المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب التفسير - مجموع فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان - جـ ١

[صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب العقيدة

- ‌ أنواع التوحيد

- ‌الطواغيت الخمسة

- ‌ الذهاب إلى المشعوذين والمخرفين

- ‌الطرائق المنحرفة

- ‌اتخاذ مشايخ الطرق شفعاءعند الله تعالى

- ‌كتابة الحجب والحروز وتعليقها

- ‌المساجد والقبور

- ‌دفن الأموات في المساجد

- ‌ السحر

- ‌التصديق بالسحر

- ‌ التطير والتشاؤم

- ‌أولياء الله تعالى

- ‌الصلاة على الملائكة

- ‌مخالطة الكفار

- ‌موالاة الكفار

- ‌تغيير مسمى الديانة منأجل غرض دنيوي

- ‌أهل الفترة

- ‌كتابالأيمان والنذور والكفارات

- ‌كفارة اليمين

- ‌الكفارة على الحالف

- ‌ اليمين الغموس

- ‌قضاء الكفارة

- ‌كتابالقرآن

- ‌القراءة من المصحف على غير طهارة

- ‌قراءة القرآن في الصلاة

- ‌حرق أوراق المصحف

- ‌فضائل سورة الملك

- ‌ سورة الإخلاص

- ‌كتابالتفسير

- ‌تفسير سورة الإسراء

- ‌تفسير سورة الشعراء

- ‌تفسير سورة فاطر

- ‌تفسير سورة يس

- ‌تفسير سورة الزخرف

- ‌تفسير سورة النجم

- ‌تفسير سورة عبس

- ‌تفسير سورة الفجر

- ‌كتابالحديث

- ‌معنى حديث: كل لحم نبت من سحت

- ‌الجمع بين آية وحديث

- ‌كتابالطهارة

- ‌الأصل طهارة ثوب المرأة

- ‌مس عورة الطفل تنقض الوضوء

- ‌خروج الدم والوضوء

- ‌وضوء مقطوع الأيدي

- ‌صفة التيمم وشروطه

- ‌التيمم وجمع الصلوات للمريض

- ‌كتابالصلاة

- ‌الجهر بنية الصلاة

- ‌علو الإمام عن المأمومين

- ‌إمامة المتوسل بالصالحين

- ‌الصلاة خلف إمام يعتقد بالأولياء والصالحين

- ‌وقت صلاة المغرب وصلاة العشاء

- ‌صلاة الجمعة والجماعة

- ‌الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية

- ‌إدراك الجماعة

- ‌التأمين عند دعاء الخطيب

- ‌ سجود التلاوة

- ‌ القنوت في صلاة الفجر

- ‌ السنن الرواتب

- ‌من فاته الركوع الأول من صلاة الكسوف

- ‌المرض والصلاة

- ‌الصلاة خلف الصف

- ‌ المرور بين يدي المصلي

- ‌ الصلاة الاحتياطية

- ‌قضاء الصلاة الفائتة

- ‌قضاء الصلاة الفائتة أيام الطفولة

- ‌صلاة المعذور في بيته

- ‌جمع صلاة الظهر مع صلاةالعصر قبل السفر

- ‌قصر الصلاة

- ‌ترك الصلاة

- ‌كفر تارك الصلاة

- ‌التوبة تجب ما قبلها

- ‌صلاة النساء جماعة

- ‌الصلاة والحيض

- ‌صلاة المرأة جمعة في بيتها

- ‌كتابالجنائز

- ‌الدعاء عند خروج الروح

- ‌صلاة الجنازة

- ‌أداء الدين مقدم على الوصية

- ‌دين المتوفى

- ‌من أحكام الحداد

- ‌ما يلحق الميت من الأعمال

- ‌سب وشتم الأموات

الفصل: ‌ ‌كتاب التفسير

‌كتاب

التفسير

ص: 135

تفسير سورة البقرة

سؤال: ما معنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ، فكيف عرفت الملائكة أن بني آدم سوف يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، مع أنه لم يكن هناك أناس قبل آدم؟

