الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ج) الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) ، الدوافع والتفسير
لأن الباحثين المسلمين لا يعترفون بالفكرة الأوربية الحديثة عن التطور التدريجى، فانهم قد اعتبروا محمدا صلى الله عليه وسلم كان على وعى كامل منذ البداية الأولى للدعوة بكل أبعاد عقيدة التوحيد (النص: عقيدة الاسلام السلفى كما هى معروفة الان (Orthodox dogme لذا، فقد كان من الصعب بالنسبة لهم أن يفسروا سبب عدم ادراكه (اى محمد صلى الله عليه وسلم للمضمون الوثنى لايات الغرانيق (المترجم: المؤلف يا بنى استنتاجاته على أساس أن قصة الغرانيق صحيحة، وان كان بعض الباحثين المحدثين يرى غير ذلك- انظر الحاشية) والحقيقة أن التوحيد الذى كان يؤمن به محمد صلى الله عليه وسلم كان فى بدايته لا يختلف عن توحيد من هم أكثر تنورا فى عصره أى أنه كان توحيدا غامضا على نحو ما؛ بمعنى أنه لم يكن ممكنا فى مرحلة مبكرة فصل التوحيد الخالص عن الاحساس بوجود كائنات أخرى ذات طابع الهى أو مقدس (المترجم: يدرك المسلمون وبعض غير المسلمين أن هذا غير صحيح بالمرة؛ بمجرد قراءة أول ما نزل من القران الكريم الذى يشير بوضوح الى اله واحد خالق وهاد: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
…
كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) السورة رقم 96 (العلق) .
فربما نظر محمد الى اللات والعزى ومناة كموجودات أو ربات، وان كانت لها قدسية، الا أنها أقل أهمية من الله سبحانه وتعالى على النحو
لا أصل اذا لمسألة الغرانيق على الاطلاق، ولا صلة ألبتة بينها وبين عودة المسلمين من الحبشة، انما عادوا كما قدمنا، بعد أن أسلم عمر ونصر الاسلام بمثل الحمية التى كان يحاربه من قبل بها، حتى اضطرت قريش لمهادنة المسلمين. وعادوا حين شبت فى بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبتها. فلما علمت قريش بعودتهم ازدادت مخاوفهم أن يعظم أمر محمد بينهم، فأتمرت ما تصنع. وقد انتهت بوضع الصحيفة التى قرروا فيها فيما قرروا ألا يناكحوا بنى هاشم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، كما أجمعوا فيما بينهم أن يقتلوا محمدا ان استطاعوا.
الذى يعتقد فيه اليهود والمسيحيون بوجود الملائكة، وقد تحدث القران الكريم فى اخر المرحلة المكية عنها على أنها من الجن «8» ، بينما تحدث عنها فى المرحلة المدنية على أنها مجرد أسماء «سميتموها» «9» (المترجم: اية سورة الأنعام الواردة فى الحاشية 8 وايات سورة النجم فى الحاشية 9 لا تعارض بينها، فلم تقل اية سورة الأنعام ان المقصود بالجن هو اللات والعزى ومناة.. واخضاع فكرة الاله الواحد لمنظور التطور الذى يأخذ به فى كتابه قد تكون صحيحة بالنسبة للبشر، فهم ينزهون الله سبحانه تنزيها يزداد كلما ازدادوا رقيا أو تطورا فى مدارج الحضارة، لكن هذا بالعقل لا يمكن أن ينطبق على الرسول أو القران الكريم، واية الاخلاص (قل هو الله أحد
…
) خير شاهد على الوضوح المطلق للتوحيد، انه مسألة غير خاضعة للمساومة، وليس فى القران الكريم ناسخ ومنسوخ بشأنها) أما والأمر كذلك، ربما يكاد يكون من الضرورى أن نجد أية مناسبة خاصة لهذه الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) انها لا يمكن أن تكون دلالة بأية حال من الأحوال على التراجع عن التوحيد، ولكنها- ببساطة- قد تكون مجرد تعبير عن وجهات نظر طالما اعتقدها محمد صلى الله عليه وسلم*.
