المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ السمات العامة للفلسفة - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الافتتاحية

- ‌تجارةوتجارة أخرى لن تبور. .!فضيلة الشيخعثمان الصالح

- ‌رمي الجمرة قبل طلوع الشمس

- ‌القول الثانيلا يجوز رميها قبل طلوع الفجر

- ‌ رمي جمرة العقبة ليلة النفر

- ‌ تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق

- ‌المذهب الأوللا يجوز تقديم رمي الجمار قبل الزوال

- ‌المذهب الثالثمذهب أبي حنيفة وفيه تفصيل

- ‌ رمي الجمار في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر عن اليوم الذي قبلها

- ‌المذهب الأولالجواز وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية

- ‌ أدلة الترخيص للرعاة في الرمي

- ‌المشقة تجلب التيسير

- ‌أقسام المشقة

- ‌موضع اعتبار الحرج والمشقة

- ‌مصادر البحث وملحقاته

- ‌الطلاق المعلق

- ‌أولا ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار:

- ‌ثانيا: أقوال فقهاء المذاهب الأربعة

- ‌ مذهب الحنفية

- ‌ مذهب المالكية

- ‌ مذهب الشافعية

- ‌ المذهب الحنبلي

- ‌ التفريق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والتعليق الذي يقصد به اليمين

