الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحاديث دون الإسناد وتطويله، فلخصت منه هذا المختصر مقتصرا فيه على متن الأثر، مصدرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر) (1) وهذه نماذج يسيرة جدا من أقوال العلماء في هذا الصدد.
(1) مقدمة الدر المنثور (1/ 2).
المانعون من الاختصار:
أما المانعون من الاختصار فلهم وجهة أخرى، حيث يرى بعضهم أن الاختصار اعتداء على الكتاب، وتشويه لجماله.
ويرى بعضهم أنه يضر بعقل المبتدئ، ويخلط عليه مقاصد العلم، وذلك لعدم تمكن الملكة لديه.
ويرى بعض هؤلاء أن الذين يعمدون إلى الاختصار بقصد تسهيل الحفظ، وتيسير الفهم، فإنهم يقعون في ضد قصدهم من تقصير الملكة العلمية، وحصرها عند المتعلم؛ إذ ينبغي أن يسبق قراءة المختصرات عندهم مراحل يتدرج فيها المتعلم فيبدأ بتلقي الأصول، وأمهات المسائل من كل باب، مع مراعاة قوة عقله، ونضجه، واستعداده للاستيعاب والتحصيل.
وممن يرى هذا الرأي: الجاحظ، وابن خلدون، وياقوت الحموي.
فقد نقل ياقوت الحموي عن الجاحظ أنه صنف كتابا، وبوبه أبوابا، فأخذه بعض أهل عصره، فحذف منه أشياء، وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صورت في تصنيفي صورة كان لها عينان فعورتهما أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما صلم الله أذنيك، وكان لها يدان
فقطعتهما قطع الله يديك، حتى عد أعضاء الصورة. فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار، وتاب عن المعاودة إلى مثله (1).
ويقسم ابن خلدون التعليم إلى مراحل ثلاث:
1 -
غاية المرحلة الأولى أنها تهيئ الطالب للفهم مع حصول ملكة جزئية في ذلك.
2 -
ثم المرحلة الثانية يعود به المعلم إلى الفن ثانية فيرفعه إلى أعلى من المرتبة الأولى، ويستوفي له الشرح والبيان، ووجوه الخلاف، والاختلاف، فتجود ملكته.
3 -
وفي المرحلة الثالثة يرجع به وقد قويت ملكته فلا يترك عويصا ولا مهما ولا مغلقا إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيتخلص من الفن، وقد استولى على ملكته، وقد يحصل للبعض ذلك في أقل من ثلاث تكرارات بحسب حفظه وعقله واجتهاده في ذلك (2).
ويقف ابن خلدون موقفا شديدا من الاختصار عائبا على كثير من المتأخرين ولعهم في ذلك، ومبالغتهم فيه، مبينا محاذيره وآفاته، حيث يقول في مقدمته الشهيرة: (ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق، والأنحاء في العلوم يولعون بها، ويدونون فيها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله، وأدلتها، باختصار في الألفاظ، وحشو القليل
(1) مقدمة معجم البلدان ص 14.
(2)
المقدمة لابن خلدون ص 734.
منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن، وصار ذلك مخلا بالبلاغة، عسرا على الفهم.
وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون، للتفسير والبيان، فاختصروها، تقريبا للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه، وابن مالك في العربية، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم، ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة الفهم، بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها (1)
أقول: لا شك أن للاختصار فوائد عديدة -سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى- لكن إذا طغت عيوب الاختصار على فوائده، فقد تلاشت الحاجة إليه.
وكلام ابن خلدون مقبول إذا ألزم المتعلمون في مراحلهم الأولى بأنواع من المختصرات وعرة الألفاظ، بعيدة المعاني، مشتتة التراكيب والضمائر.
أما إذا حبب للمتعلم حفظ بعض المختصرات الجامعة لمهمات المسائل، السهلة الألفاظ والتراكيب، فلا نكر في ذلك.
والمتعلم في مراحله المختلفة يحسن به الجمع بين الحفظ والفهم، دون إثقال وإملال، ولعل الغرض الأهم الذي قصد إليه هؤلاء العلماء
(1) المصدر السابق نفسه، ص (733).
من الاختصار هو تيسير الحفظ، فإن المتعلم في مراحله الأولى يكون الحفظ أيسر عليه من الفهم، ويكون في الفهم صعوبة عليه، لذا ينبغي أن يراعى في بناء الشخصية العلمية للمتعلم هاتان الناحيتان، مع الاتزان والاعتدال فيهما.
وأوضح دليل على هذا إطباق علماء الأمصار في العصور المختلفة على تحفيظ القرآن للأطفال، وإن كانوا لا يفهمون شيئا من معانيه، فضلا عن أحكامه؛ لأن هذا الحفظ سيكون تأسيسا للمرحلة القادمة من الفهم والاستنباط.
أما ياقوت الحموي فربما كان أشد المانعين من الاختصار، حيث إنه يأخذ عهدا على من يستفيد من كتابه أن لا يغير فيه، ولا يختصره، فإن لم يقبل كان عاقا مخالفا له والله حسيبه.
قال في مقدمة كتابه (معجم البلدان): (ولقد التمس مني الطلاب اختصار هذا الكتاب مرارا، فأبيت، ولم أجد لي على قصر هممهم أولياء ولا أنصارا، فما انقدت لهم ولا ارعويت، ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه أن لا يضيع نصبي، ونصب نفسي له وتعبي. . . باقتضابه واختصاره).
ثم يقول: (فإن أجبتني فقد بررتني جعلك الله من الأبرار، وإن خالفتني فقد عققتني، والله حسيبك في عقبى الدار).
وقال: (ثم اعلم أن المختصر لكتاب كمن أقدم على خلق سوي، فقطع أطرافه، فتركه أشل اليدين، أبتر الرجلين، أعمى العينين، أصلم الأذنين، أو كمن سلب امرأة حليها فتركها عاطلا، أو كالذي