الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمن والمال والدولة والرسالة
لم يكن فى مجتمع مكة قبل الاسلام، ولا حتى بعد ظهوره (الى ما قبل فتح الرسول صلى الله عليه وسلم لها) مؤسسة حكومية أو دولة أو كيان سياسى حاكم، سوى اجتماع رؤساء العشائر وحلفائهم فيما يعرف بالملأ، ولم تكن قراراته ملزمة الا اذا تم اتخاذها بالاجماع، ومع هذا فقد كان الامن بمعناه الشكلى أو الظاهرى مستتبا الى حد كبير، لا قتل، لا سرقة..
الخ وحتى بعد اعلان الرسول لدعوته بكل ما تنطوى عليه، فان أحدا لم يقتله، بل لم يحاول قتله، اللهم الا محاولة لم تتم فى أواخر المرحلة المكية، ويرى المؤلف أن المسلمين لم يتعرضوا لاضطهاد شديد كذلك الذى نسمع عنه فى مجتمعات أخرى مارسته ضد المختلفين معها فى العقائد، ويرجع هذا الى التكوين العشائرى، والى شبكة التحالفات الحديدية، التى تجعل الشكل الخارجى يوحى بالأمن المستتب، رغم ما ينطوى عليه هذا الشكل (الأمن المستتب) من ظلم وعدوان بل واجرام من نوع خاص،.. انه مجتمع المكائد والمقالب والتامر، حيث يتحالف المتامرون على تاجر فيفلسونه فكأنما قتلوه، أو يضعون من شأن شخص فلا يزوجونه، أو يهينونه فكأنما قتلوه..، لذا فقد بدت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وكأنها دعوة ضد أمن مكة واستقرارها، لأنها كانت دعوة تتغاضى عن الظواهر لتصل الى الجذور، كانت دعوة راديكالية بمعنى من المعانى، فاختل التوازن العشائرى، بل واختل النظام داخل العشيرة الواحدة، فأسلم الابن دون أبيه، وأسلم الأخ دون أخيه،.. الخ، وبذلك انفرط العقد،..
فكان لا بد من احلال نظام جديد يسد هذا الفراغ، فظهرت فكرة الأمة، وتحول الانتماء الى الجماعة الاسلامية، التى عوضت الداخلين الجدد عن الانتماء العشائرى، وأصبح هناك التزام بشريعة، وضبط سلوكى خوفا من الله وطمعا فى ثوابه.. وبعد ذلك فى المجتمع المدنى كان للدولة عمد ونظام، وأصبحت الدولة- ممثلة فى الرسول وجماعة المسلمين- مسئولة عن الفرد، تعينه على طلب الرزق، وتحل مشاكله الاجتماعية، وتسأل عنه ان غاب.. ومن هنا كانت صلاة الجماعة تفوق صلاة الفرد لسبب اجتماعى وسياسى واضح، وهو أن يتفقد المصلون من غاب منهم، فكانت مؤسسة المسجد بمثابة حكم محلى يبلغ الحكومة المركزية..
ولكن النظام العشائرى لم يكن هو التشكيل الوحيد الذى حفظ الأمن فى مكة (الأمن بمعناه الشكلى أو الظاهرى) ، فقد كانت هناك أيضا شبكة التحالفات المالية الصارمة التى اخترقت حتى روابط الدم (العشائرية) وتغلبت عليها، لقد قدم لنا (وات) جداول بعضها مفصل بالتحالفات المالية، وخلص- عن حق- بأنها فاقت أحيانا التحالفات العشائرية، ولعل أبا لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح مثال على ذلك، فما كان ليؤذى ابن أخيه هذا الايذاء الا لتحالف مالى، ومصاهرة مع عشيرة قوية مناوئة، ونترك جداول وات تتكلم فليس من واجبنا نقلها فى هذه المقدمة مرة أخرى. وفى ظل التحالفات المالية الكبيرة يتعمق الأمن بمفهومه الشكلى، فمن الذى يرفع رأسه أمام هذا الغول القادر على قطع مصدر رزقه، والقادر- بماله- على عزله واهانته والتقليل من شأنه. والمال يساعد على شراء الرجال وحبك المؤامرات.. الخ. ورغم أن (وات) ليس شيوعيا كما ألمح