(8)(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)) سورة الأنعام.
(9)
(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) وهناك ايتان سابقتان توضحان المراد من هذه الاية: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)) سورة النجم.
* لا تقول كتب السيرة ذلك، وفيما يلى بعض ما ذكره ابن هشام (طبعة مكتبة الايمان بتحقيق محمد بيومى) : يتحدثون أن أمنة بنت وهب أم الرسول كانت تحدث- والله أعلم- أن هناك من قال لها: انك حملت بسيد هذه الأمة فاذا وقع الى الأرض فقولى: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد.. (ص 101) وحدث الرسول عن نفسه قال: نعم أنا دعوة أبى
ومن هنا، فان دراسة المضامين السياسية لهذه الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) تعد أمرا شائقا. أفعل محمد ذلك رغبة منه فى الحصول على مؤيدين له فى المدينة والطائف وفى القبائل المحيطة بهما؟
هل حاول احداث توازن بين هؤلاء وزعماء قريش الذين يناوئونه، بأن يجمع حوله أكبر عدد من المؤيدين؟ ثم فى أقل القليل، أليس ذكره لهذه الأوثان دليلا على أن رؤيته قد اتسعت، أى أن نظره بدأ يتجه لأبعد من دعوة قريش؟
ان الرواية المنسوبة لأبى علية (بضم العين)(فى الطبرى ابن علية) والتى أوردناها انفا تشير الى ان قريشا قد عرضت على محمد صلى الله عليه وسلم ان تقبل ما يقول به وأن تقبله فى أوساطها اذا ذكر ربانها (بخير) ، وهناك أيضا روايات أخرى شبيهة بما أورده ابن علية. فأحيانا يقال انهم قد عرضوا عليه الثروة والزوجة الحسنة، ومركز الصدارة، وأحيانا عرضوا عليه فى تعبيرات أكثر عمومية زعامة قريش فى المجالين الدينى والتجارى «10» .
وبصرف النظر تماما عن مسألة التفاصيل، فثمة شك يمكن تبريره فيما اذا كانت هذه الروايات قد تم تلفيق جانب كبير منها بقصد اظهار أهمية محمد صلى الله عليه وسلم فى هذه الفترة. أكان حقا من الأهمية بدرجة كافية لتجعله يكاد يعامل على قدم المساواة مع زعماء مكة؟ وبشكل عام، فان صورة محمد صلى الله عليه وسلم كما قدمتها هذه الحكايات ربما كانت أقرب ما تكون الى الحقيقة. (المترجم: بعد أن أثار المؤلف عدة أسئلة، عاد
ابراهيم وبشرى أخى عيسى، ورأت أمى حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام..) ص 105، وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس- ما ذكره لها غلامها ميسرة من قول الراهب.. فقال لها ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة فان محمدا لنبى هذه الأمة.. (ص 121) . وكان يوصف بالأمين (ص 125) .. ويردد علماء الدين أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد لصنم قط. وتحنثه فى غار حراء قبل البعثة معروف.
(10)
تاريخ الطبرى، 1191، وانظر أيضا تفسير الطبرى ج 5، الايات من 75 الى 77 من السورة رقم 17 (الاسراء) :(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) . وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) . سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (77)
…
) .
فأنكرها على اعتبار أن الصورة مقبولة بشكل عام. ولا نجد مبررا لسوق مقتطفات طوال من كتب السيرة: ابن هشام، والجزء الخاص بالسيرة فى كتاب الطبقات الكبرى للواقدى. فمسيرة الأحداث تثبت أن رسول الله كان مهما، بل فى الغاية من الأهمية فقد فتح مكة بعد ذلك وأسس دولة، ونشر دينا عالميا فى مختلف أرجاء العالم، ولا زال ينتشر) .
