الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدارا أقل قيمة لشدة رداءته من البدل الأصغر وزنا أو كيلا لبالغ جودته. وإذ يدور هذا الخلاف على ربا الفضل في البيوع، فالحنفية يتحدثون عن جواز بيع الدرهم بدرهمين، ولا نجد من قول لديهم في ربا الدين يبيح للمسلم أن يأكل هذا الربا من دين يقترضه حربي منه بدار الحرب، وإذ لا يحل للمسلمين أن يتصدقوا على أهل دار الحرب، وفي إخوانهم بأرجاء دار الإسلام محاويج، وإذ كان القرض في النوع هو من قبيل الصدقات؛ فإنه لا يجوز لمسلم أن يذر أمواله بمصارف البلاد غير الإسلامية ولا أن يوظف شيئا من هذه الأموال في السندات ونحوها مما تقترض به حكومات تلك البلاد ديونها العامة. ولا تتم توبة من يفعل ذلك من المسلمين إلا باسترداد رءوس أموالهم من الخارج، لتفيد أمتهم من تثميرها بين أهلها بالطرق الإسلامية المشروعة، وينتهي اقتراض بعض البلاد الإسلامية من تلك المصارف الأجنبية التي تتقاضاها من الربا ما يزيد مقداره كثيرا على ما تدفعه هذ5 المصارف من يسير الربا إلى أرباب الودائع المسلمين، ويخلص ذلك الكسب الطائل للمرابي الأجنبي من مجرد الوساطة بين أخوين مسلمين خالفا عن حكم الله تعالى في تحريم الربا أكلا وإيتاء، فحاقت بكليهما شروره، ولم تذر شيئا من فضل حقيقي فيما يأكله المودع المسلم من ربا عن قرضه للحربي يسوغ الترخيص للمسلم في ذلك.
وحظر أكل ربا الدين على المسلم من غير المسلمين بالخارج لا يرجع فيما نرى إلى أن الإسلام ينهى عن التعصب، يقول تعالى:{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1)(سورة المائدة، 9) ولا إلى ما فرضه الإسلام من أداء الأمانات إلى أهلها ولو كانوا غير مسلمين، ونعيه على اليهود ما استحصلوا من بخس الأميين حقوقهم. ولكنا نجد، مما قدمنا من خصائص الربا وحكمه، أن ربا الدين لا يتعلق بالعدل بين طرفي المداينة ولا بأداء الدين ذاته، بل يبتغي الرشد المالي والاجتماعي والسياسي للفرد دائنا كان أو مدينا، ويرقى بالأمة إلى خير تنظيم في تلك المجالات المتكاملة كلها، ويكون التعامل بربا الدين في ذاته من قبيل إلقاء النفس إلى التهلكة والعدوان على رشدها ومالها، ويتعين على المسلم ألا يقرب الربا، لا إيتاء ولا أخذا، ولو من حربي في خارج بلاد الإسلام ليحفظ على المسلم رشده ويحفظ أمته ما تستحقه من تنمية بأمواله.
(1) سورة المائدة الآية 8
من نتائج اختلاف الربوين الإسلامي واليهودي
أما وقد تبين الاختلاف بين أحكام الربا التي شرعها الإسلام اختلافا كبيرا عن أحكام الربا عند اليهود الذين يرون الربا في كل دين مؤجل من قرض أو بيع تكون زيادة فيه بسبب التأجيل، بينما جاء الإسلام بأحكام للربا كثيرة تنظم البيوع الحاضرة، مما لا عهد لليهود به، وفي ربا الديون الذي يعرفون أهله، قصر التحريم على شطر مما عندهم، هو ربا القرض، وأحل شطرا مما يحرمون، فأباح عوض التأجيل في البيوع، وأحكم توثيق الائتمان سواء التجاري وغير التجاري، وكفل للأفراد في أموال الأغنياء
من أهليهم وفي خزانة الدولة نفقاتهم التي تسد حاجات معيشتهم وعزز موارد الائتمان غير التجاري من الزكاة والصدقات، بما ييسر نفاذ تحريم الربا فيه. فإن من شأن من يحيط علما بكل أولئك أن يشهد بنتائج شتى من أهمها: أولا: أن ما تضمنته الشريعة الإسلامية من نسخ بعض ما يعلمه اليهود وتفصيل ما لم ينسخ وإكماله بوجه لا يسعه فقههم- يدحض كل تشكيك في وحي الإسلام، ويفند كل زعم بأخذه شيئا من اليهود، ويقطع بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر ما أتى به من الأحكام على ما اقتضت حكمة الله تعالى نسخه من فروع شريعة اليهود.