- ‌تأجيل دراسة موضوع الطلاق المعلق

- ‌وجهة نظر

- ‌تحديد المهور

- ‌ثانيا: من عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم

- ‌ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور

- ‌رابعا: قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تقليل المهور

- ‌خامسا: ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور

- ‌سادسا: مبررات التحديد ومضار عدمه

- ‌قرار رقم 52 وتاريخ 4/ 4 / 1397ه

- ‌تحديد النسل

- ‌ الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل

- ‌بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة

- ‌ وسائل تحديد النسل وبيان مضارها

- ‌الفلسفة

- ‌ الجو الذي نشأت فيه الفلسفة

- ‌ السمات العامة للفلسفة

- ‌اليهود والفلسفة

- ‌البلاغة النبوية وأثرها في النفوس

- ‌أقباس من العسكرية الإسلامية في القرآن الكريم

- ‌التدريب الفردي

- ‌الحوافز المادية

- ‌معادلة الحرب النفسية

- ‌حرب عادلة

- ‌مبتكر علم الجبرمحمد بن موسى الخوارزمي

- ‌الجذور عند الخوارزمي

- ‌المعادلات ذا الدرجة الأولى والثانية

- ‌طريقة التقريب لجذر المعادلة

- ‌الطريقة البيانية لإيجاد جذر المعادلة

- ‌إيجاد المساحة

- ‌اختلاف ربا الدين في الإسلامعنربا اليهود

- ‌ مزاعم المستشرقين

- ‌ القول بوحدة الربا والاختلاف في أصله

- ‌ نصوص تحريم الربا عند اليهود

- ‌ خصائص الربا عند اليهود

- ‌الخاصية الأولىالربا في القرض والبيع

- ‌الخاصية الثانيةالربا مقابل الأجل

- ‌الخاصية الثالثة الربا ظلم للمدين

- ‌الخاصية الرابعةالحظر القضائي للربا مختلف فيه

- ‌أنواع الربا في القرآن

- ‌أنواع الربا في السنة

- ‌استقلال ربا الدين عن ربوي الفضل والنسيئة

- ‌الفرق بين ربا الدين والنسيئة

- ‌خصائص ربا الدين في الإسلام

- ‌ الربا في الدين وحده ولا ينطبق على البيع

- ‌الربا مقابل الأجل

- ‌الربا محظور على الدائن والمدين معا

- ‌للربا حكمته المتميزة على ظلم المدين

- ‌ المساواة بين المسلم وغير المسلم في الربا

- ‌من نتائج اختلاف الربوين الإسلامي واليهودي

- ‌جهاز تعيين اتجاه القبلة

- ‌استعمال الجهاز

- ‌نظرية الجهاز

- ‌النموذج "م1

- ‌وصف الجهاز

- ‌طريقة الاستعمال

- ‌النموذج "م2

- ‌وصف الجهاز

- ‌النموذج "م3

- ‌المؤتمرات

- ‌المؤتمر العالمي بلندنعنحياة المسيح عليه السلام

- ‌الحوار الإسلامي المسيحيووجهة نظرإسلامية

- ‌إيضاحات وتنبيهات

- ‌حكم الاحتفال بالموالد

- ‌وجوب إنكار المعاملات الربوية

- ‌حرمة تأخير تزويج البنات والأخوات

- ‌تهنئة لحكومة الباكستان لإعلانها تطبيقالشريعة الإسلامية

- ‌التنبيه على خبر باطل في أخبار مكة

- ‌حول ما سمي بمسجد الخندق بالمدينة المنورة

- ‌أهداف معهد اللغة العربية - جامعة الرياضالمملكة العربية السعودية

- ‌الصلاة في الطائرة. . وإمامة الصلاة في الجمعة. . وزكاة الحلي

- ‌حكم الصلاة على السجاد المحلى بالصور

- ‌«من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة

- ‌ما حكم تارك الصلاة

- ‌الشرط - قضاء الفريضة

- ‌فيالوضوء - الصلاة - الإمامة - الطواف

- ‌كيفية تحديد مواقيت الصلاة

- ‌ترك الصلاة طيلة وجوده في الجامعة

- ‌حادث المسجد الحراموأمرالمهدي المنتظر

- ‌بيان من هيئة كبار العلماءبشأن الاعتداء علىالمسجد الحرام

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ السمات العامة للفلسفة

* ولكن التيار الفلسفي اليوناني- وقد أصبح سنة مألوفة - غزا الجو المسيحي وأخذ مكانته المرموقة بين المفكرين الغربيين فنشأ فيهم الفلاسفة ونشأت في أجوائهم الفلسفة.

* وأخذ فلاسفة الغرب يحاولون التوفيق بين المسيحية والفلسفة وكان أبرزهم في هذا المجال الفيلسوف (توما الإكويني).

* وإذا قرأت (ديكارت) تجده كأنه كان يمشي على الشوك وهو يتفلسف محاولا- ما استطاع إلى ذلك سبيلا- مداراة القساوسة وعلماء الدين والجو العام الفلسفي إذ يعلن، في مجاملة بالغة، أنه يؤيد الدين ولا ينحرف عنه وأنه يقدم إنتاجه ويعرضه على علماء الدين متقبلا ملاحظاتهم التي يوليها عنايته الفائقة، كان هذا موقف ديكارت وغيره. .

* وكان الإسلام- من قبل ديكارت ومن قبل الإكويني -: يهدي للتي هي أقوم، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويقود الإنسانية نحو مرضاة الله تعالى، ووضع الأمور في نصابها مبينا بأسلوب لا لبس فيه أن: العقيدة والأخلاق ونظام المجتمع والتشريع من أمر الله تعالى، وقد شاء الله سبحانه أن يرسم للإنسانية طريقها المعصوم في كل ذلك فأرسل الرحمة المهداة، خاتم النبيين - محمدا صلى الله عليه وسلم:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (1){قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} (2){مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} (3){وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} (4){مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} (5).

* ولكن الفلسفة اليونانية دخلت على استحياء في عهد المنصور، وقوي جناحها في عهد المأمون، وأصبح في الأمة الإسلامية فلاسفة.

(1) سورة الكهف الآية 1

(2)

سورة الكهف الآية 2

(3)

سورة الكهف الآية 3

(4)

سورة الكهف الآية 4

(5)

سورة الكهف الآية 5

ص: 134

والآن نتساءل: ما هي‌

‌ السمات العامة للفلسفة

؟

* إنه لا يتأتى أن نحدد في صورة مقنعة موقف الإسلام من الفلسفة قبل تحديد سماتها العامة، فما هي هذه السمات؟

ص: 134

* وأول سمة من هذه السمات، وهي أهمها، وتعتبر كالمنبع الذي عنه تفيض السمات الأخرى- هي أن الفلسفة لا مقياس لها للتفرقة بين الحق والضلال، بين الصواب والخطأ. فإذا اختلف فيلسوفان في أمر من أمور الفلسفة فإنهما لا يجدان مقياسا عقليا بحتا يرجعان إليه للحسم بينهما في موضوع الخلاف.