لا بد أن نتذكر أن النجاح الأصلى (الاولى) الذى أحرزه محمد صلى الله عليه وسلم كان قليلا- ربما بسبب تواضع أنساب من تبعوه فى وقت من الأوقات ثم انشقوا عنه (ارتدوا - (fell away ولم تكن هناك رغبة فى اعادة ذكر مثل هذه الأمور. وفى رواية أبو علية (فى الطبرى ابن علية) نلاحظ أن محمدا صلى الله عليه وسلم كانت له السيادة بين زوار مكة، مع أن أحدا من زعماء مكة لم يكن قد انضم اليه، وهذا التناقض يعد فى الغاية من الغباء اذا كانت الرواية مجرد ابتداع. دعنا اذن نقبل الرواية كما هى، ودعنا نذهب الى أن زعماء قريش راحوا يقدمون نوعا من العروض على محمد صلى الله عليه وسلم مؤداها أن يحظى بتكريم لفظى مقابل بعض الاعتراف برباتهم. اننا لا يمكننا أن نكون متأكدين من ذلك. واعلان هذه الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) يمكن بلا شك ربطه بهذه الصفقة.
ووفقا لهذه النظرة، فابطال هذه الاية الشيطانية (استخدم المؤلف الكلمة الانجليزية الدالة على النسخ، abrogation وقد بينا فى حاشية سابقة الفرق بين النسخ والوضع) لا بد أن يرتبط بفشل هذا الحل الوسط (التسوية)، وليس هناك ما يدعونا للقول ان أهل مكة كانوا متواطئين مع محمد (متظاهرين بالخلاف معه: (double -crossed
لكنه- أى محمد صلى الله عليه وسلم أدرك أن الاعتراف ببنات الله (كما كان يقال عن اللات والعزى ومناة وغيرها) يعنى التقليل من شأن الله (سبحانه) ليكون مساويا لهذه الربات. لقد كانت طريقة تعبده عند الكعبة من الناحية الظاهرية لا تختلف اختلافا كبيرا عن طريقة العبادة التى كان يمارسها رهبان هذه الأوثان (اللات والعزى.. الخ) وان كانت لا تزيد عنها كثيرا فى التأثير، ومن هنا فان الاصلاح الذى نشده محمد
(صلى الله عليه وسلم لم يكن ليؤتى ثماره. لذلك، فمن المؤكد أن محمدا لم يرفض عروض أهل مكة اخيرا لعروض كلامية عرضوها عليه، وانما كان رفضه لأسباب دينية صحيحة، انه لم يرفض عروضهم- على سبيل المثال- لعدم ثقته فيهم أو لطموحه الشخصى الذى لم يتم اشباعه بعد لكن لأن معنى اعترافه بهذه الربات (الأوثان) سيؤدى الى فشل مهمته كرسول، ويقضى على الرسالة التى كلفه الله (سبحانه) بها. لقد كان الوحى قد جعل ذلك الأمر واضحا له منذ البداية. اننا يمكن أن نفكر على هذا النحو لتوضيح ما كان، وربما كان محمد صلى الله عليه وسلم قد شعر أن مهمنه غير سهلة حتى قبل أن يأتيه الوحى.
واذا نظرنا للأمور نظرة تجريدية، بدا أنه ليس ثمة ما يدعو للاعتراض الا قليلا فى الاعتراف باللات والعزى وغيرهما كموجودات أقل قداسة، فالاعتراف بالملائكة مسألة متمشية مع التوحيد ليس فى اليهودية والمسيحية فحسب، وانما فى الاسلام السنى (السلفى) أيضا. وعلى أية حال، فان عاملين كمنا فى أوضاع مكة فى هذه الفترة الانتقالية جعلا الاعتراف بذلك أمرا غير ممكن:
العامل الأول: أن طبيعة التعبد عند الكعبة والذى كان قبل الاسلام متسما بالشرك (تعدد الالهة) - كان لا بد من تنقيته (تخليصه من الشرك) وتحويله للتوحيد الخالص. فاذا كانت ممارسات العبادة الجديدة حول الكعبة تشبه ممارسات العبادة عند أوثان الربات الاخرى، فلا بد أن أهل الحجاز كانوا سيقترحون ربات أخرى لتعبد على قدم المساواة.
