الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجارة الصرف وإقراض الفضة بالربا عند مبعث المسيح عيسى عليه السلام إليهم.
إلا أن التجارة في الربا لم تكن قد بلغت التطور الذي أصابته من زيادة الودائع لدى الصيارف، بعد أن اتخذوا شكل المصارف الحديثة ومن توسعهم في استغلال تلك الودائع فيما يقرضون بالربا، وصار الصيرفي حين يؤدي الربا إلى المودعين ليغريهم على إبقاء أموالهم بين يديه يختلف في سعته تماما عن إملاق المستقرض اليهودي في الأولين، بما لا يذر من وجه للقول بظلم يحيق بأصحاب المصارف من صغار المودعين، ولم تعد الحكمة في تحريم أخذ الربا هي مجرد ظلم المدين كما كانت من قبل أن تنسخ شرعة التوراة بشريعة القرآن.
الخاصية الرابعة
الحظر القضائي للربا مختلف فيه
الربا محظور ديانة، ومختلف في حظره قضاء، ففي كتاب " شولحان عروخ " جاء الربا بين المحرمات الدينية والخلقية، ولم يعرض في باب الالتزامات القضائية، ويذهب بعض فقهائهم إلى أن ما أخذ من الربا لا يجوز طلب استرداده لدى المحاكم، ولو كان من ربا القرض الذي يحظره الناموس ذاته، واحتجوا بأن الجزاء الذي نص عليه الكتاب هو غضب الله تعالى الموجب للموت، فلا يجوز أن يلزم المرابي بالرد مدنيا، حتى لا يزاد جزاء على الذي اقتصر النص عليه. ولكن أكثرهم يفرقون بين ربا الناموس وربا الأحبار، ولا يجيزون المطالبة باسترداد ربا الأحبار، ويجيزونها إذا كان ما أخذه الدائن من ربا الناموس، فيكون للمدين أن يلجأ إلى المحكمة الربانية، فتحكم على المرابي بالرد، ولكن لا ينفذ الحكم باستيفاء الربا جبرا من أموال الدائن، وإنما يقتصر على إكراهه بدنيا حتى يقوم بنفسه بالرد. ويستثنون من ذلك اليتيم، فإنه إذا أخذ ربا الناموس وأنفقه، فإن لا يسترد منه، كما لا يطالب برد ربا الأحبار، بل هم أجازوا له أخذه. وكذلك إذا مات المقرض بعد أخذه الربا، فإن ورثته لا يلتزمون قضاء ولا ديانة برده (1). ويبقى من آثار حظر الربا في القضاء، أنه لا يجوز للدائن أن يطالب المدين بأداء ما حظره الناموس أو الأحبار من الربا، ويكون الربا الاعتباري مختلفا في أحكامه عن ربا الناموس، على خلاف ما تقتضيه حقيقة القياس من مساواة الفرع فيه بأصله.
(1) دائرة المعارف اليهودية، م12 ص 389و390.
الخاصية الخامسة
قصر التحريم على اليهود دون الأجنبي
عصمة المدين من الربا ليست حقا لكل إنسان، بل هي رعاية لا يسبغها اليهود إلا على بني إسرائيل، أما الأجانب عنهم فلا حق لهم في قرض حسن لديهم مهما كانت حاجتهم، ولا يضع اليهود عنهم ربا، ولا يبرئون معدما منهم كما يبرئون المعسر من اليهود، ومع ما استيقنته أنفسهم من مضار الربا في الإضرار بالمدين، فقد تواصى أكثرهم بإقراض الأجنبي بالربا، ليحلوا به من البوار ما يعدل قتله، الذي لا يزالون يرونه واجبا عليهم، ويفسرون ما يقتضيه ذلك الشبه بين جريمة أخذ الربا وجناية القتل من تراث تورثها الجريمة في صدور من تجني عليهم، وتقتضي اليهود أن ينتهوا من ظلم غيرهم بالربا، فيتاح للمسلم أن تسود بينهم وبين أهل سائر الأديان، وقد صار اليهود منتشرين بينهم في دول لا تفرق بين اليهود وسائر رعاياها في شيء من الربا، ويكون لليهود من الاستقرار الاجتماعي والسياسي بما يقدمون من رعاية لنظم العصر ومواثيقه التي تكفل حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية على اختلاف ديانته.
وقد عرض النصارى في تفسيرهم نصوص التوراة، التي لم تنسخ شريعتها في حقهم، لما عليه اليهود من استباحة أخذ الربا من الأجنبي، وذهب أحد آباء الكنيسة الأولين إلى أن أخذ الربا ما كان جائزا إلا من الشعوب السبعة المغضوب عليها التي كان الناموس يأمر بإبادتها، فكانت إباحة أخذ الربا منها من باب الأولى، وانتهت هذه الإباحة مذ دالت تلك الشعوب البائدة وصارت حرمة الربا مطلقة، ولكن الرأي الراجح عندهم أن نصوص التوراة والتلمود حين تدرس في مجموعها بدقة ترد تلك التفرقة بين اليهودي والأجنبي، وتفرض على اليهود الامتناع عن أخذ الربا من الأجانب.
