الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالولد مثلاً، أو بالقدوم من سفر، وما أشبه ذلك فهذه أهون.
س 135: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله: كيف نعامل النصارى المشاركين لنا في العمل والمجاورين لنا في المنازل
؟
فأجاب بقوله: تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم، فإن هذا من العدل الذي أمر الله تعالى به، قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى)(1) .
ولا بأس بالإحسان إليهم تأليفًا لهم على الإسلام لا توددًّا وتقربًّا إليهم لقول الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(2) .
وأما مودتهم وموالاتهم فلا يحل لنا ذلك لقوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)(3) الآية.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
(1) سورة النحل، الآية:90.
(2)
سورة الممتحنة، الآية:8.
(3)
سورة المجادلة، الآية:22.
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (1) .
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)(2) .
وأما تهنئتهم فن كانت لمناسبات دينية عندهم فهذا حرام بلا شك؛ لأنه يتضمن الرضا بما هم عليه من الكفر، وتثبيتهم عليه، وإدخال السرور عليهم به، وإن كانت لمناسبات غير دينية كحصول
مال أو ولد فلا بأس به إذا كانوا يفعلون ذلك بنا لما فيه من العدل والإنصاف، وإلا فلا تهنئهم به إلا أن يتضمن ترك ذلك إضرارًا بنا.
وأما تعزيتهم فنعزيهم إذا كانوا يعزوننا لما فيه من العدل والإنصاف، لكن ينبغي أن تكون تعزيتنا مفتاحًا لوعظهم ودعوتهم للإسلام.
نسأل الله أن ينصر عباده المؤمنين على أعدائه الكافرين.
حرر في 10/7/1417 هـ.
(1) سورة الممتحنة، الآية:1.
(2)
سورة المائدة، الآية:51.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى الناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً أما بعد:
فقد بلغني أن بعض الناس ولا سيما النساء كانوا يدعون الله تعالى بالمغفرة والرحمة لامرأة نصرانية ماتت في هذا الشهر جمادى الأولى سنة 1418 هـ بحادث وربما يبكين على موتها.
والدعاء بالمغفرة والرحمة لغير أموات المسلمين حرام مخالف لسبيل النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلّم- والذين آمنوا لقوله تعالى: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ"(1) .
وكل من بلغته رسالة النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلّم- ولم يؤمن بها فهو من أصحاب الجحيم، سواء كان من المشركين الوثنيين أم من اليهود والنصارى أم من غيرهم؟ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه
(1) سورة التوبة، الآية:118.
الأمة- يعنى: أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" (1) . أخرجه مسلم.
وإذا كان الله تعالى نهى نبيه- صلى الله عليه وعلى آله وسلّم- أن يستغفر لعمه أبى طالب مع أنه كان يدافع عن النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلّم- وينصره، فكيف بمن دونه وبمن لم يعرف منه نصر للمسلمين ولا دين الإسلام؟
فالواجب على المسلم ألا تحمله العاطفة على الوقوع فيما حرم الله عليه، وأن يتوب إلى الله تعالى مما وقع فيه من المخالفة، وأن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا، وأن يتبرأ من أعداء الله تعالى كفعل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين استغفر لأبيه قال الله تعالى:(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(2) .
وليعلم أن من مات على غير الإسلام فإنه لا ينفعه ما عمل من خير عام أو خاص لقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ)(3) الآية.
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجود الإيمان برسالة نبينا محمد، برقم (153) .
(2)
سورة التوبة، الآية:114.
(3)
سورة التوبة، الآية:45.
وقالت عائشة- رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: "لا ينفعه"؛ إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" (1) . رواه مسلم.
وعن سلمة بن يزيد الجعفي قال: انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلنا: يا رسول الله! إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتفعل وتفعل؛ هلكت في الجاهلين فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال: "لا"(2) رواه الإمام الأحمد وقال الهيثمي: "رجاله رجال
الصحيح".
وإذا كان لا ينفعه عمله فعمل غيره من باب أولى، وعلى هذا فلا يحل الصدقة عنه ولا الأضحية ولا غيرهما من القربات. أسأل الله أن يوفقنا جميعاَ لما فيه رضاه واجتناب سخطه إنه سميع الدعاء.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 15 جمادى الأولى سنة 1418 هـ.
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على كفره لا ينفعه عمله، برقم (214) .
(2)
رواه أحمد 268 ، 25 (15923) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الجهاد في سبيل الله عز وجل (1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه الله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين، وقدوة
للسالكين، وحجة على المرسل إليهم أجمعين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاد حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم خلفه في أمته خلفاء راشدون قادة مهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومازال الخلفاء في هذه الأمة يأتي الخلف من بعد السلف حتى آل الأمر إلى ما نحن عليه اليوم في هذه البلاد مهبط الوحي ومنبع الرسالة، هذه البلاد التي منها بدأ الإسلام ويعود، أما بدأ الإسلام من هذه البلاد فأمر لا يحتاج إلى عبارة؛ لأنه معلوم مستقر لدى العامة والخاصة، وأما رجوع الإيمان على هذه البلاد فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم أنه يرجع إلى المدينة كما ترجع الحية إلى جحرها (2) .
(1) محاضرة ألقاها فضيلة شيخنا- رحمه الله في الرياض أثناء حرب العراق والكويت عام 1411 هـ.
(2)
رواه البخاري/كتاب الحج/باب الإيمان بارز إلى المدينة برقم (1743) ، ومسلم/ كتاب الإيمان/باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً برقم (209) .
وإذا كان الأمر هكذا فإن واجبنا نحن في هذه البلاد يفوق واجب غيرنا في البلاد الأخرى؛ ذلك لأنه يجب علينا أن نحمي حوزة ديننا وأن تكون نيتنا خالصة لله، تكون كما قال الله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(1) .
يا أيها الأخوة لنقف قليلاً عند هذه الآية الكريمة، ولننظر: ما هي السلعة؟
وما هو الثمن؟
ومن العاقد؟
ومن المعقود معه؟ وما هي وثيقة العقد؟
فالمشترى هو: الله، والبائع هم: المؤمنون، والسلعة هي: الجهاد في سبيل الله، أنفسهم وأموالهم يبذلونها في سبيل الله- عز وجل فالسلعة هي النفس والمال اللذان بذلا في الجهاد في سبيل الله. أما
العوض: وهو الثمن الذي يدفع من المشتري فهو الجنة (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) . وأما الوثيقة: فالتوراة والإنجيل والقرآن، أعظم الكتب
(1) سورة التوبة، الآية:111.
الإلهية المنزلة من عند الله تعالى فما أعظم العاقد وما أكبر هذه الصفقة! وما أجل المعقود معه في نيته وإخلاصه! وما أجل العوض!
وما أثمن الثمن عند باذله؛ لأنه النفس والمال.
أما النية التي قصد بها هذا العقد فهي موجودة في قوله تعالى: (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ)(1) . ليست حركتهم حركة تمني وإدعاء، ولكنها حركة فعل وإقدام (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ)(2) والمقاتلة لا بد
أن تكون مسبوقة بإعداد قوة يعتد بها الإنسان حتى يقاتل بها عدوه، أما أن ينزل إلى الميدان بدون عدة فإنه بلا شك حري بأن يخذل ويهزم، لكن هؤلاء المؤمنين لديهم من العدة ما استطاعوا أن ينزلوا به الميدان فيقاتلون في سبيل الله ولهذا قال تعالى:(يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)(3) .
فبدأ بكونهم يَقْتُلُون قبل أن يكونوا يُقْتَلُون، وهذا يدل على أن قتالهم قتال هجوم لا مدافعة، وهكذا يجب علينا- نحن المسلمين- أن نقاتل أعداءنا أعداء الله- عز وجل قتال هجوم لا قتال دفاع؟
لأن الله يقول: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) وقال
(1) سورة التوبة، الآية:111.
(2)
سورة التوبة، الآية:111.
(3)
سورة التوبة، الآية:111.
النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن
محمد رسول الله" (1) .
أيها الأخوة: وفى قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اَللَّهِ)(2) إشارة إلى أنه يجب أن يكون هذا القتال مبنيًا على الإخلاص لله- عز وجل وعلى أتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(3) .
ولقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حميه ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة مانعة قال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(4) من قاتل لهذا الغرض الوحيد وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، من قاتل لهذا، فهو في سبيل الله وهو الذي يستحق إذا قتل أن يكون شهيدًا داخلاً في قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، برقم (25) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، برقم (22) .
(2)
سورة التوبة، الآية:111.
(3)
سورة الأنعام، الآية:153.
(4)
رواه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم، برقم (123) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (1904) .
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (1) .
وقال- عز وجل: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)(2) ولا يدخل في ذلك من قاتل للوطنية المحضة أو القومية، وانتبه لقولي الوطنية المحضة؛ لأن الإنسان إذا قاتل من أجل وطنه لكونه وطنا إسلاميًا؛ ولأجل أن تبقى كلمة الله تعالى فيه هي العليا، فإن ذلك لا ينافي صحة النية والعقيدة، وهو داخل في القتال في سبيل الله تعالى، أما من قاتل عن وطنه لأنه وطنه فقط فلا فرق بينه وبين قتال الكافر الذي يقاتل عن وطنه، لأنه وطنه وأرجو أيها الأخوة أن تكون نيتنا في القتال عن وطننا، لا لمجرد كونه وطنًا لنا ولكن من أجل أنه وطن الإسلام الذي أقول- وأشهد الله تعالى على ما أقول وأشهدكم أيضاً - إنني لا أعلم أن في الأرض اليوم من يطبق من شريعة الله ما يطبقه هذا الوطن أعني المملكة العربية السعودية، وهذا بلا شك من نعمة الله علينا فلنكن محافظين على ما نحن عليه اليوم، بل ولنكن
(1) سورة آل عمران، الآيات: 169-171.
(2)
سورة الحديد، الآية:19.
مستزيدين من شريعة الله- عز وجل أكثر مما نحن عليه اليوم، لأنني لا أدّعي الكمال، وأننا في القمة بالنسبة لتطبيق شريعة الله لا شك أننا نخل بكثير منها، ولكننا خير والحمد لله مما نعلمه من البلاد الأخرى، ونحن إذا حافظنا على ما نحن عليه اليوم، ثم حاولنا الاستزادة من التمسك بدين الله- عز وجل عقيدة ومنهاجًا فإن النصر يكون حليفنا ولو اجتمع علينا مَنْ بأقطارها، لأن الله- عز وجل يقول وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (1) .