العامل الثانى: هو أن عبارة (بنات الله) ذات مضامين خطيرة رغم أنها بشكل عام لم تكن تعنى المعنى الحرفى لها «11» . فكلمة (بنات) وغيرها من الكلمات الشبيهة قد تستخدم- غالبا- استخداما مجازيا فى اللغة العربية. فالعرب يقولون بنت الشفه ويعنون الكلمة، ويقولون بنت العين ويعنون الدمعة، ويقولون بنات الدهر ويعنون النكبات
Welhausen ،Reste ،24. (11)
والمصائب. ومن هنا فربما كانت عبارة (بنات الله) لا تعنى أكثر من أنها موجودات مقدسة أو موجودات فوقية (فوق طبيعية) ، أما كلمة الله فى هذه العبارة فهى تعنى ببساطة الاله the god ولا تعنى بالضرورة الاله الأعظم (الله، (God ولان كلمة الله بدأت تنصرف للتعبير على الموجود الأعلى سبحانه ولا تطلق على سواه، فان خطورة عبارة بنات الله أنها قد تعنى أن هذه (البنات) مساوية لله سبحانه، وهذا لا يتفق مع عقيدة التوحيد.
وفكرة أن اختلاف محمد صلى الله عليه وسلم مع زعماء مكة كانت هى السبب فى الغاء الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) ورفضه للعروض المقدمة منهم تتفق مع النقطة الثانية الواردة فى خطاب عروة الذى أوردناه فى صدر هذا الفصل، وهى أن بعض زعماء قريش ممن لهم ممتلكات فى الطائف هم الذين قادوا المعارضة الفعالة ضد محمد صلى الله عليه وسلم . ومن الممكن تقديم تفسيرات مختلفة لهذه الحقيقة وان كان أفضلها هو أن هؤلاء الذين كانوا من بين زعماء قريش الذين كانوا مهتمين بشكل خاص بتجارة الطائف، قد ربطوا النشاطات التجارية فى هذا المركز التجارى (الطائف) بفلك الحياة المالية والتجارية فى مكة. وكان سحب الاعتراف بوثن (الربة) اللات يهدد- بشكل أو باخر- مشروعهم؛ مما أثار غضبهم الشديد ضد محمد صلى الله عليه وسلم .
ومما يؤكد ما ورد فى خطاب عروة من أن التعرض للربات (الأوثان أو الطواغيت) كان هو السبب الكامن وراء مرحلة العداوة بين محمد وزعماء قريش، ما ورد فى القران الكريم. فثمة ايتان ترتبطان بذلك تقليديا. تتحدث هاتان الايتان عن اغراء أو اغواء (كاد) يخضع له محمد صلى الله عليه وسلم :
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) ..) .
سورة الاسراء (السورة 17) .
وطبيعة الاغراء أو الاغواء فى هذه الايات غير محددة.
(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سورة الزمر (السورة 39) .
ففى هذه الايات يتضح أن هذا (الاغواء) أو (الاضلال) كان هو طلبهم من محمد صلى الله عليه وسلم اتخاذ (شركاء) مع الله. وتشير هذه الايات جميعا الى أن محمدا لو كان قبل عرض زعماء قريش، لكان العقاب الذى ينتظره من الله سبحانه وتعالى شديدا، عاجلا واجلا (فى الدنيا والآخرة) .
وربما كانت هذه الايات قد نزلت فى بداية المرحلة المدنية «12» وأيا ما كان تاريخ نزول الوحى بهذه الايات، لا يبدو أن هناك سببا قويا لرفض الربط بينها وبين قصة الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) والغائها (تنبيه الرسول الى أنها ليست من القران الكريم) . وهناك اية أخرى هى:
وربما يمكن ربط هذه الاية بالأحداث الانفة، فهذه الاية تشير الى أن المشركين يعرفون الله، ولكنهم يشركون فى حكمه أوثانا (الهة أخرى)
Bell ،translation of Quran. (12)
كل هذه الحقائق تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض الصفقة المعروضة عليه، أو بتعبير اخر رفض المساومة على دين الله.
وسورة (الكافرون) وهى السورة رقم 109 تمثل الرد الذى رده محمد على الكافرين، ونص اياتها كالتالى:
(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)) الكافرون (السورة 109) .