الجواب: هذه الآية من جملة النعم التي عددها الله في أول سورة البقرة، وهي أنه أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض خليفة وهو آدم عليه السلام، بمعنى: أن يستخلفه فيها، وقيل: معنى خليفة أي خليفة عن الله سبحانه وتعالى في تنفيذ أحكامه وسياسة خلقه في الأرض السياسة الشرعية، وقيل: المراد بخليفة أنه يخلف قومًا سبقوا، وأنه كان في الأرض قبل آدم سكان وأفسدوا فيها، فالله أزالهم عنها واستخلف فيها آدم وذريته، وقيل: معنى خليفة أن بني آدم يخلف بعضهم بعضًا جيلًا بعد جيل، وعلى كل حال الاستخلاف الظاهر أنه يشمل هذه المعاني كلها، ثم إن الملائكة عليهم السلام سألوا ربهم سؤال استيضاح لا سؤال اعتراض {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} كأنهم علموا هذا من جيل سبق، كما ذكر المفسرون أنه كان في الأرض قوم من الجان قد أفسدوا فيها، ثم إن الله أزالهم عنها، فالملائكة كانت قد عرفت من هذا الجيل أنه مفسد، فظنت أن آدم وذريته سيعملون كعملهم، ولكن الله يعلم من حال آدم وذريته ما لا تعلمه الملائكة، وأنه سيكون فيهم من الطيبين

ص: 137

من الأنبياء والصالحين والمؤمنين من يعمر الأرض بطاعة الله، ويصلح فيها، قال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، فالله أجابهم بأنه يعلم سبحانه وتعالى من آدم وذريته وصلاحهم وإصلاحهم في هذه الأرض ما لا تعلمه الملائكة حين استشكلوا وقالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} ، والله أعلم.

***

سؤال: ما معنى قوله تعالى في سورة البقرة: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، وهل المقصود بقوله:{الْمَلَكَيْنِ} هما هاروت وماروت، أم هما من ملوك البشر، وهل كانا يعلمان الناس السحر الذي عده الرسول صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات؟

الجواب: هذه الآية وردت في ذم اليهود ومن نحا نحوهم وعمل عملهم، وقبلها قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 101، 102] .

ص: 138

وذلك أن اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدون أوصافه وإثبات رسالته في كتاب الله الذي بأيديهم وهو التوراة، ولما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كانوا كافرين بكتابهم ونابذين له وراء ظهورهم، ثم إنهم اعتاضوا عن كتاب الله، بكتب السحر والشعوذة، وهذا من استبدال الخبيث بالطيب، ومن عقوبة الله لهم؛ لأن من ترك الحق ابتلي بالباطل، فهم لما تركوا كتاب الله اعتاضوا عنه كتب السحر والكتب الشيطانية، وهذه سنة الله جل وعلا فيمن أعرض عن كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أنه يبتلى بالضلال {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} : يعني ما كانت الشياطين تعمله من السحر على {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ، يعني في عهد سليمان، فإن الشياطين كانت تعمل السحر في عهد سليمان، فظن اليهود أن السحر الذي وجدوده ظنوه من عمل سليمان عليه السلام، لهذا قال:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ، يعني: وليس هذا السحر من عمله؛ لأن هذا السحر كفر، والأنبياء مبرءون من عمل الكفر، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ، فدل على أن تعلم السحر وتعليمه كفر.

{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} : الجمهور على أن المراد بهما ملكان نزلا من السماء لابتلاء العباد، وكانا يعلمان السحر ابتلاءً للعباد، ولهذا كانا ينصحان من يريد تعلم السحر بقولهما:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} فينصحانه بأن السحر كفر فلا تتعلمه، فإذا أقدم وتعلمه باختياره فهذا دليل على فساده وشره، فهما ملكان عند الجمهور نزلا من السماء لابتلاء العباد وامتحانهم، ومن العلماء من قرأ:"وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ" بكسر اللام، فيكونان من ملوك البشر، ولكن الأول أشهر وأظهر، وهما هاروت وماروت.

ص: 139

سؤال: ما معنى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] .