فاقرأ الآيتين جميعًا ولا تكن ككثير من الناس يقرأ الآية الأولى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) فأقرا ما بعدها لأنها مهمة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) مهما عملوا من الأعمال فإنها في ضلال وهلاك ما داموا يقابلون الذين آمنوا ونصروا الله، فنحن إذا من الله علينا بالاتصاف بهذين الوصفين:
الإيمان.
ونصر الله- عز وجل.
وذلك بنصر دينه فإن الذين كفروا مهما كانوا أمامنا حالهم ما ذكر
(1) سورة محمد، الآيتان: 7، 8.
الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) .
لا تتهيب من عدوك ما دمت من أولياء الله الذين أمنوا وكانوا يتقون، الولاية لا تكون بكبر العمامة، ولا بسعة الكم، ولا بطول المسواك وبالتصنع أمام الناس، الولاية تكون بهذين الوصفين:(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (1) .
فإذا آمنا بالله ونصرناه بنصر شريعته فإن النصر سيكون حليفنا مهما كان أعداؤنا، ونصرنا لله لا يكون بمجرد سلامة العقيدة.
فلا بد مع سلامة العقيدة من عمل صالح ولهذا جاء في الآية بيان أولياء الله الذين يستحقون نصر الله بأنهم (الَّذِينَ آَمَنُوا) وهذه هي العقيدة (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) وهذا هو العمل.
وأعتقد أن بعضكم قد أخذ العبرة مما وقع للمسلمين وقائدهم، إمام المتقين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحد التي كانت بين حزب الله، وحزب الشيطان، بين محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وبين أبي سفيان وأتباعه وأبو سفيان أسلم بعد- أقول: إن هذه الغزوة التي وقعت بين حزب الله وحزب الشيطان كلنا لا نشك في سلامة العقيدة وحسن النية في الطرف الذين هم حزب الله، ولكن وقعت
(1) سورة يونس، الآيتان: 62-63.
منهم معصية قد تكون ناتجة عن تأويل فكان النصر في أول النهار لحزب الله، وكان العكس في آخر النهار كما هو معلوم، هذه المعصية التي وقعت هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم - وقد آتاه الله الحكمة- (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (1) فقد رتب- عليه الصلاة والسلام الجيش ونظمه أحسن نظام وجعل خمسين من الرماة على ثغر خلف الجيش حتى لا يؤتى المسلمون من خلفهم وقال لهم:"لا تبرحوا مكانكم سواء كان لنا أو علينا"(2) .
ولما رأى هؤلاء الرماة أن الكفار انهزموا وأن المسلمين بدؤا يجمعون الغنائم، انطلق منهم أناس وتركوا المكان اعتقادًا منهم أن الأمر قد انتهى، ولكن لما فرغ هذا الثغر، أو كاد يفرغ انطلق رجال
من فرسان قريش نحو الثغر فدخلوا منه واختلطوا بالمسلمين من خلفهم وكان ما قضاه الله بحكمته- عز وجل (3) .
والمهم أن معصية واحدة أدت بهذا النصر الذي بزغ نجمه إلى الخذلان، فإذا كانت هذه المعصية في جند الله- عز وجل وفيهم رسوله صلى الله عليه وسلم أثرت عليهم هذا التأثير قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
(1) سورة البقرة، الآية:269.
(2)
رواه البخاري/كتاب الجهاد/باب ما يكره من التنازع برقم (2818) .
(3)
انظر صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، بر قم (3039) .
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) (1) يعنى: فاتكم النصر.
ففي هذا عبرة بأن المعاصي لها تأثير في خذلان المرء أمام نفسه، وأمام عدوه. وما أكثر ما كانت المعصية تجر إلى معصية أخرى ثم إلى أخرى، ومن الصغائر إلى الكبائر، ومن الكبائر إلى الكفر.
ولهذا قال بعض العلماء: إن المعاصي بريد الكفر والبريد سيصل إلى غايته أقول: يجب علينا أولاً أن نصحح النية والعقيدة ويكون تصحيح النية والعقيدة بأن يكون قتالنا في سبيل الله لتكون كلمة الله
هي العليا أي: أن تقام شريعة الله تعالى في أرضه بتحكيم كتابه وسنة رسوله في العقيدة والعمل، وعلينا أن نقوم بطاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه وأن نعلم علم اليقين أن للمعاصي تأثيرًا بالغًا في تأخر النصر، وأنها قد تحول بين الإنسان والنصر حتى يصل إلى الخذلان، والمعاصي أيها الأخوة قد تكون بفعل المحرم، وقد تكون بترك الواجب.
ونحن علينا لله- عز وجل واجبات يومية، وأسبوعية، وواجبات شهرية، وواجبات حولية، بل وعمريه. علينا واجبات يومية لله- عز وجل وأهم ما علينا من الواجبات اليومية الصلاة
التي قال الله عنها: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً)(2)
(1) سورة آل عمران، الآية:
(2)
سورة النساء، الآية:103.
كتابًا بمعنى: فرضاً. وموقوتاً: بمعنى ذا وقت.
وهنا مسألة لو أن الصلاة أتت والإنسان في الجو في تدريب عسكري، ولا يتمكن الآن من النزول فماذا يصنع هل يصلى وهو في الجو! أو ينتظر حتى ينزل، أو يفصل بين أن يتمكن من الصلاة قبل
خروج الوقت وبعده؟ أقول: إذا كان الإنسان لا يتمكن من النزول قبل خروج الوقت، فإنه إذا كان يمكنه أن يصلى في الطائرة صلاة تامة صلى ولا بأس، وإذا كان لا يمكنه فإن كان في صلاة يمكن أن يجمعها إلى ما بعدها ثم يصليها بعد النزول فإنه يؤخرها ليجمعها لما بعدها، مثل لو جاء هذا التمرين في وقت صلاة الظهر، ولا يتمكن من النزول إلا بعد دخول وقت العصر، ولا يتمكن من أداء الصلاة تامة في الطائرة فإنه يؤخر صلاة الظهر إلى صلاة العصر جمعًا؛ لأن الجمع جائز إذا لحق بتركه مشقة قال ابن عباس- رضي الله عنهما "جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر". قالوا: ما أراد؟ قال: "أراد أن لا يحرج أمته ". (1) أي: أن لا يلحقها الحرج.
(1) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع في الصلاتين في الحضر، برقم (750) ، وأصله في البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب تأخير الظهر إلى العصر، برقم (543)، دون قوله: أراد أن لا يحرج أمته.
أما إذا كانت الصلاة لا تجمع إلى ما بعدها كما لو كانت صلاة العصر، أو صلاة العشاء، أو صلاة الفجر، فإنه لا يؤخرها عن الوقت بل يصليها على حسب حاله ويأتي بما يقدر عليه من أركانها
وواجباتها وشروطها لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم)(1) وقوله في نفس الصلاة: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)(2) أيها الأخوة: إنني أدعوكم إلى إخلاص النية، وإصلاح العمل بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة، وليست الحكمة أن تسكتوا عن المنكر، أو تتغاضوا عن الواجب، ولكن الحكمة أن تآلفوا على دين الله ولا تتفرقوا فيه، وإياكم أن تأخذكم العزة بالإثم، أو الغيرة التي تدفعكم إلى العنف والشدة فإن ذلك لا يجدي شيئا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف "(3) .
هذه وصية أرجو أن تكون نصب أعينكم فإنه لا يخلو مجتمع كبير من أن يكون فيه شيء لا يرضى به بعض عن بعض، ولكن لابد أن
(1) سورة التغابن، الآية:16.
(2)
سورة البقرة، الآية:239.
(3)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، برقم (2593) .
نحل هذه الأمور بالتآلف والتآخي، وأن نشعر أننا شيء واحد فيما يواجهنا.
وإنني أشكر الله أننا في هذه البلاد ولله الحمد لم نسلك ما سلكه غيرنا من إلزام الطلبة ومن فوق الطلبة بما حرم الله- عز وجل عليهم فإن من الناس السفهاء في غير هذه البلاد من لا يرضون أن
ينتسب جندي أو عسكري إلى الجندية أو العسكرية حتى يفعل ما حَرَّمَ الله عليه وحتى يفعل ما هو معصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إننا سمعنا أن بعضهم يلزمهم بان يحلقوا لحاهم؛ أي أن هذا المسكين ألزمهم بمعصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أدرى عن هذا المسكين السفيه هل هو يريد أن ينتصر بأسم الإسلام وهو يأمر بمعصية رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم؟! أين الانتصار؟! كيف ننتصر على عدونا ونحن لم ننتصر على أنفسنا؟!
ولهذا لو أن أحدًا أمر شخصا بمثل هذا الأمر أو غيره من معصية الله فإن بإمكان المأمور بل يجب عليه أن يقول: لا سمعا ولا طاعة لأن الله- عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(1) .
تأمل: هذه ثلاثة أوامر: أمر الله، وأمر الرسول، وأمر أولي الأمر.
(1) سورة النساء، الآية:59.
ولكن هناك فرق بين طاعة أمر الرسول وأمر أولي الأمر، فطاعة الرسول كرر فيها فعل الأمر (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) إذن فطاعة الله مستقلة، وطاعة الرسول مستقلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما يخالف أمر الله.
أما طاعة أولي الأمر فإن الله تعالى جعلها تبعًا فقال (وَأُولِي الْأَمْرِ) ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، فمن ثم كانت طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله ورسوله، لأنهم ربما يأمرون بما يخالف أمر الله ورسوله،
فإن أمروا بما فيه مخالفة أمر الله ورسوله فإنهم لا يستحقون أن يطاع أمرهم؛ لأن الله تعالى جعل أمرهم تبعًا لأمر الله ورسوله، ولهذا لما بعث النبي عليه والصلاة والسلام رجلاً على سرية وأمرهم بطاعته فصار في نفسه شيء عليهم، فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا فيه النار وأن يلقوا أنفسهم في النار، ولكن بعضهم قال لبعض: كيف نلقي أنفسنا في النار ونحن لم نؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم إلا خوفًا منها؟
وامتنعوا، فلما قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر قال:"لو دخلوها ما خرجوا منها، إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف"(1) ولكن إذا أمرك من هو فوقك بأمر خلاف أمر الله ورسوله فهل من الحكمة أن تقول
(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب سرية عبد الله بن حذافة، برقم (4340) ، ومسلم، كتاب للإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم (1840) .