وترى الكنيسة في هذه التفرقة ما ينفي عن الربا عند اليهود وصف الجريمة في القانون الطبيعي بجوهره من العدالة.
وأشار بعض علماء المسلمين إلى ما نعاه القرآن على اليهود في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1){بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (2) باعتباره ردا على استحلال اليهود أخذ الربا من الأجنبي (3).
ويقوم الاستدلال بالنص القرآني في شأن الربا، وإن اختصت عبارته بأكل اليهود أصل أموال غيرهم، على أساس من طبيعة الربا اليهودي، باعتباره اغتصابا لمال المدين وسلبا له. وقيل في سبب وجود عبارة
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2)
سورة آل عمران الآية 76
(3)
الربا في نظر القانون الإسلامي، للأستاذ الشيخ محمد عبد الله دراز- مجلة الأزهر المحرم 1371 ص6.
" للأجنبي تقرض بربا" أن التوراة الأصلية فقدت، وأن نسختها الراهنة كتبت بعد السبي، ويبدو أن كاتبها أخذ تلك العبارة من دلالة المفهوم المخالف للنص الوارد بالعبارة السابقة عليها، وهذا المفهوم لا حجة فيه عند جمهور الأصوليين إذا كان مفهوم لقب، كما أن بعض أنبيائهم قد أطلقوا ذم الربا، في مثل النصوص التي تقدمت.
ويبرر فريق من علماء اليهود أخذ الربا من الأجنبي على أساس المعاملة بالمثل، إذ كان السائد قديما أن الأجانب لا يقرضون اليهود إلا بالربا، فوجب على اليهودي أن يأخذ الربا عندما يقرض للأجنبي، وأن يعطي الربا للأجنبي الذي يقترض منه (1). وإذا صح هذا السبب، فإنه لا يباح لليهود أن يأخذوا الربا من المسلمين، وكذلك من كل من يدين بحرمة الربا من ملل النصارى وغيرهم.
ولا يقتصر أثر هذه الخاصية في ربا اليهود على شيوع أخذهم له من غيرهم وجعل إيتاءه هينا على كثير ممن يدينون بحرمة ذلك من غير اليهود، حتى استشرى الربا في مختلف (الأمم)، بل باءت هذه الخصيصة على اليهود أنفسهم بالفساد، إذ طفقوا يحتالون بها على أخذ الربا من إخوانهم، بأن اتخذوا من الأجنبي حاجزا بين طرفي القرض منهم، فيقرض المرابي اليهودي أجنبيا يقرض بدوره المستقرض اليهودي ويتقاضاه الربا ليأخذه المرابي من يد أجنبي بظاهر من الأمر يتفق وتلك الخاصية، ويستر حقيقة العصيان في أخذ الربا من اليهودي (2).
وران ذلك على قلوبهم فقست وألفت ذلك العصيان، ولم يعودوا يتكلفون ستره. وتسجل التوراة عليهم في سفر نحميا، بإصحاحه الخامس، أنهم كانوا يأخذون الربا كل واحد من أخيه فيما أقرضوا من فضة وقمح، وفي العدد 10 أنهم تركوا هذا الربا تائبين، ولكن لا تجد في النصوص من بعد ذلك ما يدل على رعايتهم ما نهوا عنه، وقد جاء القرآن الكريم، في الآية 161 من سورة النساء، مصدقا لما سجلته أسفارهم عليه من ذلك العصيان. وبذلك أدت هذه الخصيصة، التي يقصد بها اليهود ألا يذروا ظلما للأجانب، إلى إضاعة ما اختصوا به المدينين منهم من رعاية تنجيهم من ظلم أكلة الربا، وخالفوا من باب هذه التفرقة الظالمة عن التكليف، في أصله كما يؤمنون به.
وذهب بعض فقهائهم ممن تفيأ خلال الإسلام علما وسماحة، إلى القول بألا يتوسع في إقراض الأجنبي بالربا حتى لا يعتاده اليهودي ويذهب ورعه عن أخذ الربا المحظور من أخيه. فبنى التقييد على ما يرى فيه نفعا لليهودي وحده، ولم يقمه على ما ينبغي من كف ظلم اليهودي للمسلمين الذين يعلم أنهم سلم عليه لا يخفرون ذمة له ولا يظلمونه شيئا.
(1) دائرة المعارف اليهودية، م12 ص290
(2)
الربا عند اليهود، للأستاذ عاشور ص137 عن كتاب شولحان عروخ، ود. حمود ص 218.