* أما في العلم المادي فإن المقياس هو "التجربة" فإذا اختلف عالمان في أمر كوني رجعا إلى التجربة، وهي تعلن في صراحة مشاهدة خطأ هذا وصواب ذاك.

* ما هو، في عالم الفلسفة، الذي يجري مجرى التجربة في مجال العلم؟

* لا شيء. . .

* ما الذي يحسم الخلاف في عالم الفلسفة؟

* لا شيء. .

* ما هو المرجع العقلي البحت من أجل الاتفاق في عالم الفلسفة؟

* لا مرجع.

ولقد شعر الفلاسفة بذلك: فقام اثنان من كبار عباقرة الفلسفة بمحاولة لإيجاد هذا المقياس، وهما (أرسطو) في الماضي و (ديكارت) في العصور الحديثة.

ولقد أخفق كل منهما إخفاقا تاما كاملا.

ونبدأ الحديث عن أرسطو - ولا ننسى أننا في عالم الإلهيات: مجال الفلسفة الرئيسي - لقد فكر أرسطو وقدر، ثم فكر وقدر، وخرج على العالم بما يسمى (المنطق الأرسطي) أو (المنطق الصوري) وأخذ هذا المنطق في عالم الفكر الفلسفي مجالا من الشهرة والعناية لا حد له. وأخذ في الجو الإسلامي شهرة ذائعة الصيت.

وتبناه جميع فلاسفة الإسلام ابتداء من (الكندي) في المشرق إلى (ابن رشد) في المغرب.

ولكن كثيرا من المسلمين ذوي الأصالة في الفكر الإسلامي أبانوا في وضوح أن المنطق الأرسطي منهار، وأنه متهافت، وأن الخلل في جوهره وأركانه وأنه خلل لا يصلح.

ص: 135

وكان من هؤلاء (ابن تيمية) الذي كتب كثيرا في نقد المنطق ونقضه: لقد كتب في ذلك كتبا وكتب في ذلك فقرات منثورة هنا وهناك في خلال كتبه الكثيرة وفتاواه المستفيضة.

وممن كتب في نقد المنطق ونقضه: ابن حزم.

والمحدثون جميعا لا يجد المنطق عندهم ترحابا ولا قبولا.

وقد كتبنا نحن ننبه على أن المنطق لا يحسم خلافا ولا يفصل حقا عن باطل. ومما كتبناه في المنهج الحديث والمنهج الأرسطي ما يلي:

إن المقاييس هي:

أ- الاستقراء

ب- القياس

أما الاستقراء - وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية - فإنه:

1 -

مبني كله على الحس: إنه استقراء محسات: إنه تتبع جزئيات، لا تخرج عن نطاق الواقع، أما المساتير فهو بريء منها كل البراءة، لأنها لا تدخل في دائرة اختصاصه: فهو عاجز عن أن يخترق الحجب ليصل إلى ما وراء الطبيعة.

2 -

ثم إن الاستقراء: تام، وناقص. والتام - كما يعترف المناطقة - لا غناء فيه ولا فائدة.

أما الناقص- وهو المهم في نظرهم فإنه - في رأيهم أيضا - ظني، وهو - لذلك - عرضة للتغيير، في كل آونة.

" كل معدن يتمدد بالحرارة" تلك قضية من قضايا الاستقراء، إنها قضية عامة شاملة ولكن المعادن لم تنكشف بعد بأكملها.

ومن الجائز أن يكتشف في الغد معدن لا يتمدد بالحرارة، إنها إذن، قضية مؤقتة ظنية، تتبرأ من اليقين الفلسفي.

" والعلم المادي كما يقول أحد المفكرين- لا يعرف الكلمة الأخيرة في مسألة من مسائله- وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة. لها قيمتها. حتى يتكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيرها ".

وهكذا قضايا الاستقراء، إنها:

ص: 136

1 -

خاصة بالطبيعة، ولا شأن لها بما وراءها.

2 -

ظنية، لا تعرف اليقين.

أما القياس:

1 -

فإنه مبني على الاستقراء، إذ هو منطو دائما على كلية، كلية استقرائية، وما دامت قضايا الاستقراء ظنية- كما رأينا - وميدانها المحسات، فنتائج القياس ظنية كذلك، وميدانها المحسات.