الجواب: الله سبحانه وتعالى حرم الخمر على التدريج، فلما كان الناس في أول الإسلام مغرقين في شرب الخمر، ولا يستطيعون تركه بالكلية إلا بالتدريج شيئًا فشيئًا، الله جل وعلا من حكمته حرمه على التدريج.

ففي أول مرحلة قال سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} ، هذا في الأول، أول مرحلة، فبين الله سبحانه وتعالى أن ضرر الخمر أكثر من نفعه، والعاقل إذا عرف أن ضرر الشيء أكثر من نفعه، فإنه يبتعد عنه؛ لأن الإنسان لا يريد لنفسه أن يأخذ شيئًا، أو يتناول شيئًا ضرره أكثر من نفعه، فالعاقل عندما يسمع هذه الآية، فإنه سيترك الخمر والميسر؛ لأن العقل يأمره بذلك لأن مفسدته راجحة، والعاقل لا يقدم على شيء مفسدته راجحة.

ثم في المرحلة الثانية حرمه عليهم في بعض الأوقات، وهي الآية التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] ، فحرمه عليهم في وقت، وهو وقت الصلوات، وإذا كان يحرم على المسلم أن يشرب الخمر في وقت الصلاة، مع أن الصلوات تكرر في اليوم والليلة خمس مرات، فهذا يأخذ عليه وقتا طويلا يحرم عليه فيه شرب الخمر في اليوم والليلة، فيكون قد خفت عليه وطأة الخمر واعتياد الخمر؛ لأنه سيتركه في فترات خمس من اليوم والليلة، فحينئذ تخف وطأته عليه، ثم إنه جل وعلا بعد

ص: 140

ذلك حرمه تحريمًا قاطعًا في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90-92] ، فحرم الخمر تحريمًا قاطعًا في جميع الأوقات، في جميع عمر الإنسان، ولم يبق لها وقت من حياة الإنسان، بل هي حرام على المسلم طول عمره، كانت هذه النهاية نهاية الخمر، وهي أن الله أراح المسلمين منه، وحرمه عليهم تحريمًا قاطعًا وأمرهم باجتنابه، فقال سبحانه:{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، فهذا من باب التدريج في تحريم الخمر، والتدريج فيما يشق على النفوس، هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى.

***

سؤال: يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 240] ، ما معنى هذه الآية، وما معنى قوله:{مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} ؟

الجواب: الذي عليه جمهور المفسرين أن هذه الآية كانت في أول الأمر، فقد كان يجب على المتوفى عنها أن تبقى في بيت زوجها المتوفى لمدة سنة، وأن ينفق عليها من تركته، قوله:{مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي: تبقى في بيت الزوجية لمدة سنة، وينفق عليها من ماله بوصيته، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} ،

ص: 141

أي: أنه يجب عليه قبل وفاته أن يوصي بأن ينفق عليها إلى الحول، وأن تبقى في بيته، قال جمهور المفسرين: هذا ما كان عليه الأمر في أول الإسلام، ثم إن الله نسخ هذا في الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . آية عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر، هذه العدة.

أما الإنفاق فمنسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» ، فليس لها نفقة من تركة الميت، وإنما تنفق من نصيبها هي؛ لأنها وارثة، فنسخ الأمران، نسخ الإسكان، ونسخت النفقة.

هذا ما عليه جمهور المفسرين، والله تعالى أعلم.

سؤال: ما المراد بقوله: {جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} ؟

الجواب: المراد بها، كما في الآية التي قبلها، أنها إذا انتهت عدتها فلها أن تتزين بما جرت به العادة من غير إسراف ومن غير فتنة؛ لأنها في حال العدة ممنوعة من التزين، وإذا انتهت عدتها أبيح لها ما منعت منه في حدود المعروف، الذي ليس فيه فتنة ولا إسراف.