أمام الناس لا سمعًا ولا طاعة؟ أو من الحكمة أن تنتظر ولا تنفذ المعصية؟
ولكن تقول لهذا الذي فوقك فيما بعد إن هذا أمر مخالف لأمر الله ورسوله، لأنه قد يكون الآمر جاهلاً بأن ذلك مخالف لأمر الله ورسوله، أو يكون الآمر متأولاً لأمر الله ورسوله، فإن كان جاهلاً
فإنه يزول بالتعليم بإبلاغه حكم الله ورسوله، وإن كان متأولاً فإن داءه يزول بالمناقشة، لأن المتأول لنص من نصوص الشرع إذا كان تأويله خطأ فإنه يداوى بالمناقشة معه في هذا النص الذي أوله،
وحينئذ يكون من الحكمة ألا يقوم المأمور أمام من فوقه وأمام الناس فيقول: لا سمعًا ولا طاعة. إني أرى- وأستغفر الله إن كنت أخطأت- أن الأولى أن يسكت ولا ينفذ المعصية، ثم بعد ذلك
يتفاهم مع هذا الذي أمر، أما أن ينفذ شيئا يعتقد أنه معصية لله ورسوله فإن هذا لا يجوز، لأن هذا من تقديم أمر المخلوق على أمر الخالق، وأنت يوم القيامة، بل قبل يوم القيامة سوف تنفرد بعملك
ولا ينفعك الآمر ولا الترقية، ولا يضرك إذا خالفت الأمر في طاعة الله وحصل لك بعض العقوبات.
أيها الأخوة: إن علينا جميعًا أن نعتمد على الله وأن نأخذ بأسباب النصر ومنها:
أولاً: إخلاص النية لله بأن ننوي بجهادنا إعلاء كلمة الله، وتثبيت شريعته، وتحكيم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أن نلتزم بالصبر والتقوى، فإن الله مع الصابرين، وإن الله مع المتقين.
علينا أن نصبر على الجهاد وأن نتقي الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإن مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أسباب الخذلان، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم- خالف بعضهم في أمر واحد من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد فكانت الهزيمة عليهم بعد أن كان النصر لهم في أول الأمر، ولكن بعد ذلك تداركهم عفو الله فعفا الله عنهم.
ثالثًا: أن نعرف قدر أنفسنا وألا حول لنا ولا قوة إلا بالله فلا يأخذنا العجب بقوتنا وكثرتنا، فإن الإعجاب بالنفس والاعتزاز بها من دون الله سبب للخذلان، ولقد أعجب الصحابة رضي الله
عنهم، بكثرتهم يوم حُنين، فلم تغنِ عنهم شيئًا، ثم ولوا مدبرين، ولكن الله أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا من الملائكة فكانت العاقبة للمؤمنين.
رابعًا: أن نعد العدة للأعداء مستعملين في كل وقت وحال ما يناسب من الأسلحة والقوة؛ لنرد على سلاح العدو بالمثل، فإذا
تحققت هذه الأمور الأربعة فإن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(1) ، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (2)
وكما أن للنصر أسباباً فكذلك للهزيمة أسباب منها:
أولاً: أن يكون الإنسان مسرفًا على نفسه، مقصرًا في حق ربه، مرتكبا لما حرمه الله عليه، تاركا لما أوجب الله، فتكون الهزيمة تأديبًا له وتكفيرًا لسيئاته.
ثانيًا: الإعجاب بالنفس والقوة، وكثرة العدد والعدة.
ثالثًا: التفرق واختلاف الكلمة قال الله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(3) .
وقد بين الله في كتابه هذه الأسباب الثلاثة للهزيمة ليحذر الناس منها، ففي غزوة أحد حصل من بعض المسلمين مخالفة فيما أمروا أن يكونوا فيه، وتنازع واختلاف فحصلت الهزيمة قال الله تعالى: (وَمَا
(1) سورة محمد، الآية:7.
(2)
سورة الحج، الآيتان: 40-41.
(3)
سورة الأنفال، الآية:46.
أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) (1) وذكر لذلك حكمًا عظيمة.
وفى حنين أعجب المسلمون بكثرتهم وكانوا اثني عشر ألفا فقال بعضهم: لن نغلب اليوم عن قلة (2) فقال الله تعالى مخبرا عن ذلك: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (3) .
والحكمة في ذلك: أن يعلم العباد أن النصر من عند الله تعالى، وأن الأسباب ليست وحدها هي الكافية في الانتصار ودحر الأعداء، خصوصًا إذا افتخر العبد بها، ونسي أن الأمور كلها بإذن
الله، وأن العبد إذا وكل إلى قوته وكل إلى ضعف وعجز وعورة، فإذا كانت هذه الأمور الثلاثة:
التفريط في حق الله.
والإعجاب بالنفس.
(1) سورة آل عمران، الآية:166.
(2)
رواه أحمد برقم (2583) .
(3)
سورة التوبة، الآيات: 25-27.
والتنازع والاختلاف من أسباب الهزيمة فإن الجنود المخلصين لابد أن يتأملوا الأسباب، ومن أين حصلت هزيمتهم؟ ثم يسعوا في القضاء على الداء فتكون النتيجة خيرًا، قال تعالى:(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(1)
أيها الأخوة: يقول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) . (2) فأَمَرَ الله تعالى أن نعد لأعداء الله ما استطعنا من قوة.
وكلمة (قوة) : نكرة كما هو ظاهر، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم المراد بها فقال:"ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي". (3) وقال صلى الله عليه وسلم "ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا". (4) أمر الله تعالى أن نعد ما استطعنا من القوة، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي ثم قال: (وَمِن
(1) سورة البقرة، الآية:216.
(2)
سورة الأنفال، الآية:60.
(3)
رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، برقم (1917) .
(4)
رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الرمي، برقم (2513) ، والنسائي، كتاب الخيل، باب تأديب الرجل فرسه، برقم (3578) وأحمد 532، 28 (17300) .
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) . (1) الذين لا نعلمهم ويعلمهم الله، قيل: إن المراد بهم من هو بعيد عن مشاهد المؤمنين في ذلك اليوم أي بعيد في مكانه.
وقيل: المراد بهم المنافقون قال الله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)(2) ، لأن المنافقين إذا رأوا عزة الإسلام فنهم سوف يرهبون ويخافون، ولهذا لم يحصل النفاق في الأمة إلا بعد غزوة بدر حين أعز الله المسلمين وأذلَّ المشركين، فالمراد بمن دونهم إما أنهم أناس لم يبلغهم قتال المؤمنين ولم يعلموا بهم، وإما أنهم المنافقون.
أيها الأخوة: إن المسلمين لم يخذلوا ويدعوا الجهاد إلا بسبب ركونهم إلى الدنيا وترفهم وعدم مبالاتهم، وإني لأحمى الروح الطيبة التي كانت من بعض الشباب فيما يتعلق بأفغانستان، فإن من
الشباب من لديه الجرأة والإِقدام العظيم، حتى إن بعضهم يقول أنا أريد أن تفتيني بأن الجهاد فرض عين حتى لا تحرمني الشهادة في سبيل الله، هذا وهو شاب في مقتبل العمر ومقتبل الشباب، وهذا
يدل على نية صادقة، وإني أبشر كل من تمنى أن يقتل شهيدًا في سبيل
(1) سورة الأنفال، الآية:60.
(2)
سورة التوبة، الآية:101.
الله، ولكن لم يمنعه إلا مانع شرعي، أبشره بأنه يكتب له أجر الغازي في سبيل الله وإن مات على فراشه.
أيها الأخوة: لقد ألهم الله حكومتنا في هذه الأيام- وفقها الله تعالى- أن تفتح مكاتب للدفاع الوطني في كل بلد، وهذه أيها الأخوة فرصة أتيحت لكم وستكون بحول الله تعالى فاتحة خير لما بعدها، فيا أيها الشباب انتهزوا هذه الفرصة، انفعوا أنفسكم، انفعوا أمتكم، فأنتم أهل العزيمة، أنتم أهل الإقدام. مرنوا أنفسكم ما دمتم في طور التعلم والتمرن. لا تكونوا جاهلين بأبسط أنواع الدفاع، ترضون لأنفسكم بالتأخر، وأنتم الشباب الذين خلقكم الله وأنشأكم في هذا العصر؛ لتقوموا بما تتطلبه أمور هذا العصر من أساليب الدفاع عن دينكم وأمتكم، وإني لأرجو الله تعالى أن ترى
أمتكم منكم ما تقرُّ بهِ عينها وينشرح له صدرها، وأن يكون هذا عاما ليتكون من هذه البلاد شبابها وكهولها أمة حاملة للسلاح، تقوى على الدفاع عن دينها وحماية أوطانها.
كما نسأل الله تعالى أن يوفق المواطنين للتسارع والتنافس في هذا الميدان النافع، وأن يلهبوا شعور الأمة للتسابق إليه امتثالاً لأمر الله تعالى، وتمشيًا مع رغبة ولاة الأمور، ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويوفق ولاة أمورنا للقيام بما أوجب الله عليهم من
رعاية من ولاهم الله عليهم، رعاية تامة يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويوجهونهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يجعلنا جميعًا من المجاهدين في سبيله الناصرين لدينه، إنه جواد كريم،
كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا المجاهدين في كل مكان والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أحداث حرب الخليج (1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على محاجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: فإننا نتحدث إليكم هذه الليلة حديث الصراحة، حديث الود، حديث الإيمان بأنكم على ثقة تامة مما أخبر الله به ورسوله فيما يكون من أسباب المصائب وأسباب الحوادث
المزعجة المذهلة في أسبابها ومجرياتها ونتائجها.
أيها الأخوة المؤمنون: إنني أعلم أنه قد سبقني إلى التحدث إليكم إخوة لنا مخلصون، بيَّنوا أكثر مما نبيّن، ولا نستطيع أن نتكلم بمثل ما تكلموا به لما أعطاهم الله- عز وجل من البيان والفصاحة، ولكن
(1) محاضرة لفضيلة شيخنا- رحمه الله في جامع الراجحي بمدينة الرياض في 20/2/1411 هـ.