2 -

إن المناطقة لا يشترطون في مقدمات القياس، أن تكون مسلمة صادقة في نفسها، وإنما يشترطون أن يسلمها المتجادلون فحسب، وقد تكون - كما يقول صاحب البصائر النصيرية: منكرة كاذبة في نفسها، وفي هذه الحالة يكون القياس صحيحا ونتيجته باطلة.

وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس الأرسطي؟ ما قيمته إذا كان لا يعول فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة وإن لم تطابق النتيجة الواقع؟

ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها؟

إنك إذا قلت: الكثير من العلم يؤدي إلى الاستقلال الفردي، وكل ما يؤدي إلى الاستقلال الفردي مضر بالمجتمع، فالكثير من العلم مضر بالمجتمع، كان هذا قياسا صحيحا في نظر المناطقة الأرسطيين.

وإذا قلت: الكثير من العلم يؤدي إلى التماسك الاجتماعي، وكل ما يؤدي إلى التماسك الاجتماعي مفيد للمجتمع، فالكثير من العلم مفيد للمجتمع، كان هذا أيضا قياسا صحيحا عند المناطقة، ومع ذلك فالنتيجتان متعارضتان.

3 -

ومع كل هذا فالقياس استدلال دوري فاسد، ذلك أن العلم بالنتيجة في نحو قولنا: محمد إنسان، وكل إنسان ناطق، فمحمد ناطق" متوقف على العلم بالكبرى، والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة، لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنساني، إلا إذا تأكدت من ثبوت الناطقية لمحمد، ولو كنت في شك من ذلك، لما استطعت تعميم الحكم على جميع أفراد الإنسان، وإذن تكون النتيجة متوقفة على الكبرى وتكون الكبرى متوقفة على النتيجة، وعلى ذلك يكون القياس: استدلالا دوريا فاسدا، فلا يعول عليه.

4 -

وأخيرا، فالمفروض: أن نتيجة القياس جديدة كل الجدة، إنها استنتاج مجهول هو النتيجة - من معلوم، هو المقدمات.

ص: 137

ولكن النتيجة متضمنة في المقدمات، إنها ليست مجهولة، والقياس إذن لا يؤدي إلى معرفة جديدة، أو إلى استنتاج مجهول من معلوم، إنه- إذا أردت الدقة- استنتاج معلوم من. . معلوم.

تلك هي موازين العقل- وهي موازين لا غناء فيها ولا جدوى منها فيما يتعلق بالإلهيات. العقل إذن قاصر فيما يتعلق بالأخلاق. وهو قاصر على الخصوص فيما يتعلق بالإلهيات.

ومن هنا كانت الحكمة في نزول الأديان.

ومن هنا كان السبب في اقتصارها على الأخلاق والإلهيات.

وإذا كانت قد تحدثت في التشريع فإن التشريع داخل في نطاق الأخلاق.

أخفق إذن منطق أرسطو. واستمر الاختلاف بين الفلاسفة كما كان من قبل. واستمر الخلاف حتى بين المناطقة الأرسطيين: الكبار منهم والمغمورين، بل حدث الاختلاف بين تلاميذ أرسطو نفسه، وهم أتباع مدرسة واحدة هي المدرسة الأرسطية.

ومرت العصور، وتوالت القرون، وجاء (ديكارت)، وبدأ (ديكارت) يتفلسف على استحياء وعلى حذر بالغ، فما كان جو زعماء المسيحية في الغرب إذ ذاك يوحي بالاطمئنان أو السكينة، لقد كان جوا رهيبا يأخذ على الظنة وينكل على الشبهة، لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة.

وأخذ (ديكارت) يتحسس طريقه في حيطة بالغة: مداريا، مجاملا، مادحا، متواضعا. .

وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم.

وأنه على أساس من هذا المنهج سيقود الإنسانية إلى الحق. .

ورأى أن هذا المنهج صالح للكشف عن الحق في الكون وفي ما وراء الكون، في الطبيعة وفي ما وراء الطبيعة.

ولكن التجربة أظهرت خطأه في أثناء حياته.

وأن الخلاف استمر حول آرائه في الإلهيات، وآراء معاصريه، وآراء من قبله، كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه، وأخفق منهج ديكارت كما أخفق من قبل منهج أرسطو. .

وبقيت الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن الفلسفة لا مقياس لها.

هذه هي السمة الأولى. .