***

تفسير سورة آل عمران

سؤال: ما معنى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ؟ وهل هؤلاء الراسخون في العلم هم في زمن

ص: 142

نزول القرآن، أم هم موجودون إلى قيام الساعة، أم أن علم التأويل مقتصر على الله تعالى وحده، وقوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، بداية آية جديدة؟

الجواب: هذا محل خلاف بين أهل العلم بموضع الوقوف، هل هو على لفظ الجلالة، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} جملة مستأنفة، أو أن الراسخين في العلم معطوف على لفظ الجلالة، ولا يتعين الوقف على لفظ الجلالة، وهذا يرجع إلى معنى التأويل المراد به، فإن كان المراد بالتأويل التفسير ومعرفة المعنى، فإنه يصح العطف على لفظ الجلالة، فتقرأ الآية:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، بمعنى أن الراسخين في العلم يعرفون معاني المتشابه ويفسرونه ويحملونه على الحكم ويردونه إلى المحكم.

وإن أريد بالتأويل هنا: مآل الشيء وكيفيته التي هو عليها من الأمور التي أخبر الله عنها من المغيبات، فهذا لا يعلمه إلا الله، ويتعين الوقف على لفظ الجلالة، فتقرأ الآية:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، يعني: الحقيقة التي يئول إليها والكيفية التي هو عليها، مما أخبر الله تعالى عنه من الأمور المغيبة كذاته سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته، وما في الدار الآخرة من النعيم والعذاب وغير ذلك، هذا لا يعلمه إلا الله، لا يعلم كيفيته وحقيقته إلا الله سبحانه وتعالى، كما في قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] .

***

ص: 143

سؤال: يقول الله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90]، ويقول تعالى في آية أخرى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] ، فما معنى هاتين الآيتين، وكيف نوفق بينهما؟ وهل معنى الأولى أن هناك ذنوبًا لا تقبل التوبة من فاعلها مهما حاول؟ أم أن إحداهما ناسخة للأخرى أم كيف ذلك؟

الجواب: لا تعارض بين الآيتين الكريمتين؛ لأن الآية الأولى محمولة على المرتد الذي لم يتب، ومات على ردته {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} ، يعني: لم يتوبوا وإنما استمروا على كفرهم إلى أن ماتوا، فهؤلاء لن تقبل توبتهم ولو تابوا عند الموت لقوله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]، ولقوله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]، فالحاصل: إن الآية الأولى فيمن ارتد عن الدين واستمر على ردته ولم يتب إلا عند الموت، وعند الغرغرة كما في الحديث:«إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» ، يعني: ما لم تبلغ روحه الغرغرة، حينئذ لا تقبل منه توبة.

وأما الآية الأخرى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ، فهذه في الذي يتوب قبل حضور الموت، فإن الله جل وعلا يتوب عليه، وبهذا يتضح أن لا تعارض بين الآيتين الكريمتين.

ص: 144

سؤال: هل هناك ذنب لا تقبل التوبة من فعله؟

الجواب: الصحيح أنه ليس هناك ذنب لا تقبل التوبة من فاعله، فإن الله جل وعلا يقبل توبة الكافر إذا تاب، قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] .

والمشرك إذا تاب مع أن الشرك هو أعظم الذنوب، إذا تاب منه تاب الله عليه.

فليس هناك على الصحيح من قولي العلماء ذنب لا تقبل منه التوبة.

***

تفسير سورة النساء

سؤال: ما معنى قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148] ؟

الجواب: قيل: معنى الآية أنه لا يجوز لأحد أن يدعو على أحد إلا إذا كان المدعو عليه ظالمًا له، فيجوز للإنسان أن يدعو على من ظلمه، وقيل في معنى الآية: إن من سبك يجوز لك أن تسبه من باب القصاص، أما السباب من غير قصاص فلا يجوز، {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} فمن سابك أو شتمك جاز لك أن تقتص منه وأن ترد عليه بالمثل، أما إذا لم يكن هناك سبب في السباب والشتم فهذا لا يجوز؛ لأنه جهر بالسوء.

سؤال: إذا المقصود بالسوء هنا: هو السب أو الشتم؟

الجواب: السب أو الشتم أو الدعاء.

ص: 145

سؤال: يعني لا يعم هذا حتى الأفعال الباطلة التي على الأقل إذا ابتلي الإنسان بها أن يستتر؟

الجواب: يعني إشهار الجرائم والتشهير بالعصاة؟ نعم، يدخل في هذا أيضًا، لكن قوله:{إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} يبدو أن فيه مقابلة بين طرفين، مظلوم وظالم، وأنه يجوز للمظلوم أن يظهر بالسوء على من ظلمه.