هو فى كتابه، الا أنه يستطرد قائلا انه فى ظل هذه التحالفات المالية ينتفى (الشرف) بمعناه العربى الأصيل، ويضيع معنى (العيب) ولم يكن يهم هؤلاء الأثرياء المكيون كثيرا أن يوصفوا بأنه لا شرف لديهم، فقد كانوا قادرين- عند الضرورة- على شراء الصمت أو المديح، وتحولت قيم الكرم العربية الحقيقية على أيديهم الى مجرد تظاهر. يقول وات اعتمادا على روايات عن أبى جهل، انه لم يكن يضرب الا المسلمين الضعفاء الكائنة أوضاعهم خارج النظام العشائرى، وبذلك- فيما يقول وات- تصرف بما لا تقتضيه قواعد (المروءة) أو (المروة) العربية، واعتبر وات هذا أمرا طبيعيا، لأن التحالفات المالية لا تهتم بالضعيف ولا تسعى الا الى القوى.. انه مجتمع الجبناء الذى يحتاج الى رقابة من مؤسسات أخرى، تأخذ منه (الحق) المعلوم، للسائل والمحروم، ومؤسسات أخرى تراقب (الكيد) الذى يدبره، وهو تعبير لا يخرج عن كونه فى هذا السياق، المضاربة ضد مصالح المجموع،.. لذلك تعرض وات كثيرا فى دراسته هذه الى أن الاسلام فى جانب منه كان دينا يدعو لمصالح المجموع، ويدافع عن (المستضعفين) وأفرد لمفهوم المستضعفين هؤلاء صفحات طوالا.
واذا كانت التحالفات العشائرية تعطى مظهر (الأمن) ، فان شبكة التحالفات المالية الحديدية تفعل الشىء نفسه لكن بشكل أقسى، ولم يمنع الاسلام الجد والعمل والسعى لتحصيل المال، لكنه وضع مؤسسة الزكاة والصدقات، وحدد لالتزامات المسلم دوائر تتسع شيئا فشيئا، فحقق الأمن من الجذور ومن الأعماق، لا مجرد مظهر سطحى.
ومن مزايا (وات) أنه يفكر بصوت مسموع ويشركك معه فى منهجه. لقد تساءل: هل معنى هذا أن الاسلام هو حركة المستضعفين ضد الأثرياء وذوى النفوذ؟ ولم يجب الرجل اجابة عشوائية، وانما أعد قائمة بأوائل المسلمين، وراح يدرسهم فردا فردا من حيث عشائرهم ومدى قوتها، ومن حيث أوضاعهم المالية ومدى رسوخها، ليعرف ان كانوا كلهم «مستضعفين Weak «أم لا، ورجع فى هذا لأوثق المصادر الاسلامية، فوجد أن عددا كبيرا منهم كانوا من عشائر قوية وكانوا من أصحاب الأموال الكثيرة، وتركوا عن العشيرة وسطوة المال ودخلوا الاسلام. ويخلص وات من ذلك الى أن الاسلام دين للأغنياء والفقراء على سواء، دين للأفراد وللعشائر على سواء. انه على حد تعبير وات دين بكل معنى وبكل ما تحمله كلمة الدين من معان ومضامين، وانه فى جانب منه أعاد مفهوم (الكرم) بمعناه النقى الخالص، وأعاد مفاهيم المروءة أو المروة بجوانبها الايجابية، ويرى وات أن فكرة وكالة صاحب رأس المال فى ماله Stewardship وهى فكرة أوربية مؤداها أن الأثرياء لابد أن يكونوا بشكل أو باخر وكلاء Stewards فى أموالهم وليسوا مالكين لها ملكية مطلقة، وانما لابد أن يحققوا بها سعادة الاخرين- بقدر ما، ومبدأ الوكالة الغربى هذا قائم على أساس أن المجتمع شارك هذا الثرى بشكل أو باخر فى تحقيق هذه الثروة، فلولا الأمن الذى فرضه المجتمع ما حقق هذه الثروة، ومن اشترى منه، ومن باع له
…
الخ كل هذا فى ظل المجتمع.. لكن وات يقول لنا ان فكرة الوكالة هذه ليست فكرة أوربية وانما هى من بين جملة أفكار أحياها الاسلام أو ردها الى أصلها العربى السليم (الفصل الثالث) . لاحظ أن وات ليس شيوعيا فليس كل من نظر منظورا اقتصاديا يوصف بهذه الصفة البشعة، ويستشهد