ص: 138

السمة الثانية

ما دامت الفلسفة لا مقياس لها فهي إذن ظنية، إنها ظنية وإن عجنت بمنطق أرسطو الذي أخفق، وهي ظنية وإن خبزت بمنهج ديكارت الذي لم ينفع في قليل ولا في كثير، إنها ظنية لأنه لا يتأتى أن تفرق فيها- ولا مقياس- بين الحق والضلال، وستستمر هكذا إلى الأبد.

السمة الثالثة

مادام لا سبيل إلى اليقين في موضوعات الفلسفة فإن من البدهي أن: اختلاف الآراء فيها دائم".

وهذا هو الواقع حينما يتصفح الإنسان الفكر الفلسفي عبر القرون، إن الاختلاف والجدل دائم مستمر منذ أن نشأ الفكر الفلسفي، إنهم يختلفون حتى في المدرسة الواحدة.

وانظر مثلا إلى مدرسة سقراط فستجد تلاميذه يقرون بأستاذيته في احترام بالغ، وفي تبجيل يشبه التقديس، فإذا جئت إلى آرائهم في الإلهيات، أو في الأخلاق، فستجد الاختلاف والافتراق. . الاختلاف والافتراق بينهم وبين أستاذهم، والاختلاف والافتراق بين بعضهم وبعض. .

بل إن الأمر يصل بالشخص الواحد إلى أن يختلف مع نفسه بحسب تطور حياته، أو اختلاف بيئته أو اختلاف ما يقرأ من مصادر ثقافته.

وكل هذا واضح عبر العصور.

ومن غرائب الأمور أن الفلاسفة يعلمون علما يقينا، ويعلمون أن كل فيلسوف أتى من قبلهم هدم آراء سابقيه جميعا: إنه لم يعترف بوصول أحدهم للحق، إنه يخطئهم جميعا ولو لم يكن الأمر كذلك لأخذ بآرائهم، واكتفى بما أخبروه، أو بما أنشأه أحدهم من قبل.

ولكنه مع علمه بأن الفلسفة دائما إلى نقد ونقض فإنه لا يأبه بهذه المعرفة ويقيم مذهبه على أنقاض مذاهب سابقيه، فيأتي من بعده ويهدمه ويقيم مذهبا مآله السقوط وهكذا دواليك:

ص: 139

السمة الرابعة

وما دام الاختلاف مستمرا فإن المسائل التي هي موضوع الفلسفة تستمر هي هي، "إن مسائل الفلسفة لم تتغير على مر الدهور ".

ما هي مسائل الفلسفة؟ إنها:

معرفة الله سبحانه وصفاته، وصلته بالعالم خلقا وتصريفا، وصلته بالإنسان قربا وتوجيها. .

والبعث وكيفيته. . .

والخلق الكريم الذي يمثل الفضيلة والكمال. . .

والخلق السيئ الذي يمثل الشر والفساد. . .

والنبوة والصلة بالله عن طريق الوحي: إثباتا وإنكارا، ثم: هل المعرفة ممكنة؟

وفي كل هذه الموضوعات الكبرى وغيرها مما يتصل بها اختلف الفلاسفة وما زالوا.

واستمرت هذه المسائل على مدى سبعة وعشرين قرنا تقريبا مثار بحث وجدل إلى الآن. .

لم يصل الفلاسفة في واحدة منها إلى اليقين، ولم توضع واحدة منها موضع الاتفاق.

السمة الخامسة

إن الاختلاف في مسائل الفلسفة ليس اختلافا في الإيجاب فحسب، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة ما عدة حلول كلها إيجابية.

وليس اختلافا في السلب فحسب، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة واحدة عدة حلول كلها سليمة

إن الخلاف عام في الإيجاب وفي السلب وإنه ليصل إلى الإنكار المطلق وإلى الإثبات المطلق في كل مسألة، وإنه ليصل بك أحيانا إلى طريق مسدود.

وإن الفكر الفلسفي ليصل بك أحيانا إلى إنكار السماء والأرض، وما بين السماء والأرض، ويقول لك: ليس في الوجود - يقينا- غيرك أنت وحدك.

وإن السمة الأخيرة هي سمة تؤدي إليها، - لا مناص- السمات السابقة.