***

تفسير سورة المائدة

سؤال: أرجو منكم تفسير قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] ، ثم هل المتردية والنطيحة محرم أكل لحمهما عندما تموت مباشرة بسبب ذلك، أو محرم أكلها ولو بقيت مدة طويلة ثم ذبحتها بعد ذلك؟

الجواب: يقول الله مخاطبًا عباده المؤمنين الذين ناداهم في مطلع هذه السورة العظيمة بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، يقول تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} : أي حرم الله سبحانه وتعالى عليكم أكل الميتة، والميتة: هي التي ماتت بغير زكاة شرعية، وقد خص منها الدليل ميتة السمك والجراد كما قال صلى الله عليه وسلم:«أحلت ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالسمك والجراد» . فالسمك والجراد أحل الله ميتتهما، وما عدا ذلك فإنه حرام.

ص: 146

والميتة كما ذكرنا هي التي ماتت بغير زكاة شرعية.

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} : الدم هنا مطلق، ولكن قيدته الآية الثانية بالمسفوح؛ كما قال تعالى:{لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] .

والمراد به: الذي يخرج من الذبيحة وقت ذبحها، ويشخب من أوداجها، أما الدم المتبقي في العروق واللحم من الذبيحة فهذا معفو عنه لا بأس بأكله مع اللحم.

وَاسْتُثْنِيَ من الدم الدمان اللذان مر ذكرهما في الحديث: «أحلت لنا ميتتان ودمان، وأما الدمان فالكبد والطحال» ، فالدم حرام، والمراد به الدم المسفوح، أما الدم المتبقي في العروق بعد الذبح وفي اللحم فهذا معفو عنه، وكذلك المستثنى في الحديث الكبد والطحال.

{وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} : الخنزير هو الحيوان المعروف بالقذارة والدناءة، وحرم الله أكله لما فيه من الأضرار البالغة وما يورثه من الأمراض الخطيرة، كما قرر ذلك أهل الطب، فإن الخنزير فيه جراثيم وأمراض خطيرة، اكتشفت ولا تزال تكتشف، والله جل وعلا لا يحرم على عباده إلا ما فيه مضرة عليهم.

{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} : المراد به ما ذبح تقربًا إلى غير الله من الأصنام وسائر المعبودات، وكذلك ما ذبح وسمى عليه غير اسم الله عز وجل.

ص: 147

وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى يشمل نوعين:

يشمل ما تقرب به لغير الله ولو ذكر عليه اسم الله.

ويشمل ما ذبح لغير القربى وسمي عليه غير اسم الله سبحانه عند الذبح.

والمراد بالإهلال: رفع الصوت، هذا في الأصل، والمراد به هنا ما ذكرنا.

{وَالْمُنْخَنِقَةُ} : قالوا: إن هذا تفصيل للميتة، التي ذكرها الله في أول الآية، وهي التي خنق نفسها وحبس نفسها بحبل أو غيره، بشيء ضيق حتى ماتت، بسبب الخنق.

{وَالْمَوْقُوذَةُ} : التي ضربت بشيء مثقل وماتت بالضرب، ولو خرج منها دم؛ لأن المثقل لا يجرحها، وإنما يقتلها بثقله، ويرضها وتموت بسبب الثقل فهذه الموقوذة.

{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} : هي الساقطة من شيء مرتفع كالسطح أو الجبل أو الجدار أو حفرة أو في بئر وماتت بسبب السقطة.

{وَالنَّطِيحَةُ} : هي التي تناطحت مع أخرى وماتت بسبب المناطحة، كتناطح الغنم بعضها مع بعض، والبقر بعضها مع بعض.

{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} : السبع الذي يفترس بنابه من الذئاب والأسود وغيرها من السباع المفترسة التي تغرز بأنيابها أو بمخالبها، سبع الطير، أو سبع الحيوان، ما يفترس بنابه أو بمخلبه، فإذا أصاب الحيوان ومات بسبب إصابته، فإنه لا يؤكل.

