودة الصغرى، وصح عن أبي أمامة أنه سئل عنه؟ فقال ما كنت أرى مسلما يفعل، وقال نافع عن ابن عمر " إن عمر ضرب على العزل بعض بنيه " قال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب " كان عمر وعثمان ينهيان عن العزل " وليس في هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها.
(1) صحيح مسلم النكاح (1443)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 203).
(2)
سنن ابن ماجه النكاح (1928).
(3)
سنن ابن ماجه النكاح (1928).
(4)
صحيح مسلم النكاح (1442)، سنن الترمذي الطب (2077)، سنن النسائي النكاح (3326)، سنن أبو داود الطب (3882)، سنن ابن ماجه النكاح (2011)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 434)، موطأ مالك الرضاع (1292)، سنن الدارمي النكاح (2217).
(5)
سورة التكوير الآية 8 (4){وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}
(6)
صحيح البخاري النكاح (5209)، صحيح مسلم النكاح (1440)، سنن الترمذي النكاح (1136)، سنن ابن ماجه النكاح (1927)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 377).
(7)
سنن الترمذي النكاح (1136)، سنن أبو داود النكاح (2173).
(8)
صحيح البخاري كتاب القدر (6603)، صحيح مسلم النكاح (1438)، سنن الترمذي النكاح (1138)، سنن النسائي النكاح (3327)، سنن أبو داود النكاح (2172)، سنن ابن ماجه النكاح (1926)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 68)، موطأ مالك الطلاق (1262)، سنن الدارمي النكاح (2224).
أما حديث جدامة بنت وهب فإنه وإن كان رواه مسلم فإن الأحاديث الكثيرة على خلافه، وقد قال أبو داود - حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى: أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه أن رفاعة حدثه عن أبي سعيد الخدري " أن رجلا قال: «يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أعزل عنها. وأنا أكره أن تحمل. وأنا أريد ما يريد الرجال، وأن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى. قال كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه (1)» وحسبك بهذا الإسناد صحة فكلهم ثقات حفاظ، وقد أعله بعضهم بأنه مضطرب، فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير. فقيل: عنه عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله ومن هذه الطريق أخرجه الترمذي والنسائي، وقيل فيه عن أبي مطيع عن رفاعة وقيل عن أبي رفاعة. وقيل: عن أبي سلمة أن أبا هريرة. وهذا لا يقدح في الحديث. فإنه عند يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر. وعنده عن ابن ثوبان، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وعنده عن ابن ثوبان، عن رفاعة عن أبي سعيد. ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة: هل هو رفاعة، أو ابن رفاعة، أو أبو مطيع؟ وهذا لا يضر مع العلم بحال رفاعة. ولا ريب أن أحاديث جابر صريحة صحيحة في جواز العزل وقد قال الشافعي ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم رخصوا في ذلك، ولم يروا به بأسا. قال البيهقي: وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وابن عباس وغيرهم. وهو مذهب مالك والشافعي وأهل الكوفة، وجمهور أهل العلم.
وقد أجيب عن حديث جدامة بأنه على طريق التنزيل وضعفته طائفة، وقالوا: كيف يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كذب اليهود في ذلك، ثم يخبر به كخبرهم؟ هذا من المحال البين. وردت عليهم طائفة أخرى، وقالوا: حديث تكذيبهم فيه اضطراب. وحديث جدامة في الصحيح. وجمعت طائفة أخرى بين الحديثين، وقالت: إن اليهود كانت تقول: إن العزل لا يكون معه حمل أصلا. فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. ويدل عليه قوله: صلى الله عليه وسلم «لو أراد الله أن يخلقه لما استطعت أن تصرفه (2)» وقوله: «إنه الوأد الخفي (3)» وإن لم يمنع الحمل بالكلية، كترك الوطء. فهو مؤثر في تقليله. قالت طائفة أخرى: الحديثان صحيحان. ولكن حديث التحريم ناسخ. وهذه طريقة أبي محمد بن حزم. قالوا: لأنه ناقل عن الأصل. والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة ودعوى هؤلاء: تحتاج إلى تاريخ محقق، يبين تأخير أحد الحديثين عن الآخر، وأنى لهم به؟ وقد اتفق عمر وعلي على أنها لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع. فروى القاضي أبو يعلي وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال " جلس إلى عمر: علي والزبير وسعد
(1) سنن أبو داود النكاح (2171)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 82)، موطأ مالك الطلاق (1262)، سنن الدارمي النكاح (2224).
