الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول الخلفية العربية
مع وجود المادة التاريخية التى أصبحت متاحة، يمكننا أن نخصص على الأقل جزا من هذا الكتاب لوصف الخلفية العربية لحياة محمد عليه الصلاة والسلام . وعلى هذا، فان هذا الفصل له هدف محدد هو جذب الانتباه الى أهم سمات هذه الخلفية التى تساعد على فهم صحيح لسيرته وانجازاته.
ويعتمد هذا الفصل- الى درجة كبيرة- على أعمال المستشرقين والرحالة الاخرين، لهذا من المستحيل أن نقدم شكرا كاملا لمن نحن مدينون لهم (فهم كثيرون) .
اذا كنا نتحدث عن شبه الجزيرة العربية، فان ما يهمنا منها هو الجزء المحيط بمكة والمدينة- الذى يطلق عليه أرض الحجاز- وبادية نجد المجاورة لها.
1- الأسس الاقتصادية
أول ما يتبادر الى ذهن الغربى عند سماع كلمة شبة الجزيرة العربية هو الصحراء والبدو، لهذا فان الحديث عن اقتصاديات حياة الصحراء نقطة بداية مفيدة. وفى الواقع، لم تلعب الصحراء دورا خلاقا
فى نشوء مفهوم التوحيد عند محمد عليه الصلاة والسلام ، ومع هذا فقد كان للصحراء الدور الأول فى ظاهرة الاسلام ككل. ومع ذلك، فقد كانت مكة والمدينة كجزيرتين فى بحر من الصحراء، أو على الأصح كمناطق سهوب، وكان لهما صلات اقتصادية وثيقة بالبدو وكان يسكنهما أحفاد للبدو لا زالوا يحتفظون بكثير من العادات التى اكتسبها أسلافهم من الحياة فى الصحراء، لهذا لا مفر من أن نولى الصحراء بعض الاهتمام.
تعتمد حياة البدو على تربية الأنعام، وبالذات الابل، وفى سهوب شبه الجزيرة العربية يمكننا أن نميز عدة أنواع من الأرض لا يهمنا منها الا نوعان، الأول هو تلك الأراضى التى تكون فى الصيف قاحله رملية، ولكنها فى الشتاء، بعد سقوط الأمطار- وهو الفصل الذى يسميه العرب الربيع*- يكتسى بنبات أخضر حلو المذاق وخاصة فى الوديان، مما يجعلها جنة للابل.. ثم هناك المناطق التى تنمو فيها الأشجار المعمرة والشجيرات- بشكل طبيعى- أغلبها عطرى الرائحة. ويفسر هذان النوعان من الأرض الحاجة الى حياة الهجرة، فبمجرد سقوط الأمطار (بالرغم من أنها غير منتظمة الى حد ما) ، تصبح الأرض التى من النوع الأول أفضل مرعى للابل، ولكن عندما يضمحل هذا المرعى ويختفى بدخول الصيف، يصبح على البدو أن ينتقلوا الى الأرض التى من النوع الثانى، ويعتمد البدو عندما يكونون فى النوع الأول من الأرض على الابل فى الشراب والطعام، أما عندما يكونون فى النوع الثانى فهناك ابار، وان كانت تستخدم عادة لشرب الابل أكثر مما تستخدم للاستهلاك الادمى. وفى الحالتين يعتبر اللبن هو الوجبة الرئيسية للبدوى، بالاضافة الى التمر الذى يحصل عليه من الواحات. كما انه يأكل اللحم بين الحين والاخر، أما الحبوب فكانت ترفا مقصورا على الأغنياء والعظماء.
ويعتمد البدوى الى حد ما على الأراضى المأهولة بالسكان، ولا يرى فى السرقة أية جريمة، سواء كانت بالاغارة على واحة أو على قافلة،
* الكاتب يقرب المعنى لقرائه الأوربيين لاختلاف الفصول عن أوربا.
ولما كان البدوى عادة هو المقاتل الافضل فى المناوشات التى تحدث أثناء عمليات السطو هذه، فقد كان الزراع والتجار غالبا ما يلجأون الى احدى القبائل الصحراوية لحماية مساكنهم وأرضهم وقطعانهم ولتأمين قوافلهم فى مقابل مال يدفعونه لهم، وكانت هذه الأموال تمثل بالنسبة لكثير من البدو مصدرا منتظما للدخل، وهكذا كان فى مقدور البدوى أن يستمتاع ببعض منتجات الحضر.