ص: 148

{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} : هذا استثناء مما سبق، أي: إلا ما أدركتموه حيًّا من هذه الأشياء: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، إذا أدركتموه بعد إصابته بشيء من هذه الأمور، وفيه حياة مستقرة وذكيتموه فإنه حلال؛ لأنه توفرت فيه شروط الإباحة، وهي الزكاة الشرعية.

أما ما أدركتموه وقد مات بسبب الإصابة أو أدركتموه حيًّا في الرمق الأخير، فحياته غير مستقرة، حياة المذبوح، هذا أيضاًَ لا يحل، وقال بعض أهل العلم: إن مما أدرك وفيه حياة أدنى حياة وذكي فإنه يحل، ولكن الجمهور على أن ما كانت حياته غير مستقرة كحركة المذبوح فهذا لا يحل بتذكيته؛ لأنه في حكم الميت.

{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} : المراد بالنصب: الأحجار التي كان أهل الجاهلية يعظمونها ويلطخونها بدم الذبائح تعظيمًا لها وتقربًا إليها، وقيل: إنهم يذبحون الذبيحة على نفس الحجارة تعظيمًا لها، فهذه ذبائح شركية ذبحت تعظيمًا لهذه النصب، فهي مما لا يحل أكله، وهذا بيان لما كان يفعل في الجاهلية، هذا معنى هذه الآية الكريمة.

وأما بقية السؤال، ما أدرك من المنخنقة والموقوذة والمتردية فقد أجبنا عنه، أنه إذا أدركها وفيها حياة مستقرة وذكاها حلت، وإن أدركها وهي ميتة أو في الرمق الأخير الذي هو كحركة المذبوح، فهذا محل خلاف بين أهل العلم، والجمهور على أنه لا يحل.

إذاًَ المدرك بعد إصابته له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يدرك وهو ميت فهذا حرام بالإجماع.

ص: 149

الحالة الثانية: أن يدرك وفيه حياة مستقرة، فهذا حلال بالإجماع إذا زكاه.

الحالة الثالثة: إذا أدركه وفيه حياة غير مستقرة، حياة على سبيل الزوال كحركة المذبوح، فهذا محل الخلاف.

***

سؤال: ما معنى هذه الآيات من سورة المائدة: وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 101، 103] ؟ وما معنى بحيرة وسائبة ووصيلة وحام؟

الجواب: الله سبحانه وتعالى ينهى عن السؤال الذي لا حاجة إليه، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كثرة السؤال، وقال:«ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» ، في هذه الآيات الكريمة ينهى الله المؤمنين أن يسألوا عن أشياء لا حاجة بهم إليها، ولا هي مما يعنيهم في أمر دينهم، ولو ظهرت لهم هذه الأشياء وكلفوا بها لشقت عليهم وساءتهم، وهذا نهي من الله عن كثرة سؤالهم للرسول صلى الله عليه وسلم في أمور لا تعني، ولا يحتاجون إليها، ويكون في السؤال عنها سبب

ص: 150

لإيجابها عليهم وعلى غيرهم، فإنه إذا وقع السؤال عنها في حال وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه، حصلت الإجابة عليها، فكان ذلك سببًا للتكاليف الشاقة، وفي ترك السؤال عنها سلامة من ذلك؛ لأنها مما عفا الله عنه، أي تركه ولم يذكره بشيء، فلا تبحثوا عنه، ثم إنه سبحانه بين أن السؤال عن هذه الأشياء التي لا ينبغي السؤال عنها، وقعت فيه الأمم السابقة، فكانت عاقبة ذلك سيئة في حقهم، حيث لم يعملوا بها لما بينت لهم، فعوقبوا بسببها.

والمراد بالآيتين عمومًا النهي عن السؤال الذي لا تدعو الحاجة إليه، أما ما دعت الحاجة إليه من أمور الدين والدنيا، قد شرع الله السؤال عنه بقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإن شفاء العي السؤال» .

وأما قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103] الآية.

فهذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية لما ابتدعوه في بهيمة الأنعام من شريعة الجاهلية، حيث جعلوا منها:

البحيرة: وهي التي تشق أذنها ويمنع من ركوبها وحلبها وأكل لحمها.