نظراً لكثرة الذين يأتون إليَّ في عنيزة من أهل الرياض ومن غيرهم رأيت أنه لا بد أن أحظى بمقابلتكم في هذه الليلة التي يتم بها أربعون يوماً من هذا الحادث المؤلم الذي أصيب به المسلمون لا في الشرق الأوسط فحسب ولكن في جميع أقطار الدنيا؛ لأن هذا الحادث المؤلم لا شك أنه يسيء لسمعة المسلمين، إذ أن الأمم إذا رأت أن الأمة الإسلامية كالوحوش يأكل بعضها بعضاً ويعتدي بعضها على بعض على هذا النحو فإنها سوف تقول: لو كان إسلامها صحيحاً لم يصل بهم إلى هذا الحد.
ولا يعلم كثير من الناس أن الإسلام شيء والمسلمين شيء آخر، فالإسلام نزل من عند الله- عز وجل من عند حكيم خبير حرَّم الله فيه الظلم وحرم فيه العدوان، وحرم فيه الكذب، وحرم فيه
الغش، وحرم فيه جميع مساوئ الأخلاق، وأمر بالعدل والإحسان، والخير والفضل حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كل معروف صدقة"(1) .
إن هذا الحادث المؤلم يسيء أيضاً إلى سمعة العرب بالذات، لأن العرب كما تعلمون قد سُلطت عليهم الشرر، ولا أقول الأضواء من كل جانب حتى عدهم بعض الناس قراصنة هذا الزمن المخربين
الذين يدمرون ما يصلح الناس، فإذا وقع هذا من أمة عربية فإنه لا
(1) رواه البخاري/كتاب الأدب/باب كل معروف صدقة برقم (5562) .
شك أنه سيعلي من شأن اليهود الذين احتلوا بعضاً من البلاد الإسلامية، سوف يكون ذلك رفعة لهم وتصديقاً لما يدَّعونه في العرب، ولهذا تعتبر هذه الكارثة أشد إساءة إلى العرب منذ قامت
الدعوة إلى القومية العربية، وإن كنَّا لا نؤيد هذه الدعوى ونرى أنها دعوى جاهلية، وأن الواجب أن تكون الدعوة دعوة إسلام تلتف الأمة الإسلامية بعضها إلى بعض من عرب وغير عرب في جميع
أقطار الدنيا، لكنا نقول: إن هؤلاء الذين ينادون بالعروبة وبالقومية وما أشبه ذلك هم الذين أساءوا إليها بهذا الفعل الذي وقع منهم، وهم الذين صدَّقوا ما تدعيه اليهود من أن العرب قوم قراصنة
معتدون، قوم مخربون، قوم ظالمون إلى غير ذلك من ألقاب السوء التي يلقبون بها العرب.
إن هذه الكارثة أيها الأخوة: سوف تؤخر العرب اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً عشرات السنين إلى مدى لا يعلمه إلا الله؛ لأنها دمرت وستدمر كثيراً مما صنعه العرب، وتعبوا عليه مدة طويلة، إن
هذه الكارثة لا شك أنها بلبلت أفكار الناس وشغلتهم عن دينهم حتى أصبح المصلي يصلي وهو يفكر، وأصبح العابد يعبد الله وهو يفكر، وشغلت كثيراً من الناس عن أمور مهمة؛ لأنها ذات شأن
عظيم كبير، لذلك لا يعلم مدى ضررها ونتائجها إلا الله- عز وجل-
وكلنا يعلم أنها مؤلمة وأنها عظيمة على النفوس وأنها فتنة كبرى.
ولكن لا بد أن نبين هنا بصراحة الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى:
ما جرى علينا في هذه الأيام وفي خلال الأربعين يوماً إنما هو بقضاء الله وقدره، ولا شك أن ذلك صادر عن علم الله- عز وجل وعن مشيئة الله وعن حكمة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه:(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (1) . إذا كان هذا بقضاء الله وقدره المكتوب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين
ألف سنة، والذي الإيمان به أحد أركان الإيمان الستة فإنه يجب علينا أن نعلم علم اليقين أن ما جرى هو بقضاء الله وقدره وما الله بغافل عما تعملون، وإذا علمنا أنه بقضاء الله وقدره فلنفكر في أسباب هذا القضاء والقدر، لأن الله سبحانه وتعالى لا ينسب الشر إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الخير كله في يديك والشر ليس إليك"(2) والله- عز وجل لا يظلم أحداً من خلقه فلنفكر ما هي أسباب هذه المصيبة
(1) سورة الحديد، الآيتان: 22، 23.
(2)
رواه مسلم/كتاب صلاة المسافرين/باب الدعاء في صلاة الليل (1290) .
العظيمة، ولنرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ حتى نعرف السبب ونعرف بعد ذلك الدواء، لأنه لا يمكن التداوي بدواء حتى يُعرف الداء ونستطيع أن نشخصه ثم نحاول الدواء الناجح الذي نتخلص به من هذا الداء، يجب أن نعلم أن لهذه المصيبة سببين:
السبب الأول: شرعي.
والسبب الثاني: كوني قدري.
فالكوني القدري هو الشيء المحسوس مما نسمع وما ينشر في الإذاعات أو في الصحف الداخلية والخارجية كاختلاف على حدود، أو اختلاف في ديون، أو اختلاف في أشياء أخرى يضرب بها من هنا وهناك، ويكتب بها في الصحف، قد تكون صحيحة، وقد تكون غير صحيحة، لكن الذي حمل هذه الأسباب على أن تقع مقتضياتها هو السبب الشرعي، والسبب الشرعي لهذه المصائب وهو الذي يجب علينا أن نبحث عنه للتخلص منه.
فالسبب الشرعي: بيَّنه الله تعالى في كتابه غاية البيان، فقال جل وعلا:(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)(1) . وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(2) . وقال تبارك
(1) سورة الشورى، الآية:35.
(2)
سورة الروم، الآية:41.
وتعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (1) . والآيات كثيرة تبين أن ما أصابنا من المصائب فهو من عند أنفسنا، وانظروا خطاب الله- عز وجل لصدر هذه الأمة وخير القرون من هذه الأمة وغيرها حيث يقول عز
وجل: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا)(2) .
كيف نصاب بهذه المصيبة؟
الجواب: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) .
فالأنفس هي السبب في هذه المصائب، وما هو أعظم منها وأكبر، قال الله عز وجل:(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً)(3) . فلننظر ما هو السبب الذي كان به هذه الكوارث، فنقول: ضعف الإيمان في نفوس كثير من الناس حتى أصبح منهم من يشك في الأمور اليقينيات التي بينها الله في
(1) سورة الأعراف، الآيات: 96-99.
(2)
سورة آل عمران، الآية:156.
(3)
سورة النحل، الآية:61.
كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها المسلمون، وصار منهم من يشك هل هناك بعث، وهل هناك قيامة، وهل هناك جزاء، أو أنها أرحام تدفع وأرض تبلع، منا من يعتقد هذا الاعتقاد ويرى أنه يجب أن نتناسى الماضي وكأنه لم يكن، ولنبعث الأمة من جديد حتى نكون موافقين لما يتطلبه العصر، وهؤلاء قد تناسوا ما جاءت به الكتب السماوية، ولهذا أجمعت الكتب السماوية التوراة والإنجيل والقرآن على أن البعث حاصل وأن الناس سيبعثون ويجزون على أعمالهم، لكن منَّا من هو بيننا ويقول: إنه مسلم، ولكنه ينكر الإيمان، ينكر اليوم الآخر ولا
يؤمن به، أليست هذه مصيبة توجب مصائب كثيرة؟!
في المجتمع من لا يصلي إطلاقاً لا في البيت ولا في المسجد، ولا يأمر أهله بالصلاة، بل يسخر من المصلين ويستهزئ بهم، ويقول: إلى متى هذه العقلية القديمة؟ إلى متى نرجع إلى الوراء؟ العصر عصر
تقدم! والحقيقة أن كل شيء يخالف الإسلام فهو تأخر، () وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (1) . (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)(2) .
هؤلاء هم أهل السبق، هم أهل التقدم، هم أهل السعادة
(1) سورة الواقعة، الآيتان: 10، 11.
(2)
سورة التوبة، الآية:100.
والفلاح في الدنيا والآخرة، أما من خرج عن سبيلهم فهو في تأخر إلا أن يراد بالتقدم أنه كما قال الله تعالى في فرعون:(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)(1) .
في المجتمع من لا يزكي ويرى أن الزكاة غرم وخسارة وضريبة، ومع ذلك حرم أن يدفع الزكاة الواجبة التي هي من أركان الإسلام، ثم يتلف ماله في أمر لا خير فيه. انظر للحرمان- والعياذ بالله-.
وفي المجتمع من لا يحج، ومن لا يصوم، ومن يشرب الخمر، ومن يزني، ومن يسرق إلى غير ذلك من الأشياء الكثيرة التي فشت في المجتمع الإسلامي، مع أن الإسلام يحارب هذه الأشياء، ولقد مضى
على ذلك زمن كثير والناس في غفلة، لكنا نرجو أن يوقظنا الله تعالى بهذه المصيبة، وأن نرجع إلى الله عز وجل، وأن نفكر في أنفسنا، وأن نحاسب أنفسنا، ما الذي حصل حتى يتحقق قول الله عز وجل:
(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا)(2) . ليس كل الذي عملوا، بل قال سبحانه:(بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إذن السبب الشرعي لوقوع هذه المصيبة، وما هو أعظم منها هو: إعراض الناس عن دين الله، وانتهاكهم لمحارم الله، وتفريطهم في طاعة الله، والتماس
(1) سورة هود، الآية:98.
(2)
سورة الروم، الآية:41.