(2)
صحيح البخاري المغازي (4138)، صحيح مسلم النكاح (1438)، سنن الترمذي النكاح (1138)، سنن النسائي النكاح (3327)، سنن أبو داود النكاح (2171)، سنن ابن ماجه النكاح (1926)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 82)، موطأ مالك الطلاق (1262)، سنن الدارمي النكاح (2224).
(3)
صحيح مسلم النكاح (1442)، سنن الترمذي الطب (2077)، سنن النسائي النكاح (3326)، سنن أبو داود الطب (3882)، سنن ابن ماجه النكاح (2011)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 434)، موطأ مالك الرضاع (1292)، سنن الدارمي النكاح (2217).
في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا العزل. فقالوا: لا بأس به فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى. فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون لحما، ثم تكون خلقا أخر، فقال عمر: صدقت. أطال الله بقاءك وبهذا احتج من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء.
وأما من جوزه بإذن حرة، فقال: للمرأة حق في الولد كما للرجل حق فيه. ولهذا كانت أحق بحضانته.
قالوا: ولم يعتبروا إذن السرية فيه. لأنها لا حق لها في القسم. ولهذا لا تطالبه بالفيئة. ولو كان لها حق في الوطء لطولب المولي منها بالفيئة. قالوا: وأما زوجته الرقيقة فله أن يعزل عنها بغير إذنها، صيانة لولده عن الرق. ولكن يعتبر إذن سيدها؛ لأن له حقا في الولد. فاعتبر إذنه في العزل كإذن الحرة ولأن بدل البضع يحصل للسيد كما يحصل للحرة. فكان إذنه في العزل كإذن الحرة. قال أحمد في رواية أبي طالب، في الأمة إذا نكحها: يستأذن أهلها، يعني في العزل لأنهم لا يريدون الولد، والمرأة لها حق، تريد الولد، وملك يمينه لا يستأذنها، وقال في رواية صالح، وابن منصور، وحنبل، وأبي الحرث والفضل بن زياد، والمروذي: يعزل عن الحرة بإذنها، والأمة بغير إذنها يعني أمته، وقال في رواية ابن هانئ: إذا عزل عنها لزمه الولد، قد يكون الولد مع العزل، وقد قال بعض من قال: ما لي ولد إلا من العزل، وقال في رواية المروذي في العزل عن أم الولد: إن شاء. فإن قالت: لا يحل لك، ليس لها ذلك اهـ.
ومهما يكن من الاختلاف في حكم عزل الرجل عن زوجته حرة أو أمة أو عزله عن سريته من الإباحة مطلقا أو المنع مطلقا أو إباحته مع الإذن ومنعه بدونه فليس من باب تحديد النسل، فإنه إن كان بالنسبة للأمة إنما كان خشية أن تحمل منه وهو يكره أن يكون له منها ولد أو خشية أن تصير أم ولد وهو في حاجة إلى خدمتها أو ثمنها كما هو واضح من الأحاديث المتقدمة، وأما بالنسبة - للزوجة فقد يكون للمحافظة على رضيعها، وقد يكون خشية أن تحمل وهي مريضة أو ضعيفة فيضرها الحمل أو يضرها تتابعه، وقد يكون لأسباب أخرى دعتهم إلى ذلك غير أنها ليس منها تحديد النسل، لسلامة فطرهم وقوة توكلهم على الله وثقتهم به ومزيد حبهم للنسل ورغبتهم فيه، فلا يفعلون ما يناقض فطرهم وما تهواه قلوبهم من الذرية ولا يخوضون في شئون المستقبل وما يكون فيه من غبن وفقر ولا يتشاءمون منه ولا يظنون بالله الظنون، وبالجملة ما عهد فيهم من الاعتصام بالدين وحسن الظن بالله ليبعدهم كل البعد عن القصد إلى العزل من أجل تحديد النسل، وعلى هذا لا حجة فيما ذكر من الأحاديث لمن تعلق بها ممن يرون تحديد النسل.