ص: 151

والسائبة: وهي التي تترك فلا تمنع من مرعى ولا ماء ولا تركب ولا تحلب ولا يجز وبرها.

والوصيلة: وهي الناقة أو الشاة إذا أنتجت عددًا معينًا من الولد متواصلًا، ذبحوها للأصنام، وحرموا لحمها على النساء.

والحام: الجمل الفحل إذا حمى ظهره من أن يركب، كانوا إذا أنتج الفحل عددًا معينًا، قالوا: حمى ظهره فلم يركبوه.

وهذه من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها والله جل وعلا قال في مطلع السورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] ، والله جل وعلا أحل بهيمة الأنعام أن نأكل منها وأن نشرب من ألبانها وأن نركبها بحدود المشروع، إلا ما كان منها ميتة أو دمًا مسفوحًا، كما في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] .

***

تفسير سورة هود

سؤال: يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106-108] ، ما معنى هاتين الآيتين، وما المقصود بدوام السماوات والأرض، وبالاستثناء في قوله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ في الآيتين.

ص: 152

الجواب: هاتان الآيتان وما قبلهما في وصف مشهد يوم القيامة، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود 103-106] الآيتين.

بين سبحانه وتعالى أن الناس ينقسمون في هذا اليوم العظيم إلى قسمين: شقي وسعيد، ثم بين جزاء الأشقياء وجزاء السعداء {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} ، اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى:{مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} ، فقيل: إن هذا جرى على أساليب العرب، وأن العرب إذا أرادوا أن يصفوا شيئًا بالدوام، قالوا: هذا دائم ما دامت السماوات والأرض، والمراد هنا مطلق الدوام، كما هو عادة العرب في أساليبها.

وقيل: إن المراد جنس السماوات والأرض؛ لأن الآخرة أيضًا فيها سماء وفيها أرض، لكنها غير هذه السماء، وغير هذه الأرض الموجدتين الآن؛ لأن الله تعالى يقول:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] ، فالمراد هنا بالأرض وبالسماء الجنس، وإن كان العين مختلف، والمعنى: أن هؤلاء الكفار لا يخرجون من هذه النار أبد الآباد، وأنهم مخلدون فيها.

أما الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ في الآيتين المراد بالاستثناء في الآية الأولى في حق الأشقياء {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ، الذي عليه أكثر المفسرين: أن المراد بهذا الاستثناء

ص: 153

عصاة الموحدين الذين يدخلون النار بمعاصيهم، فإنهم لا يخلدون فيها، وهم مستثنون من الخلود، وينفرد بالخلود الكفار والمشركون، أما عصاة الموحدين فإنهم وإن دخلوا النار فإنهم يستثنون من الخلود فيها {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} بأن يخرجوا منها إما بشفاعة الشافعين، بإذن الله عز وجل أو بعفو الله عز وجل عنهم، فالمراد بالاستثناء هنا أهل التوحيد، العصاة الموحدون.

وأما الاستثناء في قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ، ففيه قولان للمفسرين:

القول الأول: أن المراد أيضًا عصاة الموحدين، فإن عصاة الموحدين الذين دخلوا النار لهم شيء من البقاء في الجنة في أول الأمر، فاتهم شيء من الخلود، لبقائهم في النار فترة قبل دخولهم الجنة.

القول الثاني: قيل المراد بالاستثناء هنا: بيان أن خلودهم فيها ليس واجبًا، وإنما هو راجع إلى مشيئة الله عز وجل فهم يخلدون فيها بمشيئة الله، وليس خلودهم هذا من باب الوجوب.

سؤال: بالنسبة لمن وجبت عليه النار ولكنه لا يحكم بخلوده فيها، الذي يكون آخر الاثنين هو العذاب أو النعيم؟

الجواب: يدخلون النار أولًا، ويمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون منها بعد ذلك وقد احترقوا وصاروا فحمًا ثم يلقون في نهر يقال له:(نهر الحياة) فتنمو أجسادهم، ثم بعد ذلك إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، آخر أمرهم الخلود في الجنة.

***

ص: 154