حكامهم الحكم بين عباد الله بغير شريعة الله، فيأخذون الحكم من قوانين البشر الوضعية المختلة التي لا يمكن أن يصلح الخلق إلا ما وافق الحق، وما وافق الحق فالواجب أن نأخذه من معدنه من كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا رجعنا إلى الله وأصلحنا ما فسد وقمنا بما يجب فإن الله تعالى سوف يرفع عنا هذه الغمة وهذه المصيبة وهذه النكبة. نسأل الله تعالى أن يرفعها عنا وأن يعفو عنا جميعاً، إن الواجب- أيها الأخوة- علينا أن نتوب إلى الله توبة حقيقية، توبة نصوحاً بالقيام بطاعة الله، واجتناب معاصي الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نساند الدعاة إلى الله بقدر ما نستطيع، وإذا لم يكن لدينا قدرة على الدعوة إلى الله فلنكن سنداً إلى الداعين إلى الله،
إذا لم يكن لدينا قدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلنكن مساندين للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حتى يستقيم الدين وحتى لا يتفرق الناس، لأن الناس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفرقوا بلا شك، قال الله تعالا:(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1) .
(1) سورة آل عمران، الآيتان، الآية: 104، 105.
إذن الحقيقة الأولى: أن هذه المصيبة جرت بقضاء الله وقدره وكل ما كان بقضاء الله وقدره، فإنه لحكمة بالغة قد نعلمها وقد لا نعلمها؛ لأن الله حكيم لو شاء الله ما اقتتلوا، لو شاء الله ما فعلوها، لكنه شاء أن يكون لحكمة بالغة.
الحقيقة الثانية: أن هذه المصيبة بالذات لها سببان:
سبب كوني قدري وهو السبب المحسوس الذي ادعي أن هذه المصيبة بنيت عليه.
والسبب الثاني: شرعي وهو ذنوب العباد وانحرافهم عن الله عز وجل، فما هو دواء السبب الأول؟
دواء السبب الأول: يرجع إلى المسؤولين عن هذه المسألة ولا نملك فيه شيئاً.
والسبب الثاني: هو الذي بمقدور كل واحد منا، وهو الرجوع إلى الله بالتوبة وإصلاح العمل حتى يجلي الله عنا هذه الغمة.
الحقيقة الثالثة: أن الواجب علينا إزاء هذا الحدث العظيم أن تجتمع الكلمة وألا نتفرق، وأن يكون هدفنا وغايتنا نصر شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ونصر كل من يكون إليها أقرب من البشر، ننصر الشريعة بقدر ما نستطيع، وننصر أقرب من يكون إليها من البشر؛ لأننا إذا فعلنا ذلك فإن النصر حليفنا؛ لأن الله تعالى يقول: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (1) . ويقول عز وجل: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(2) .
فالنصر حليفنا إذا كنا ننصر شريعة الله، وننصر من يكون أقوم بشريعة الله؛ لأن هذا هو الواجب فلنكن أمة واحدة بدون تفرق، واعلموا أيها الأخوة: إن الفتن التي حصلت في صدر هذه الأمة وحصل منها ما حصل من تفرق الأمة وتشتت كلمتهم إنما نزلت بمثل هذه الأمور باختلاف الرأي عن غير علم ونظر في النتائج والعواقب.
أقول: لا تأخذك العاطفة، فالعاطفة إن لم تكن مبنية على العقل والشرع صارت عاصفة، تعصف بك وتطيح بك في الهاوية، اجعل سيرك في القلب، وفي اللسان، وفي الجوارح، مبنيا على العقل مستمدا
من الشرع، فإن كون الإنسان يندفع بدون تروي ونظر في العواقب وميزان بين الأمور، أنا لا أقول أن كل ما حصل على صواب، ولكني أقول حنانيك، بعض الشر أهون من بعض، لينظر الإنسان في النتيجة والعاقبة قبل أن يحكم بان هذا خطأ أو هذا صواب، قبل أن يحكم بأنه يجب أن يكون كذا أو لا يكون كذا، حتى يكون على بينة من
(1) سورة الحج، الآيتان: 40، 41.
(2)
سورة الروم، الآية:47.
أمره، حتى يبرئ ذمته أمام الله عز وجل، وحتى لا يجعل الناس في بلبلة، كل واحد يتهم الآخر، وكل واحد يتكلم في الآخر، فانظر للعواقب والنتائج ثم احكم فإن العاقبة للمتقين، كما قال الله عز
وجل: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(1) . حتى لو كان في نفسك شيء من الأشياء فلا تبديه لغيرك حتى تعلم أن في إبدائه خيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل
خيراً أو ليصمت (2) .
وانظر ماذا يترتب على كلمتك من خير أو شر، فإن ترتب عليها خير فافعل وقل وصرِّح ولا تخش في الله لومة لائم، وإن لم يترتب عليها الخير فاسكت، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً
أو ليصمت.
وانتبه يا أخي فلتقل خيراً إذا كان الشيء خيراً في نفسه كالذكر مثلاً، أو خيراً فيما يؤدي إليه كالكلام أمام الناس؛ لأن الناس ولاسيما في هذه الظروف ربما يسمعون الكلمة فيؤولونها تأويلات
حسب مفهومهم، وحسب أمزجتهم فيحصل بذلك شر كثير من
(1) سورة هود، الآية:49.
(2)
رواه البخاري/كتاب الرقاق/باب حفظ اللسان (5994) .
جراء كلمة، وانظر إلى أحكم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال لعائشة رضي الله عنها: "لولا أن قومك حديث عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه (1) ، لكنه صلى الله عليه وسلم ترك بناء الكعبة مع أنه خير خوفاً من الفتنة، خوفاً مما يترتب عليه لو أنه فعل.
نرتقي إلى أعظم من ذلك، فمثلاً لو قام رجل يسب آلهة المشركين ويقدح فيها، وسب آلهة المشركين خير لا شك، لكن إن كان سب آلهة المشركين يؤدي إلى سب الله عز وجل صار شراً، فهو خير لكن لما كان يؤدي إلى شر مُنع، قال الله تعالى:(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(2) . إذن: فالميزان أنه لا بد أن ينظر الإنسان بين المصالح والمفاسد قد يكون الشيء مصلحة في ذاته لكن يكون مفسدة في غيره، وحينئذٍ يجب علينا الكف ونجعل للكلام
وقتاً آخر يكون الكلام فيه مثمراً، ويكون الكلام فيه خيراً.
هذه هي الحقيقة الثالثة التي يجب علينا أن نعقلها وأن نكون أمة واحدة ملتفين حول الحق أينما كان، وعلينا أيضاً في إطار هذه الحقيقة أن نتبصر وأن نقارن بين المصالح والمفاسد، وأن نقارن بين البدايات
(1) رواه البخاري/كتاب العلم/باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم البعض (123) .
(2)
سورة الأنعام، الآية:108.
والنهايات، لاسيما في مثل هذه الحوادث المؤلمة الخطيرة.
الحقيقة الرابعة: أن كثيراً من الناس لما طلبت القوات الأجنبية إلى هذه البلد اعتمدوا عليها واتكلوا عليها وعلقوا آمالهم ورجاءهم بها وهذا لا شك أنه مخل بالعقيدة، ومخل بالإيمان، وأن الاعتماد عليها سبب للخذلان، يقول موسى عليه السلام لقومه:(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(1) . وكذلك قال الله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(2) .
ففي هذه الآية تقدم المعمول في قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ) على عامله، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر والاختصاص، فلا يجوز أن نعتمد على أحد غير الله أبداً، وأن نعلق رجاءنا بغير الله، وأن نعلم أن الأسباب إنما هي أسباب محضة ليس لها في تغيير الأمر الواقع شيء إلا بأمر الله عز وجل.
وأنا أضرب أمثلة في أن الأسباب أسباب محضة وأن المسبب هو الله عز وجل.
المثال الأول: النار محرقة لا شك، لكن في يوم من الأيام جعلها الله غير محرقة لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، قال الله تعالى:(كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(3) . انتفت الحرارة وانتفى الإحراق فسلم ولم
(1) سورة المائدة، الآية:23.
(2)
سورة آل عمران، الآية:122.
(3)
سورة الأنبياء، الآية:69.
ولم يحترق، ولم تصبه حرارة النار، بل كانت برداً، حتى إن بعض العلماء ذكر أن الله عز وجل لو قال: برداً على إبراهيم، ولم يقل:(سلاماً) لأهلكته ببردها، لكن الله عز وجل قال:(كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) وهذا السبب المحرق الذي يعلم الجميع أنه محرق صار غير محرق، إذن فهل الأسباب مؤثرة بذاتها، أم بما أودع الله فيها من القوى؟
والجواب: أن نقول: الثاني بلا شك.
فما بال البعض يعتمد على غير الله، وعلى هذا لا يجوز الاعتماد على غير الله عز وجل؛ إلا باعتقاد أنه سبب فقط، قد يتخلف مسببه؛ لأن السبب قد يوجد فيه مانع.
المثال الثاني: ما وقع في جيش النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم جيش وأفضل جيش وأحق جيش بالنصر، ولكن لما اعتمدوا على كثرتهم وقع الخذلان، قال الله تعالى:(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(1) .
وكان عدد جيش النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين اثني عشر ألفاً، وكان عدوهم ثلاثة آلاف وخمس مئة. ولهذا قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم:"لن نغلب اليوم من قلة"(2) .
(1) سورة التوبة، الآية:25.
(2)
رواه أحمد برقم (2583) .
فهذا الجيش الذي قائده أعظم قائد وهو رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وجيشه أعظم جيش، وأحق جيش بالنصر، ومع ذلك لما أعجبتهم كثرتهم لم ينصروا حتى تداركهم الله- عز
وجل- بعفوه وأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين.
المثال الثالث: ما وقع لنبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام حينما قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل امرأة غلاماً يقاتل في سبيل الله. فقيل له: قل: (إن شاء الله) فلم يقل: (إن شاء الله) لأنه عليه الصلاة والسلام عازم على هذا الفعل، فطاف على تسعين امرأة ولم يلد منهن إلا امرأة واحدة ولدت نصف إنسان.
قال نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته وقاتلوا في سبيل الله"(1) .
فالإنسان يجب عليه أن لا يعتمد في جميع أموره إلا على الله وحده، لهذا من اعتمد على قوته فقط فإنه سبب لخذلانه. فالواجب ألا نعلق رجاءنا بمخلوق، بل يجب ألا نعلق الرجاء إلا بالله وحده لا
شريك له، قال سبحانه:(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(2) . وما أهون الخلق على الله عز وجل إن هم عصوه.