وتلك هى القطيعة الكاملة بين التوحيد من ناحية وتعدد الالهة من ناحية أخرى، أو بين التوحيد من ناحية والشرك من ناحية أخرى.
وهذه الايات تشير الى استحالة عقد صفقة للتوفيق بينهما مستقبلا.
وهناك ايتان أخريان شبيهتان بهذا السياق، وان كانتا ليستا بهذه القوة فى التعبير عن الفصل بين العقيدتين:
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ، ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) ..) سورة الأنعام (السورة رقم 6) .
وتتحدث الاية الأخيرة عن أن عبادة الأوثان قد تراجعت، مما يشير الى أن عملية اغواء محمد قد استمرت لفترة زمنية غير قليلة بدليل نزول ايات متفرقة تتعرض لهذا الموضوع، وهى مجمل الايات التى أوردناها انفا.
ان تعاليم القران الكريم فيما يتعلق بالأوثان خلال الحقبة المكية مسألة هى أيضا جديرة بالتأمل. ان آياته تشير بشكل أساسى الى أن عبادة الأوثان حمق وغباء، فالأوثان لا تنفع ولا تضر ولا تقدر على
شىء «13» وهى لا تشفع «14» وفى اليوم الاخر سيستصرخ بها المشركون ثم يدركون أنها لا تنفع ولا تشفع وأنها تبرأ مما يقولون «15» .
ان مثل هذه الايات تبدو وكأنها تخاطب أناسا يمرون بمرحلة انتقال دينية (وجهات نظرهم الدينية كانت فى مرحلة انتقال) ، فالمشركون فيما تشير الايات ينظرون الى هذه الأوثان التى يعبدونها «كشفعاء» أو «وسطاء» عند الله.
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) ..)
السورة رقم 10 (يونس) .
ومعنى هذه الاية اذا أخذناه ببساطة هو أنهم يعترفون- الى حد ما- بموجود أعلى، Some higher being وربما أيضا نفهم منها أنهم كانوا يؤمنون باليوم الاخر أو يوم الحساب، وان كنا غير متأكدين من هذه الفكرة الأخيرة مادامت الاية تشير الى أنهم يعتقدون أن شفاعة الأوثان لهم فى يوم الحساب لها بعض التأثير حتى بالنسبة لمن لا يقبلون الايمان بالله تماما. ومرة أخرى عندما قيل ان المشركين اتخذوا جنا شركاء لله، وقد يكون القران الكريم قد عبر عن هذا الموضوع بهذا الشكل لأن الفكرة كانت شائعة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن الذين كانوا يعارضون عبادة الأوثان على هذا النحو. لذلك لم يكن هجوم القران (الكريم) على الالهة الزائفة حادا جدا هذه الفترة، فهو لم يؤكد عدم وجودها كموجودات فوقية (فوق طبيعية) ، ولكنه ربما اكتفى باثارة شكوك خطيرة حولها أمام أناس كانت أفكارهم الدينية بالفعل فى حالة تدفق.
(13) السورة 6 (الايات 46، 70) والسورة 10 (الايات 19، 35) والسورة 17 (الايات 58 وما بعدها) والسورة 21 (الاية 44) .
(14)
السورة 10 (الاية 19) والسورة 19 (الاية 90)
…
الخ.
(15)
السورة 16 (الاية 88) ، والسورة 18 (الاية 50)
…
الخ.
وعبارة (بنات الله) كانت هدفا سائدا للهجوم، كما يتضح من الايات التالية:
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) ..)
السورة 16 (النحل) .
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (145) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) ..) السورة رقم 37 (الصافات) .
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً.
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) ..) السورة رقم 43 (الزخرف) .
(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)) السورة رقم 53 (النجم) .
فقد وردت فكرة بنات الله كما يتضح من الايات السابقة عدة مرات فى القران الكريم، وكانت مرتبطة- تقليديا- برفض الايات الشيطانية والغائها، والمعنى فيها أنه كيف يكون لله البنات فقط بينما لأهل مكة بنون وبنات، وتشير الايات الى أن الأنثى أدنى منزلة من الذكر «16» ، بينما لا يمكن لله سبحانه نسل فهو- سبحانه- ليس له زوجة «17» كما يتضح من الايات التالية:
(16) اكتفى المؤلف بذكر أرقام الايات والسور واثرنا ايرادها بنصها للفائدة.
