الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أغنياء منهم من لا يستطيعون تثمير ما يملكون، وبجانبهم كثيرون يعوزهم ما ينفقون أو يستثمرون، وإذا جعل الله تعالى لكل أمة شرعة ومنهاجا، فقد بينت التوراة من أحكام المال وتداوله ما يناسب حال بني إسرائيل من الهدى عند إنزالها، ونهت عن أخذ الربا من اليهودي. أما المقترض الأجنبي فثم نص على أخذ الربا منه، ثم جاء القرآن فبين أن اليهود خالفوا عن تحريم الربا، وأنهم انتحلوا كذبا أحكاما نسبوها إلى كتابهم يستبيحون بها أن يبخسوا غيرهم من الأميين أماناتهم، ثم فصل الإسلام شريعته الخالدة في المال، وأكملها وأظهر منها ما لم يبلغه علم اليهود أو غيرهم من كتابهم، فوردت نصوص الإسلام صريحة قطعية تحرم على الدائن أخذ الربا وعلى المدين إيتاءه، ولكنه قصر هذا التحريم على القروض ونحوها، وأخرج منه البيوع الآجلة فلا يعتبر فرق الثمن فيها من ربا الدين، وإنما أطلقت السنة اسم الربا على ما حظرته من بعض أنواع البيوع الخاصة، التي تخلو من خصائص الربا المعهود في القروض، مما يجعل للربا في شأنها معنى الحرمة والمخالفة عن حدود الشريعة في تنظيم التجارة، ويذر الربا لفظا مشتركا في الفقه يطلق على أنواع من المحظورات المختلفة، لكل نوع مصطلحه الخاص وأحكامه المتميزة، التي يجب التحرز من خلطها بغيرها، لتتبين حقيقة التنظيم الإسلامي لما يقابل أبواب الربا من الجوانب الاقتصادية.
2 -
مزاعم المستشرقين
ولكن نجد الباحثين من أهل الكتاب الذين يضيقون بالإسلام، ينكر بعضهم وجود نظام اقتصادي فيه ولا يرون في تعاليمه إلا وصايا خلقية بالتعاطف والمواساة بين المسلمين (1)، ويجحد هؤلاء قيام دولة الإسلام باقتصادها المكين قرونا كثيرة ولا يحيطون بشيء من نظم هذا الاقتصاد في تميزها وعلوها في شأن الربا وغيره.
ويعرض بعضهم ما شرع الإسلام من أحكام الربا، ولكنهم لا يدركون الفرق بينها وبين ما يعرفون من رباهم، فتجد في بعض معاجمهم (2) أن الربا في الشريعة الإسلامية هو زيادة في كيل أو وزن أحد العوضين المتماثلين في عقد مبادلة تكون الزيادة مشروطة فيه بغير مقابل، ويصدق هذا التعريف على نوع واحد من ربا البيوع، هو ربا الفضل، الذي يحرم زيادة المقدار في بعض عقود الصرف والمقايضة، ويضيق هذا التعريف عن ربا النسيئة الذي يحرم التأجيل في عقود الصرف والمقايضة بصفة عامة، ومع أن هذا التعريف لا ينطبق أيضا على ربا القروض، الذي يحرم
(1) الإسلام والرأسمالية، مكسيم رودنسون، تعريب نزيه الحكيم، ص5
(2)
dictionary of islam. T. p. Hughes ondon.1935.p.544.
زيادة الدين مقابل تأجيله، إلا أن صاحب المعجم ذهب إلى أن معنى الربا الذي أثبته للشريعة، هو المعنى ذاته للربا من قرض النقود الذي حرمته التوراة.
وتفرقت بهم سبل الظن من بعد ذلك اللبس.
فذهب فريق إلى أن تحريم الربا في الإسلام ما جاء إلا على التدريج، وأن آيات التحريم المدنية، ومنها آيات سورة البقرة التي قيل: إنها آخر ما نزل من آيات القرآن وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبض من قبل أن يبين أحكامها، تدل هذه الآيات على قلة تأثرها بما كانت عليه حال الربا في مكة قبل الهجرة، وأنها جاءت أكثر تأثرا بفقه اليهود المقيمين بالمدينة، بعد إذ توثقت إحاطة النبي صلى الله عليه وسلم به، ويزعم هؤلاء أن التأثير اليهودي في التكملة الأخيرة لأحكام الربا يبدو غير منكور (1) ويريدون بكل أولئك أن يوهموا من يتولاهم بأن أحكام الإسلام ليست وحيا من عند الله الذي وسع كل شيء علما، وإنما اشترعها محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، فاستلهم بيئته بمكة شيئا يسيرا، ثم استوحى موفور علم اليهود بالربا، وهم يحاورونه بالمدينة، ويجاوز هؤلاء ما سجله الإسلام على اليهود من حرصهم على كتمان التوراة وكذب بعضهم عليها فيما تردوا فيه من خطيئات الزنى والربا وبخس الأميين أماناتهم، ويفترضون ما لم تشهد به الآثار، من أن النبي صلى الله عليه وسلم عكف على دراسة شيء من فقه اليهود في الربا. وإنما يبهتهم أن يعلموا اختلاف ما جاء به الإسلام عما يعلمه أحبارهم، وسبقه في تكامل أحكامه في الربا لم تعرفه سائر الشرائع.
وكذلك قال قائل من الفرنسيين: إن تحريم الإسلام للربا إنما يبرره ما جبل عليه المستقرضون في الشرق من عدم التحوط، الذي جعل من نظام الربا أداة استغلال لهم وسبب إملاق (2) ويصدر هذا القول بدوره عن إيهام بأن الإسلام لم يشرعه الله تعالى هدى للناس كافة، وإنما وضعه النبي عليه الصلاة والسلام بقدر ما يصلح شؤون الشرق وحده الذي عاش فيه، ولو أحاط ذلك القائل بما جاء به الإسلام من أحكام هذا الربا على حقيقتها ومدى تطورها بالنسبة إلى ما عليه اليهود والنصارى في الربا وتبين كيف طفق عاهلان كبيران من مشترعي قومه يضعان القوانين التي تحظر الربا في بلادهم وتختص اليهود بتدابير مشددة تكفهم عن أخذه، وما سنت تلك التشريعات إلا من بعد أن شخص واضعاها بحميتهما إلى الشرق وقدر لهما المكث سنين بين المسلمين فيه وتاريخ ما ذاقه أهل الغرب ببلاد أوروبا، سواء في عصور وثنيتهم ومن بعد نصرانيتهم، شاهد على ما هو أفدح مما أصاب الشرق من بلايا الربا، ولا يزال مشترعوهم وأحبارهم يجهدون في مكافحة الربا، ولا يجدون في الناس ما يغمره قوله من التحوط، الذي يعوز الشرقيين عنده، ليخلص معه الربا من مساوئ الاستغلال والإملاق.
(1) shorter encyclopaedis of islam h. gibb. J. kramers. eiden. ondon 1961 p. 43
(2)
droit musulman Raymond charles paris. P.86