(1) رواه البخاري/كتاب الأيمان/باب الاستثناء في الأيمان (6225) .
(2)
سورة الأنعام، الآية:18.
ولنتأمل فيما يقع من الزلازل وما تدمره من بلدان كثيرة في لحظة واحدة، فلا أحد فوق الله عز وجل، فالله فوق كل شيء، قال سبحانه:(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)(1) . فالواجب على مَن سمع منْ يعتمد على القوى البشرية فقط، أن يُبيِّن له أن فعله حرام، وأنه خلل في عقيدة التوكل على الله عز وجل.
فالقوى البشرية ما هي إلا سبب قد يؤدي مفعوله وقد لا يؤدي، فلا يجوز الاعتماد إلا على الله عز وجل وحده؟ حتى يتحقق النصر بإذن الله عز وجل.
أسأل الله- عز وجل أن يفرِّج عن بلاد المسلمين الغمة، وأن يجعلنا ممن يتعظون بالمواعظ، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهَّاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) سورة التوبة، الآية:111.
الحكم المستفادة من أحداث حرب الخليج بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
إننا نحمد الله سبحانه وتعالى أن منَّ علينا بالبقاء حتى أدركنا هذا الشهر المبارك (1) .
ونسأل الله أن يجعل بقاءنا في هذا الدنيا على زيادة عمل صالح.
إن علينا- أيها الأخوة- أن نتفكر وأن نتذكر من كانوا معنا في مثل هذا المكان وفي غيره في العام الماضي، من أقارب لنا، وأصحاب وزملاء، كيف غادروا الدنيا وارتحلوا عنها إلى دار الجزاء، ارتحلوا
عنها كما وصفهم تعالى الله في قوله: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)(2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع ماله وأهله، ويبقى عمله"(3) . ينتقل الإنسان من الدنيا، وما من
(1) درس ألقاه فضيلة شيخنا- رحمه الله بعد انتهاء غزو العراق لدولة الكويت وذلك بالمسجد الحرام في 21/9/1411هـ.
(2)
سورة الأنعام الآية: 94.
(3)
رواه البخاري/كتاب الرقائق/باب سكرات الموت (2960) .
ميت يموت إلا ندم، إن كان محسناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون استعتب. ينتقل من الدنيا وهو يقول بلسان الحال أو المقال ما ذكره الله تعالى في قوله:(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (1) قال الله تعالى: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(2) ينتقل الإنسان من الدنيا إلى الآخرة وكأنه لم يبق في الدنيا إلا ساعة واحدة مهما طالت به الدنيا قال الله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)(3)(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)(4) .
واعتبر أيها الأخ ما سيأتي بما مضى، كل ما خلَّفت من الزمن فإنه كأنه لحظة واحدة، كأنك لم تعش في الدنيا إلا هذه اللحظة التي أنت عائش فيها الآن، وهكذا إذا حضر الموت فكأنك لم تعش إلا تلك
اللحظة التي أتاك فيها الموت، فالإنسان العاقل البصير ينتهز الفرصة في عمره، ولاسيما في مواسم الخيرات مثل: شهر رمضان، وعشر ذي الحجة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن
(1) سورة المؤمنون الآية: 99.
(2)
سورة المؤمنون الآية: 100.
(3)
سورة النازعات الآية: 46.
(4)
سورة الأحقاف الآية: 35.
أحب إلى الله من هذه الأيام العشر" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (1) .
إن الإنسان العاقل ينتهز هذه الفرص بالأعمال الصالحة المقربة إلى الله- عز وجل واجتناب ما حرم الله ونهى عنه.
ونحن الآن في أول ليلة من ليالي العشر الأخيرة من رمضان التي فيها ليلة القدر التي قال الله عنها: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) . قال النبي صلى الله عليه وسلم في قيامها: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه "(2) .
إن الواجب على المؤمن أن يقدر أنفاس عمره، وأن يعرف أن كل نفس تنفسه لن يعود إليه مرة أخرى، وأن كل يوم مضى من حياته لن يعود إليه مرة أخرى، وأن كل لحظة، وكل ساعة، وكل يوم، وكل شهر يقربه من الآخرة، ويبعده من الدنيا، لذلك يجب أن نستقبل هذه العشر الأخيرة بالعزيمة الصادقة، والجد والاجتهاد، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا دخل العشر "شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله"(3) وأنتم والحمد لله في هذا المكان في المسجد الحرام تحيون أكثر
(1) رواه البخاري/كتاب العيدين/باب فضل العمل في أيام التشريق (383) .
(2)
رواه مسلم/كتاب الصيام/باب فضل ليلة القدر (1165) .
(3)
رواه البخاري/كتاب الصوم/باب العمل في العشر الأواخر (670) .
الليل ما بين صلاة، وقراءة، ومجالس علم، وغير ذلك مما يقرب إلى الله تعالى. فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يتقبل منا ومن إخواننا المسلمين.
ثم إنه أود أن أهنئ نفسي وإياكم، بل وجميع المسلمين، بما مَنَّ الله به من إطفاء الفتنة التي أثارها أهل الظلم والعدوان، والتي كانت سبباً في أضرار كثيرة، ليس في المنطقة التي نحن فيها، ولكن في جميع
الدول العربية والإسلامية وغيرها كما نسمع هذا من الأخبار.
وإن هذه الفتنة وهذه الكارثة العظيمة التي أصابت هذه البلاد، لاشك أنها واقعة بقضاء الله وقدره، ودليل ذلك قوله تعالى:(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)(1) فقوله تعالى: (مِنْ مُصِيبَةٍ) : نكرة في سياق النفي.
قال علماء البلاغة وعلماء الأصول: إن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، لاسيما أن هذا العموم مؤكد بـ"من" الزائدة في قوله تعالى:(مِن مُّصِيبَةٍ) و"من" زائدة بحسب الإعراب، أما بحسب المعنى:
فإن لها معنى عظيماً؛ لأنه ليس في القرآن شيء زائد ليس له معنى أبداً، فالقرآن كلام الله محكم من كل وجه.
(1) سورة الحديد الآية: 22.
وقوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) أي: من قبل أن نبرأ هذه الخليقة، وذلك كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن الله تعالى كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"(1) .
إذا علمنا أن هذه المصيبة بتقدير الله فإنه يترتب على هذا العلم شيئان:
الشيء الأول: أن نرضى بهذه المصيبة؛ لأنها بتقدير الله، وكل ما قدره الله فإن الواجب على المؤمن أن يرضى به.
ولا يتم الرضاء بالله رباً إلا بالرضاء بقضائه وقدره، فحينئذٍ نرضى بهذه المصيبة، ونسلم ونطمئن؛ لأنها من قضاء الله تعالى وقدره، قال علقمة- رحمه الله وهو من أكابر أصحاب عبد الله بن
مسعود- رضي الله عنه في قوله تعالى: () مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (2) قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلّم.
الشيء الثاني مما يترتب على هذا: أن نعلم أن الله تعالى لم يقدر هذه المصيبة إلا لحكمة؛ لأنه ما من شيء قدره الله إلا وله حكمة بالغة، قد نعلمها وقد لا نعلمها، ولكننا قد علمنا شيئاً من الحكمة فيما قدره الله
(1) رواه مسلم/كتاب القدر/باب حجاج آدم موسى برقم (4797) .
(2)
سورة التغابن الآية: 11.
سبحانه وتعالى من هذه المصيبة والكارثة تتبين فيما نذكره فيما بعد.
والدليل على أن كل شيء قضاه الله فإنه لحكمة قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)(1) فلما قال: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) علمنا بأنه لا يشاء شيئاً إلا لحكمة؛ لأنه سبحانه وتعالى من أسمائه: الحكيم، وهذا الاسم العظيم يقتضى أن كل ما صدر من الله من أمور كونية، أو أمور شرعية، فإنه لحكمة.
والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه؛ لأنها مأخوذة من الإِحكَام وهو: الإتقان، والإتقان لا يكون إلا إذا كان الشيء في موضعه، وكل شيء قدره الله فإنه في موضعه ولا يمكن أن يصلح في
هذا الموضع إلا ما قضاه الله.
وكل شيء شرعه الله من واجب، أو محرم، أو مكروه، أو مستحب، أو مباح فهو في موضعه، فلا يمكن أن يكون غير الواجب في محل الواجب أنسب من الواجب في محله، وهكذا بقية الأحكام.
وكذلك القضاء الكوني لا يمكن أن يحل محله ما هو أوفق منه، وأنفع للعباد في معاشهم ومعادهم.
(1) سورة الإنسان الآية: 30.
أما الحكمة من هذه الكارثة:
فنقول أولاً: من الحكمة أن كثيراً من الناس عادوا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم علموا أن ما أصابهم فإنه بذنوبهم، فكل ما وقع من المصائب فإنه بسبب الذنوب، والدليل على هذا: قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)(1) وقوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا)(2) .
وكلمة: الفساد في قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ) كلمة عامة تشمل كل ما يتصور من فساد.
فمثلاً: جدب الأرض، وعدم نباتها، هذا من الفساد.
وفساد البحر بموت الحيتان، وخروجها على الأرض اليابسة وكذلك الأمواج العظيمة التي قد تدمر السفن، وتتلف الأموال، وتهلك النفوس، هذا أيضاً من الفساد.
وإغراق المزارع هذا أيضاً وما أشبهه من الفساد.
أما سبب الفساد فجوابه: في قوله تعالى: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ) .
(1) سورة الشورى الآية: 30.
(2)
سورة الروم الآية: 41.
ولقد قال الله عز وجل لأشرف الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حينما أصابهم ما أصابهم في أحد، فقد استشهد من المسلمين في تلك الغزوة، سبعون رجلاً، وعلى رأسهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصل من الأذية
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصل، فقد شج وجهه (1) ، وكسرت رباعيته، وسقط
في حفرة حفرها بعض المشركين وأصابهم غم بغم قال الله عز وجل:
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(2) ، فقد أصاب المسلمون مثليها في بدر، فإن المسلمين قتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين، وإذا أضفت سبعين إلى سبعين صار المجموع مئة وأربعين والذي أصيب به المسلمون في أحد سبعون رجلاً، إذن أصابوا في بدر مثلي ما أصابهم، في أحد.