(17)
أوردها المؤلف باختلاف فى ترقيم الايات عن المصحف المتداول.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ، وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ..) السورة رقم 6 (الأنعام) .
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) الاية 111، السورة 17 (الاسراء) .
وثمة فارق مهم بين أن يكون لله ولد أو نسل من ناحية وبين أن يكون له عبيد، فالعبيد يعبدونه ولا يتدخلون فى حكمه «18» (النص:
يتشفعون (intercede كما تشير الايات التالية:
(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) ..) السورة 21 (الأنبياء) .
(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) ..) السورة 7 (الأعراف) .
وعلى هذا، فانه يبدو أنه كان هناك شعور بأن كلمة (بنات) كانت تتضمن أو يمكن أن تتضمن معنى الربات (الأوثان (idols التى كانت قريش تشرك بها مع الله. هذا هو المعنى الاساسى الكامن وراء رفض الايات الشيطانية وانكار نسبتها للقران (الكريم) ، وثمة نقاط
(18) اكتفى المؤلف بأرقام الايات وقد أوردناها بنصها.
أخرى يفترض أنه قد تمت اضافتها مؤخرا بالاضافة الى براهين أخرى لم نسقها فيما سبق «19» .
وعلى هذا، فالقران الكريم يتوافق مع ما كان معروفا من الروايات التقليدية ولا بد أن محمدا قد احرز النجاح الكافى فى جعل زعماء قريش ينظرون اليه بجدية أو كمصدر خطر حقيقى. فتعرض محمد صلى الله عليه وسلم لضغط ليعترف بعبادة الربات (الأوثان) فى المناطق المجاورة. وقد ركن اليهم محمد صلى الله عليه وسلم فى البداية شيئا قليلا للوصول الى مزايا مادية كالتى عرضوها عليه، ولأنه بدا له كما لو أن ذلك سيحقق نجاحا سريعا لدعوته.
وعلى أية حال، فأخيرا فمن خلال دعم الله سبحانه له- كما يعتقد- أدرك أن مثل هذه التسوية مضرة، ومن هنا تخلى عن فكرة تحسين ما يحيط به من ظروف وواصل طريقه الذى يعتقد فى صحته. ومن هنا كانت مناهضة تعدد الالهة (الوثنية) حاسمة قاطعة بعبارات حادة واضحة تغلق الباب أمام أية تسوية (تسعى اليها قريش) فى المستقبل. (كما أشرنا، فان قضية التوحيد الخالص محسومة منذ البداية بل هى جوهر الاسلام- وكل ما يذكره المؤلف استطراد لقصة الغرانيق التى لا وجود لها فى القران الكريم، وأثارها كثير من الباحثين- المترجم) .
ويميل الكتاب الغربيون الى الظن بأن المسلمين يخلطون بين الدين والسياسة بطريقة غير مرغوبة (رغم أن ذلك بطبيعة الحال ليس قصرا على المسلمين، فالمسيحيون الشرقيون وغيرهم يفعلون الشىء نفسه) .
وعلى أية حال، فربما كانت الحقيقة هى أن المسلمين يرون الدين حاويا على قضايا سياسية بشكل أوضح مما يرى الأوربيون. فقد كان محمد صلى الله عليه وسلم مهتما بالأحوال الاجتماعية والسياسية والدينية فى مكة، لكنه بطبيعة الحال تفاعل مع الجوانب الدينية باعتبارها هى الأساس. ولأنه كان مرتبطا بقضايا حياتية، فقد كانت قراراته فى مجال الدين ذوات مضامين
(19) أشار المؤلف فى هامشه الى الايات التالية: الايات فى سورة ابراهيم من 52 الى 70 (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ
…
الخ) . الايات من سورة الأنعام، رقم 74، ومن 80 الى 82 عن حجج سيدنا ابراهيم، والايات فى سورة الكهف عن عداء الجن للانسان من 50 الى 51.