وإذا كانت السمات السابقة يسلم كل منها إلى الآخر، فإنها جميعا تتكاتف لتؤدي إلى هذه السمة الأخيرة.

ص: 140

السمة الأخيرة

هذه السمة الأخيرة هي أن:

" الفلسفة لا رأي لها ".

وقد تكون هذه السمة مفاجأة لبعض الناس، كيف يتأتى أن تكون هذه الفلسفة التي ملأت الدنيا صياحا، منذ نشأت، ولم تكف- منذ أن نشأت للآن - عن الصياح: لا رأي لها؟

والأمر أيسر من أن يحتاج إلى استفاضة:

أما أولا: فلأن " الفلسفة لا رأي لها". نتيجة واضحة لكل ما قدمنا.

وأما الثانية: فخذ أي مسألة من مسائل الفلسفة فستجد فيها الآراء التي تنكر، والآراء التي تثبت، إنك ترى الرفض والقبول في كل أمر.

والرفض فلسفة، والقبول فلسفة.

وقد يكون الرأي توقفا على الرفض والقبول وهو فلسفة، وقد يكون شكا في الرفض، وشكا في القبول في آن واحد، وهو أيضا فلسفة.

والشك إما أن يكون شكا في قيمة الآراء التي تعرض: نفيا أو إثباتا.

وإما أن يكون شكا في قيمة وسيلة المعرفة نفسها وهي الحواس والعقل.

وكل ذلك فلسفة في كل مسألة.

وإذا تساءلت- وأنت على علم بالجو الفلسفي: جو المتاهات والوهم- ما الرأي الفلسفي في هذه المسألة أو تلك فستجد كل ما قدمناه ماثلا أمامك يثبت لك بما لا مرية فيه أنه:

(لا رأي للفلسفة).

وقبل أن نخلص إلى الخاتمة نذكر أمرا في منهج الفكر الفلسفي فيه عظة وفيه عبرة:

إن محاورة " فيدون " لأفلاطون لها أهميتها لأكثر من وجه. منها أنها:

1 -

محاورة يدور البحث فيها حول خلود النفس.

ص: 141

2 -

وهي محاورة لا تتعارض فيها أهداف المناقشين، وإنما تتحد وتتفق ويحب المناقشون أن يصلوا فيها إلى نتيجة محببة إلى نفوسهم وهي أن:(النفس خالدة).

3 -

إن الذين يدور بينهم الحوار فلاسفة من الذين له وزنهم واعتبارهم، وأحدهم يسمونه " أبا الفلسفة" ويسمونه " أبا الفلاسفة".

4 -

المتحاورون ليسوا من مدرسة واحدة وإنما هم من مدرستين مختلفتين هما: مدرسة سقراط، ومدرسة فيثاغورس، وهما وإن كانتا متقاربتين فإنه ما من شك في أن جو سقراط العقلي يختلف عن جو فيثاغورس الروحي.

ولهذا الاختلاف فإن اتفاقهما على غاية واحدة: (إثبات خلود الروح) ومحاولتهما الاستدلال عليها له أهميته الخاصة.

5 -

بيد أن الأمر الأساسي الهام الذي من أجله نتحدث في هذا الموضوع هو اتفاق المدرستين على أن " الوحي" فيما يتعلق بما بعد الطبيعة هو السفينة الأمينة الآمنة المتينة، وأن العقل في مجال الإلهيات، إن هو إلا عبارة عن لوح من الخشب إذا قابلته أو إذا وازنته بالوحي:(إن الوحي سفينة والعقل لوح خشب).

لقد كان الحوار يدور بين سقراط واثنين من الفيثاغوريين هما: سيميا " و" قابس " وهما من كبار فلاسفة المدرسة الفيثاغورية.

وأخذ الجميع يجهدون ذهنهم في البرهنة على خلود النفس ويقيمون أدلة وتنقسم بعض أدلتهم إلى فروع ثم: " ويسكت سقراط، ويسكت الجميع، وبعد هنيهة يقول سيميا:

إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا في هذه الحياة، ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر مدى العقل، فيجب:

إما الاستيثاق من الحق.

وإما - إن امتنع ذلك- استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به في اجتياز الحياة.

كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح من خشب، ما دام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وآمن، أعني إلى وحي إلهي" (1).

(1) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية

ص: 142