فنقول: ما وقع من هذه المصيبة التي اجتاحت هذه البلاد وما جاورها لاشك أنها من عند أنفسنا بسبب الظلم وخروج بعض الحكام عن شريعة الله، وتحكيمهم للقوانين والنظم المخالفة لشريعة
الله، وفسق بعض الناس بالخروج عن طاعة الله من إضاعة الصلوات، وإتباع الشهوات وغير ذلك.
(1) رواه مسلم/كتاب الجهاد برقم (3346) .
(2)
سورة آل عمران الآية: 165.
وهذه الأمور التي ذكرنا تغضب الخالق عز وجل، وإذا غضب الله عز وجل على قوم، فإنه سوف ينزل بهم العذاب المطابق للحكمة تماماً.
لهذا نقول: لما حصلت هذه المصيبة، رجع كثير من الناس إلى الله عز وجل، حتى إننا سمعنا: أن بعض الناس الذين كان عندهم من الفسق ما كان قبل هذه الكارثة، بدؤا يقومون الليل، ويصومون من
كل أسبوع يومي الاثنين والخميس، وهذا لاشك أنه رجوع إلى طاعة الله عز وجل.
كذلك كثير من الناس تاب من الربا، وكذلك كثير منهم تاب من الغناء، وكثير منهم فكر في أهله، وصار يراعيهم، ويؤدي حقهم.
فكثير من الناس ولله الحمد والمنّة عاد إلى طاعة ربه عز وجل، إلا من كان قلبه قاسياً ميتاً، فهذا لن ينتفع كما قال الله تبارك وتعالى:(فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1) .
فإن من الناس من قلبه قاسٍ لم ينتفع من هذه الموعظة وبقي على ما هو عليه من مخالفة أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(1) سورة الأنعام الآية: 43.
الثاني من الحكمة في هذه الكارثة: تميز الخبيث من الطيب:
فقد تبيّن الصادق في إيمانه من الكاذب، وذلك لأن بعض الناس استغل هذه الفتنة، وهذه الكارثة في مآرب، أبدى شيئاً من ظواهرها، فتبين بذلك بعض المكنونات التي يكنها بعض الناس في حفيظة
نفسه، وهذا الشيء معروف لمن تأمله في وقت هذه الكارثة.
الثالث من هذه الحكم نشاط أهل الدعوة إلى الخير:.
وذلك بما يلقونه من المواعظ والتذكير للخلق الغافلين، فإن أهل الخير كثرت دعوتهم إلى الله عز وجل، في هذه الكارثة، بل إنك لتسمع في البيت من لا يعرفون شيئاً، يتحدث بعضهم إلى بعض، بأن
هذا الذي أصابنا ما هو إلا من الذنوب، ويكثرون من أجل ذلك من الاستغفار، والتوبة إلى الله عز وجل، ولا شك أن لهذه الحكمة فائدة عظيمة.
الرابع من الحكم: أن الاعتصام الحقيقي الذي لا ينفصم هو الاعتصام بحبل الله عز وجل:
كما قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(1) والاعتصام بحبل الله وهو: الإسلام هو الذي يجمع الأمة.
أما الاعتصام بغير الإسلام، فإن ذلك لا يفيد الأمة أبداً، ولن
(1) سورة آل عمران الآية: 103.
تجتمع الأمة على شيء اجتماعها على الإسلام.
لما كانت الأمة تعتمد على النسب، وعلى القبائل، كانت متفرقة كما ذكر الله عز وجل فيما من به على المسلمين أنهم على شفاء حفرة من النار فأنقذهم منها، وأن المسلمين كانوا متفرقين فأصبحوا بنعمة الله إخواناً كما قال الله تبارك وتعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(1) فلا يمكن أن يجتمع المسلمون على شيء سوى دين الإسلام.
فالجنسية لا يمكن أن يُجتمع عليها، ولهذا فإن الاعتصام بالقومية لم يفد الأمة شيئاً بل إن الأمة تمزقت في الحال التي يجب أن تكون متماسكة، في الحال التي يجب أن يأخذ حليمها على يد سفيهها،
نجدها تفرقت وتمزقت وصارت شماتة للأعداء، حتى إن أعداء هذه القومية، صاروا يضحكون بها أمام العالم، ويقولون: انظروا إليهم تمزقوا، وتفرقوا، وصار بعضهم يقتل بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً.
ولاشك أن هذه من الحكم التي يجب أن نتخذ منها عبرة، وأن يكون مبدؤنا هو الالتفاف والاعتصام بالإسلام لا بأي شيء سواه، حتى نكون أمة واحدة، لا فضل لعربي على عجمي، إلا بتقوى الله
عز وجل.
(1) سورة آل عمران الآية: 103.
الخامس من الحكم: أن هناك أشياء مجهولة لكثير من الناس تذكر، أو يسمع عنها لفظاً، ولم يُعرف معناها إلا عند حصول هذه الكارثة.
فإن الناس عرفوا معاني كثير من هذه المصطلحات، وعرفوا كيف يستعدون لمواجهة المتصفين بها، وهذا لاشك أنه ثمرة جيدة.
السادس من الحكم: عرفنا بهذه الكارثة، حماية الله عز وجل، ودفاع الله سبحانه وتعالى عمن شاء من عباده.
فإننا كنا نتوقع أن هذه الحرب ستكون طاحنة، وسيتلف بها أموال كثيرة، وستهلك بها نفوس كثيرة، ولكن الأمر وقع- ولله الحمد- على أقل ما يمكن من تقدير، ليس هذا بحولنا وقوتنا، ولكن
بلطف الله عز وجل، حيث لطف بالأمة، وحسمت القضية بسرعة، ولم يحصل من الهلاك والتلف، إلا أقل ما يتصور، حتى لو أننا حُدِّثْنَا أن المسألة ستنحسم بهذه السرعة، لقلنا: إن هذا خيال لا يمكن أن يتحقق، ولكن الله سبحانه وتعالى بلطف منه حققه- فلله الحمد والشكر-.
السابع من الحكم: عرفنا أيضاً لطف الله عز وجل بما حصل من أمور نعلم أنها ليست بقوة البشر.
فقد ذكر لنا أن البقعة الزيتية التي تسربت من تفجر أنابيب النفط
كان منها كتلة كبيرة جداً وواسعة وعميقة، كانت تهدد موانئ بلادنا، ولاسيما حينما قربت من محطة مصفاة الماء، وأنها عند القرب من المصفاة، وتهديدها للمصفاة، أرسل الله تعالى ريحاً جنوبية دفعتها عن المصفاة. فتفرقت بقعة الزيت في البحر وتمزقت. وقد حدثنا بذلك من نثق بهم، ولاشك أن هذا ليس بقدرة البشر، ولكن هذا بقدرة الله تبارك وتعالى.
إذن تبين بهذا أن النصر من عند الله تعالى، وأن الله إذا أراد نصر أحد، قيض له من أسباب النصر ما لم يخطر له على البال، وقد قال الله تعالى:(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) .
الثامن: تبين أن الظلم مرتعه وخيم، وأن الظالم لن يفلح.
وهذا والله قد وثقنا به تماماً؟ لأن الله تعالى قال: (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وهذا خبر من الله الذي يصدق خبره وهو أيضاً خبر من قادر على إنفاذ ما وعد به (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(2) وقال
تعالى: (ُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)(3) فالمُفسد لن يصلح عمله، والظالم لن يفلح أبداً، ولكن يجب ألا يغيب عن بالنا مسألة
(1) سورة الطلاق الآية: 3.
(2)
سورة الأنعام الآية: 21.
(3)
سورة يونس الآية: 81.
مهمة وهي: أن الله قد يملي للظالم، ويمهله ولا يأخذه بسرعة، حتى يلجأ المظلوم إلى الله حقيقة، وحتى يرتفع الظالم، ويظن أنه لا يمكن أن يضعه أحد، كما جاء في الحديث عن النبي لَخيم قال: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)(1) .
إذا علمنا ذلك فإننا ننتظر الفرج من الله عز وجل بإزالة الظلم عن كل مظلوم سواء، في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في أي بلاد من بلاد الله عز وجل؟ لأننا نعلم أن الأمر كما أخبر الله عز وجل
(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) .
التاسع الحكم: أن هذه الكارثة أفادت الأمة الإسلامية الصبر والتحمل؟ لأن كثيراً من الناس لاسيما منْ هم صغار السن فقد عاشوا في ظل الأمن، وفي ظل الرخاء، ولم يكونوا يعرفون هذه الأمور الضيقة المحرجة، فتعود الناس من هذه الكارثة الصبر والتحمل، ولاشك أن الإنسان إذا وُفق بأمور على خلاف عادته التي يجري عليها اختباراً له، لاشك أنه يستفيد، ولهذا جاء في الحديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان ينهى عن كثرة الإرفاه ويأمر بالاحتفاء أحياناً "(2)
(1) سورة هود الآية: 102، والحديث رواه البخاري/كتاب التفسير ومسلم/كتاب البر باب: تحريم الظلم.
(2)
رواه أبو داود/كتاب الترجل برقم (3629) .
وكثرة الإرفاه هي: كثرة الترفه. وقوله: "ويأمر بالاحتفاء" يعني: أن يمشي الإنسان حافياً أحياناً، لا دائما، من أجل ألا يعود نفسه على الرفاهية دائماً.
العاشر من هذه الحكم: أن هذه الكارثة بيّنت دور شباب الصحوة في التعاون مع الأمة ونفع الدولة بخلاف الآخرين الذين لا ينشئون إلا في الظل.
فقد أظهرت هذه الكارثة- ولله الحمد- ما للشباب الصالحين من القوة والنشاط والإسراع في إنقاذ الأمة.
ففي الكويت لم يصمد أمام المحنة، ولم يبق أمام هذه الكارثة، إلا الشباب ذوو الصحوة الإسلامية.
وبهذا نعرف أنه يجب على الحكام الذين مكن الله لهم من الحكم أن يراعوا هؤلاء الشباب، وأن يجعلوهم هم الذخيرة لهم، وأنهم هم العضد الأيمن، والعضد المساعد لهم؟ لأن صديقك من يصدقك
الود عند حلول الكوارث، هذا هو الصديق حقيقة.
