الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذهب آخر إلى أن تحريم الربا بكافة أشكاله هو من العقبات التي تعوق الإسلام عن الأخذ بمقتضيات العمران الحديث، وأهاب بالفقهاء المحدثين، أن يبذلوا الجهود الطائلة لابتكار التفريعات الدقيقة، التي تعينهم على إباحة الفائدة غير الربوية ونحوها من النظم الجديدة، أسوة بما صدر في زعمه من فتاوى، بأن ليس في التأمين على الحياة، وفي أرباح صناديق التوفير أو الادخار ما ينافي الشرع، وبأن الحكومة العثمانية كان مباحا لها أن تعقد قروضا في صورة سندات تدفع لحاملها أرباحا سنوية عنها.
ويتحرر المسلمون من إسار المبادئ المتشددة التي اقتضت المراكشيين أن ينكروا على سلطانهم أمره بتأسيس بنك يعطي فوائد مالية، باعتباره من كبائر ما حظره الإسلام (1) ويوهم هذا القول بأن المسلمين بحاجة إلى التطور الذي سلكه غيرهم إلى قصر الربا على ما فحش من الفائدة، وإباحة العادل منها ليمكث رأس المال في أسواق التمويل الاقتصادي (2) ولكن ما شرعه الإسلام من أحكام الائتمان التجاري التي ما عرفها اليهود، تجعل للمسلمين أن يأخذوا بأحسنها فليس بهم. . إلخ أدنى حاجة إلى ما استباحه غيرهم من الربا، وأسفار التاريخ شاهدة بأن اقتصاد الأمم الإسلامية لم يأته التخلف من تطبيق تلك الأحكام، وإنما أصابه الوهن من تعامل المسلمين، دولا وأفرادا بربا الديون المحرم عليهم.
وجادل القوم في ربا " البيوع"(3) مع أنه ليس كمثل أبوابه من شيء يعلمه اليهود، ويأتي بيان بطلان زعمهم هذا، في محله من دراسة تلك الأنواع من الربا.
(1) العقيدة والشريعة، جولدتسيير، الترجمة العربية، ص 230، 229 وص 360 (12).
(2)
evangelisches sozialleexikon von fharcenberg s. 547 l. de bellefonds
(3)
traite de droit musulman compare. Paris 1965 liver 1 p. 221
3 -
القول بوحدة الربا والاختلاف في أصله
وقد تصدى علماء المسلمين لتلك المزاعم وبينوا أوجه البهتان فيما ادعته من أخذ عن اليهود فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من أبواب الربا، بيد أن جدال أصحابها لفت الباحثين عن التفكر في حقيقة ما جاء به الإسلام متميزا عما في صحف اليهود، ومتطورا عما بلغوه في تفسيرات أحبارهم وأعراف أسواقهم، ووجدوا أكثر مفسري القرآن لم يعرضوا لبيان الربا، الذي نهي عنه بنو إسرائيل في قوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (1){وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (2) وإنما قالوا:
(1) سورة النساء الآية 160
(2)
سورة النساء الآية 161
إن الآية تدل على أن الربا كان محرما على اليهود كما هو محرم علينا، وأن النهي يدل على حرمة الربا المنهي عنه وإلا لما توعد سبحانه وتعالى بالعذاب على مخالفته.
ورأى بعض الفقهاء عبارات التوراة في النهي عن الربا تشبه في معانيها ومؤداها عبارات القرآن، وأن الحكمة في نهي اليهود عن الربا هي دفع الظلم والاستغلال عن المحتاج، وهي الحكمة عينها التي صرح بها القرآن في قوله تعالى لمن أربوا:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (1) يعني لا تظلمون في أخذ الربا، فإن ما يقبضه المرابي من الربا هو بمثابة الأموال التي تصل إليه بالغصب والسلب، وتوبة المرابي سبيلها أن يرد الربا على من أربى عليه، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه وخلصوا من ذلك إلى أن الربا الذي حرم على اليهود، هو نفسه الذي حرم على المسلمين، والشرائع يصدق بعضها بعضا، إذ كل في الأصل من عند الله تعالى (2).
وكان للقول بوحدة الربا في الإسلام آثاره في دراسة أصول أحكامه وتحديد نظريته لدى كل من رجال الفقه الإسلامي والقانون المدني جميعا، فقد جعل فريق ربا البيوع راجعا إلى ربا الدين، وجهدوا في إثبات خصائص ربا الدين في ربا الفضل وربا النسيئة معا، فترخصوا في تكييف الفضل في البيوع الربوية، وهو زيادة مقدار، ورأوه يشبه زيادة القيمة في ربا القروض، وحاولوا في جهد غير يسير أن يضعوا تعريفا موحدا يجمع جميع أنواع الربا، وأدى كل أولئك إلى الخلط في الأحكام وإلى المشقة في ردها إلى أصولها والوقوف على حكمة كل منها. ولم يستقم لفقهاء القانون أن يضعوا أنواع الربا موضعها الصحيح في إطار عرضها المقارن بالقوانين، فجاء ربا البيوع في كتابتهم حدا شرعيا مانعا للغبن، وأقاموا على ذلك أصلا عاما نسبوه إلى الشريعة، يوجب تعادل التزامات الطرفين في العقود، وإذا وجدوا عقد العرض ليس من البيوع التي يقتصر عليها الربا، قالوا: إن ربا القرض، وهو أصل الربا كما تعرفه الشرائع والقوانين، يدخل في ربا البيوع شرعا من باب القياس.
ولكن هذا المجال الذي تتغاير فيه فروع الشرائع، يقتضي أن نحذر الفتنة عن بعض ما جاء به الإسلام وأن نحيط بأحكامه كما فصلت في القرآن والسنة تفصيلا، وعندها يستبين ما فيها من الأحكام الذي يميز كل نوع من (الربوات) من غيره، ومن التطور الذي لم يقتصر على ما استحدث من الربا في البيوع مختلفا عن الغبن، بل أضاف إلى ربا الدين من الخصائص ما عدل من طبيعته وحكمته جميعا. ويشرق من كل أولئك نور الإعجاز الذي يشهد بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بلغ من تلك الأحكام الاقتصادية التي أوحاها اللطيف الخبير، ودقة حكمة بعض منها على أفهام المخاطبين من المسلمين حين شرعها وعلى كثير منهم ومن غيرهم حتى اليوم.
وتفرغ في هذا البحث لربا الدين، الذي مهر اليهود في أخذه وعرفته على غرارهم القوانين الوضعية، ونقارنه بما جاء في الإسلام في شأنه، حتى يتبين الفرق بين الربوين في الأحكام وأثر هذا الفرق في اختلاف الحكمة في حظرهما وأثرها في التنظيم الاقتصادي والبنيان الاجتماعي والسياسي.
(1) سورة البقرة الآية 279
(2)
تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، للدكتور سامي حسن حمود