ثانيا: وجوب دراسة الأحكام الإسلامية الاقتصادية في مصادرها الأولى بالقرآن والسنة دراسة مستقلة متعمقة تحصى فيها أحكام الإسلام على حقيقتها المتميزة، ثم يأتي من بعد الإحاطة بها دور البحث المقارن بينها وبين سائر الشرائع، فيفقه الدارسون الفروق بين أحكامها وما في غيرها، ولا يقعون في خلط يجره التجوز في إطلاق مصطلحات لا يعرفها فقه الشريعة ولا تصدق على مسمياتها، ولا يبلغ بها الباحث الغاية من تفهم دقائق أحكامها.
ثالثا: المبادرة في إلغاء القوانين الوضعية التي تنظم ربا الدين في البلاد الإسلامية وتبيح غير الفاحش منه وتعاقب الدائن وحده على أخذ الربا الفاحش وبعقوبات (جد يسيرة)، متأثرة في ذلك كله بأحكام اليهود التي بينا ما اعتراها من نسخ وما يشوبها إزاء التطور من قصور. ويجب أن تصدر التشريعات التي تأخذ بصحيح أحكام الإسلام، فيبطل القانون المدني كل شرط ربوي في القروض وتأجيلات الديون، وإن قل مقدار الفائدة أو العائد أو نحوها مما يتضمنه هذا الشرط، وأيا كانت حال الدائن أو المدين القانونية، يستوي الفرد ولو كان يتيما والشخص الاعتباري، مصرفا كان أو شركة أو مؤسسة أو هيئة أو حكومة، ويفرض التشريع الجنائي من العقوبات الرادعة عن الربا ما يجزي به الدائن والمدين وكل من شارك في جريمتها أو أعان على ارتكابها، وفقا لما تقتضيه حال البلاد من تقنين لأنواع التعزير ومقدارها، يتفق واعتبارات السياسة التشريعية الجزائية.
رابعا: بحث متطلبات قيام أسواق المال الإسلامية وتنظيم تداول الأسهم والحصص في شركات المضاربة، وتفصيل أحكام بيوع النسيئة والسلم، ولا تستضاع للعودة إلى الأخذ بنظم الائتمان الإسلامية واستكمال الإطار العام لتطبيقها في مجالات التجارة والإرفاق الاجتماعي، ومتابعة هذا التطبيق ومواءمته مع معطيات العلوم الاقتصادية الحديثة وتوفير مقومات السوق الحرة وموارد التمويل الاجتماعي حتى لا يكون ثم محتاج إلى الاقتراض بالربا، ولا يكون غلو في أسعار البيوع الآجلة يثقل المحتاجين إليها.
خامسا: وتنبغي الإفادة من التنظيمات السابقة التي أخذت بها دولة الخلافة العثمانية في شأن تلك البيوع وفرض حد أقصى للزيادة في المرابحة، ولتلافي الثغرات التي تكشفت في تطبيق نظام السلم (1). .
وجود أسواق إسلامية للمال الآجل يستثمر فيها استثمارا رأسماليا من طريق المضاربة أو متداولا بالبيوع الآجلة نسيئة وسلما، بغير أن يتوسط بين المدخر أو المنتج أو التاجر وبين المنظم العامل أو المستهلك مراب لا يقوم بشيء من أعمال التجارة ولا يتعرض لمخاطرها. وتسلم سوق المال الإسلامية من أضرار المنافسة بين الاستغلال الربوي في السندات والقروض وما يسمى بالأوعية الادخارية وبين الاستثمار غير الربوي في الشركات والبيوع. وهي المنافسة التي تعاني منها أسواق المال في الاقتصاديات الربوية، وتعيق تقدم مشروعات التنمية من طريق التمويل المباشر.
ولا يعرض لمن يحكم بما أنزل في الإسلام ما يتذرع به غير المسلمين من ضرورة الربا لقيام أسواق المال بدعوى أن تحريمه يذر رأس المال الآجل ولا كسب له في تلك الأسواق يغريه بالبقاء فيها مما يؤدي إلى اختفائه وينضب معين التمويل للمشروعات الاقتصادية؛ إذ يجد رأس المال في بلاد الإسلام أسواقا متسعة تفيء بالأرباح المشروعة عليه، وذلك يوجب على المسلمين ألا يخدعوا بتلك الحجة الداحضة، وأن يفروا إلى حكم الله تعالى، وقد ظلوا قرونا طويلة مزهرة لا يقربون فيها الربا، وينهون عن أكله وعما أخذت به طائفة منهم من إنشاء المصارف الربوية التي تضاهي مصارف اليهود، وعندها يستشعر المسلمون رحمة الله التي اختصهم بها والله ولي التوفيق.
(1) حاشية ابن عابدين جزء 4 ص 114