فإذا عرف أن هذا الشباب شباب الصحوة العلمية الشرعية والصحوة العملية الواقعية؟ لأنه ينبغي أن يكون الإنسان فقيهاً في شرع الله، فقيهاً فيما يقع في الأمة الإسلامية، ولهذا قال الفقهاء
رحمهم الله: إن من آداب القاضي أن يكون فقيهاً في الشرع، فقيهاً
في أحوال الناس، وواقعهم حتى يُطبق الشرع على الواقع.
وأقول: إن شباب الصحوة- ولله الحمد- تبيّن في هذه الكارثة، وهذه المحنة بأنهم هم الدرع الحصين للأمة، وأنه هو الذي يجب أن يكون لهم الدور الفعّال في تكوين الأمة، وتوجيهها، ولكن على
هؤلاء الشباب أن يكونوا متخلقين بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اللين والحكمة كما قال تعالى:(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ) حَولِكَ (1) .
فإذا كان عند الشباب لين وحكمة ورحمة بالخلق، وتوجيههم ودعوتهم لا انتصاراً لأنفسهم، ولكن انتصاراً للحق ورحمة بالخلق، حصل على أيديهم خير كثير، وذلك بسبب حُسن القول ولطافته
وسهولته.
ويذكر أن بعض الملوك رأى رؤيا فأزعجته حيث رأى أن أسنانه سقطت فجمع الناس الذين يعبّرون الرؤيا، وقال لهم: إن أسنانه سقطت، فقام واحد منهم، وقال: جهلك أهل الملك، فأمر الملك بأن
يضرب هذا العابر؟ لأنه روّع الملك.
ثم قام رجل آخر وقال: في تفسير الرؤيا: يكون الملك أطول أهله عمراً، فقال: أكرموا هذا الرجل.
(1) سورة آل عمران الآية: 159.
ولو نظرنا فيما قال الرجل الأول في تعبيره وما قاله الرجل الثاني لوجدنا أن المعنى واحد، لأنه إذا هلك أهله قبله صار هو أطولهم عمراً، وإذا كان أطولهم عمراً، لزم من ذلك أن يهلك أهله قبله.
والمهم أن الإنسان ينبغي له أن يستعمل الألفاظ التي تقرب الناس إليه، وأن يستعمل اللين بقدر ما يستطيع، ولا يستطل الأمر.
صحيح أن الإنسان إذا أخذ الشيء بالقوة قد ينجح، لكنه نجاح مؤقت، ولكن إذا أخذ الشيء بالرفق واللين، ربما لا ينجح بسرعة، لكن في النهاية ينجح، ويكون نجاحه عن اقتناع المخاطب، والشيء الذي يأتي عن اقتناع، ليس كالشيء الذي يأتي عن إكراه وسيطرة.
فالذي يأتي عن اقتناع، يكون هذا الذي تدعوه عوناً لك، وداعية معك، لكن الذي يأتي عن قوة وسيطرة، ربما لا تكون الفائدة إلا أنك حصرته عن هذا الأمر الذي كان يريده فقط، وقد يكون في غفلة فيعود إلى ما كان عليه.
فهذه من الفوائد العظيمة وهي أن لشباب الصحوة الإسلامية دورأ كبيراً في إنقاذ المجتمع، والدفاع عنه، وأنه يجب على الحكام أن يراعوا هذا الشباب ذو الصحوة الإسلامية وأن يعرفوا قدرهم.
الحادي عشر من الحكم: ظهور المنافقين، وما أدراك ما المنافقون؟!
قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(1)(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)(2)(هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)(3) تأمل أن الله قال عن الكفار:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)(4) قال: (عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ) . وقال عن المنافقين (هُمُ الْعَدُوُّ) فَاحْذَرْهُمْ "وهم العدو": جملة خبرية معرفة الطرفين، تفيد عند أهل البلاغة الحصر، كأنه لا عدو للمؤمنين سوى المنافقين. وذلك لأن عدواتهم أشد وأغلظ وأنكى؟ لأنهم كما قال الله تعالى عنهم:(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) ْ (5) يلاقيك المنافق، يسلقك بلسان من أحسن الألسن، وكلامٍ طيبٍ لينٍ
فيقول القائل: هذا هو عضدي، ونصيري، ولكنه إذا أدبر عنه كان عدوه. فالمنافق إذا لقي أحداً قام يتكلم عن الإسلام والأمة الإسلامية وما يجب على المسلم، وما يجب على المؤمن، فتقول: هذا
(1) سورة النساء الآية: 142.
(2)
سورة البقرة الآية: 9.
(3)
سورة المنافقون، الآية:4.
(4)
سورة الممتحنة الآية: 1.
(5)
سورة البقرة الآية: 14.
المؤمن حقاً، لكن إذا ذهب إلى أصحابه ورفقائه قال: نكذب على هؤلاء البسطاء ونلعب بعقولهم (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) .
لقد ظهر في هذه المحنة، أو في هذه الكارثة تميّز المنافق من المؤمن، وذلك بما ظهر من المنافقين، من الكلمات والكتابات التي بيّنت حالهم. فالمؤمن ظاهره وباطنه سواء، والمنافق ظاهره مُعجب، ولكن
باطنه مُعذّب، على العكس من ظاهره، ولذلك كان من آية المنافق كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب " (1) فصار ظاهره خلاف باطنه، فإذا وعد أخلف، فصار باطنه خلاف ظاهره. وهكذا المنافق دائماً يكون باطنه خلاف ظاهره.
الثاني عشر: أن هذه المصيبة فيها تكفير للسيئات:
لأن المؤمن لا يصاب بأي شيء إلا كفّر الله به عنه، لا يلحقه هم ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها عنه من الخطايا، وهذه نعمة، كل منا يرجو أن يخفف الله من سيئاته، ونسأل الله أن يمحو عنا وعنكم السيئات.
وهذه المصائب التي ليس لنا بها حيلة، يُكفِّر الله بها السيئات، وهي إذا احتسب الإنسان بها الأجر عند الله صارت رفعة في
(1) رواه البخاري/كتاب الإيمان/باب علامة المنافق برقم (32) .
الدرجات، فالإنسان إذا أصيب بمصيبة يكتسب بها شيئين:
الأول: أنها مكّفرة للذنوب.
الثاني: أنه إذا احتسب الأجر على الله بها، صارت سبباً لرفعة الدرجات، وزيادة الحسنات.
الثالث عشر من الحكم: أننا عرفنا قدر نعمة الله بالأمن، فلقد كانت المخاوف أو العبارات التي فيها الخوف تمر بنا، وكأنها شيء بارد، ولكن لما حصلت هذه الكارثة عرفنا الخوف، وعرفنا قدر نعمة
الله علينا بالأمن، وإلا فمن يُصدّق أن من الناس من خرج من بلده خوفاً من الهلاك في بلادنا، ولكن بهذا عرفنا قدر نعمة الله، وقد نبه الله على ذلك في قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)(1) .
وقال تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(2) .
فنحن لن نعرف قدر نعمة الله سبحانه وتعالى بهذا الليل والنهار
(1) سورة القصص الآية: 72.
(2)
سورة القصص الآية: 73.
اللذين يتعاقبان علينا إلا إذا قدرنا أن الوقت كله نهار، أو أن الوقت كله ليل، ولهذا من الحكم المأثورة:"بضدها تتبين الأشياء".
الرابع عشر من الحكم: من فوائد هذه الكارثة: أن تبين بها من هو صادق التوكل على الله، ومن يعتمد على الأسباب، دون المُسببّ، كثير من الناس بهذه الكارثة نسى التوكل على الله، وصار يعتمد على الوسائل، أو على الأسباب الحسية الظاهرة، وهذا بلا شك نقص في التوكل، وسبب للخذلان. ولعل الكثير منكم لا ينسى ما حصل لأشرف جندٍ على وجه الأرض، منذ خُلق آدم إلى قيام الساعة وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة حنين، حين اعتمدوا على كثرتهم، وأعجبوا بها، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، فغلبوا عن كثرة. فقد غلبوا وهم كثيرون، غلبهم عدوهم، وكانوا اثني عشر ألفا، وكان العدو ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، ومع ذلك حصلت الهزيمة، ولكن النصر فيما بعد صار للمسلمين ولذلك قال الله تعالى:(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(1) وكانت النهاية ولله الحمد للمسلمين.
فنقول: في هذه الكارثة صار بعض الناس يعتمدون على
(1) سورة التوبة الآية: 25.
الأسباب الحسية الظاهرة. ولكن من الناس من اعتمد على الله وجعل هذه الأسباب مجرد أسباب قد تنفع وقد لا تنفع. ونحن نعلم أن من الأسباب ما ينفع ومن الأسباب ما لا ينفع. ومن الأمور ما
ينفع فيها ما لا يخطر على البال أنه سبب.
فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ألقى في النار، والنار حارة مهلكة فقال الله لها (كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(1) فكانت برداً وسلاماً عليه، فلم يهلك بها، ولم تضره، فكانت برداَ وسلاماَ على
إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وبهذا نعرف أنه لا يجوز للإنسان أن يعتمد على الأسباب الحسية الظاهرة. بل يعتمد على الله- عز وجل، ويفعل الأسباب التي أذن الله تعالى فيها.
وفي الحقيقة أن هناك حكماَ وفوائد كثيرة من هذه الكارثة وكلما تأمل الإنسان في هذه القضية وجد أنه لابد أن نتخذ منها عبرة.
فأولاً: بالنسبة للشعوب والرعية: يرجعون إلى الله عز وجل ويعلمون أن النصر من عند الله، وأنه لا نصر إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وثانياَ: من جهة الولاة: بأن يراجعوا الأمر، وأن ينظروا في كل ما
(1) سورة الأنبياء الآية: 69.
يتعلق في شئون الناس، حتى يقوّموا الناس على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً في القول والعمل والعقيدة.
فأرى أن هذه الكارثة يجب أن تكون درساَ، لا أن نستنتج الفوائد الحاصلة بها فقط، بل ونجعل منها عبرة نصلح بها ما عسى أن يكون فساداَ في أعمالنا، حتى نستفيد منها الفائدة الكبرى، وألا نرجع إلى ما كان سبباً إلى هذه الكارثة، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
***
تم بحمد الله عز وجل المجلد الخامس والعشرون
ويليه بمشيئة الله عز وجل
المجلد السادس والعشرون.