وفى المنطقة التى تهمنا كانت هناك زراعة فى الواحات وبعض المناطق المرتفعه فى الجبال، وكان المحصول الاساسى فى الواحات هو التمر، فى حين كانت الحبوب المحصول الهام فى المناطق الجبليه مثل الطائف. وكانت يثرب (التى عرفت فيما بعد بالدينة) فى زمان محمد عليه الصلاة والسلام واحة كبيرة ومزدهرة. وكان هناك عدد من المستعمرات الزراعية اليهودية مثل خيبر، بينما كان الحال فى مكة على العكس تماما، اذ كانت الزراعة هناك مستحيلة تماما، وهذه حقيقه يجب أن نتذكرها دائما. وكانت اليمن- وان كانت لا تدخل فى نطاق اهتمامنا الحالى- بلدا زراعيا خصبا تستخدم فيها وسائل الرى الاصطناعى من قديم الزمان، ومن المعتقد الان أنها الموطن الأصلى للساميين أو على الأقل «بلد المنشأ» و «أول موطن منفصل» «1» .
ومن المؤكد أن التراث العربى فى فترة ما قبل الاسلام قد تضمن الكثير من ذكريات الأرض الخصبة فى الجنوب. ولا شك أن هذه الصلة بالأرض الخصبة قد ساهمت فى الثقافة العربية فى زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، ولكن لم تؤد دراسة هذا التأثير الى أى نتائج مؤكدة حتى الان.
كانت مكة، مسقط رأس محمد عليه الصلاة والسلام وموطنه لنصف قرن، مدينة تجارية تقع فى وسط صخور قاحلة، وقد كان نمو مكة كمركز تجارى نتيجة وجود الحرم، أو المنطقة الحرام، حيث كان الناس يأتون اليها امنين من أى تحرش، كما كانت الظروف الجغرافية
G.A.Barton ،Samitic and Hamitic Origins ;271 (1)
أيضا فى صالحها، فقد كانت تقع فى ملتقى الطرق من اليمن الى الشام ومن الحبشه الى العراق، لهذا كان البدو ياتون الى مكه للحصول على البصائع التى كانت تأتى مع القوافل من أركان المعمورة الأربعة، وربما كان أهل مكة فى البداية مجرد وسطاء وتجار تجزئه ولم يكونوا المستوردين أو أصحاب العمل المنظمين للقوافل، ولكنهم فى نهاية القرن السادس الميلادى كانوا يتحكمون فى معظم التجارة بين اليمن والشام، وهو طريق هام كانت تمر به بضائع الترف الهندية الى الغرب وكذلك اللبان والبخور من جنوب شبه الجزيرة العربية. وكانت الطائف تنافس مكة فى التجارة، ولكن من الواضح أن موقف مكة كان هو الأقوى.
كانت مكة أكثر من مجرد مركز تجارى، فقد كانت مركزا ماليا، ولا يبدو أن أحدا من الدارسين على علم أكيد بالتفاصيل مثل لامانس، «1» Lammans ولكن من الواضح أن عمليات مالية على درجة لا بأس بها من التعقيد كانت تتم فى مكة، وكان زعماء مكة فى زمان محمد عليه الصلاة والسلام رجال مال قبل كل شىء، مهرة فى ادارة شئون المال، ذوى دهاء، وكانوا مهتمين بأى مجال لاستثمار مربح لأموالهم من عدن الى غزة أو دمشق، ولم يكن أهل مكة واحدهم الذين وقعوا فى الشبكة المالية التى نسجوها، ولكن أيضا كثير من كبار رجال القبائل المحيطة بها.
وهكذا لم يظهر القران فى جو الصحراء بل فى جو اقتصادى مالى على درجة عالية من التعقيد.
بقيت نقطة أخرى، هل كان ظهور دين جديد فى الحجاز وانتشاره بعد ذلك بين العرب ثم انتقاله الى فارس والشام وشمال أفريقيا له ارتباط بأى تغير اقتصادى كبير؟ تقول احدى الاجابات ان الجفاف المتزايد فى البادية العربية وما أدى اليه من جوع كان الدافع الذى دفع العرب فى طريق الغزو، لندع الان جانبا وبصفة مؤقتة مسألة التغير الاقتصادى، ونكتفى بالقول بأنه ليس هناك دليل يوثق به على حدوث أى تدهور فى الظروف المناخية للبادية، وكانت الحياة فيها محتملة، فقد سمعنا عن
(1) انظر، Mecque: صفحة 135/ 231 وما بعدها- (المؤلف) .