الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ب) المثل العليا الأخلاقية
يمكن أن نطلق على المثل الأعلى الأخلاقى لعرب الصحراء، طبقا لما قاله جولد تسيهر، اسم المروءة. وقد أحسن ر. أ. نيكلسون R.A.Nicholson وصفه عندما قال:«هى الشجاعة فى القتال، والصبر عند المصيبة، والاصرار عند الانتقام وحماية الضعيف وتحدى القوى» . هذه الفضائل هى فى الحقيقة الأمور المطلوبة لنجاح القبيلة فى صراعها من أجل البقاء فى الصحراء. ومفهوم الشجاعة عند العرب ليس هو نفس مفهومها عندنا*، فالعرب لا يؤمنون بالدخول فى مخاطرات لا داعى لها، فطالما أنه لم يستقر فانه يتحاشى مثل هذه الأخطار والشدائد بقدر امكانه، فحياة الصحراء قاسية بما يكفى وليست فى حاجة الى المزيد. وربما يفسر ذلك اعتبار الاصرار على الانتقام من الفضائل، ففى كثير من الحالات قد يكون من الأسهل ترك الكلاب النائمة فى حالها، ولكنها تكون علامة على الضعف وقد تؤدى الى اضمحلال نسبى فى القوة العددية للقبيلة. أما تحدى القوى فهو انعكاس للحقيقة التى تقول ان استمرار الوجود يتوقف على القوة العسكرية، ومع ذلك فان القوى مستعد دائما لحماية الضعيف اذا اعترف الضعيف بسيادة القوى، ويعتبر هذا الى حد ما حالة من حالات التعاون الانسانى ضد القوى الطبيعية وتساعد على زيادة قوة القبيلة القوية.
كان الكرم وحسن الضيافة من الصفات التى تثير الاعجاب الى درجة كبيرة فى حياة الصحراء، ولا زالتا من الفضائل المشهورة عند العرب، وكانت الكومة الكبيرة من الرماد أمام خيمة الزعيم علامة على درجة عالية من التميز.. لأن هذا يعنى أنه قد استضاف عددا كبيرا من الضيوف.
وقد يكون مثل هذا التقليد الى حد ما نتيجة لحاجة الانسان للمساعدة من زملائه فى مواجهة قسوة الطبيعة، ولكن ربما كان له معنى أكبر من ذلك.
فالكرم صفة تثير الاعجاب حتى لو بلغت حد التبذير، كما حدث مثلا عندما نحرت امرأة فقيرة بعيرها الذى لم تكن تملك غيره لاطعام عابر
* يقصد العالم الغربى- (المترجم) .
سبيل، وربما يكون هناك وجه شبه بين هذا الاستخدام المتساهل والسخى بحق للأشياء النادرة الوجود، والاسراف فى شرب الخمر الذى يتفاخر به الشعراء. هل نرى فى هذين الأمرين مظهرا من مظاهر فضيله «عدم التفكير فى الغد» ؟ من المحتمل أنه فى الحياة فى الصحراء اذا فكر الانسان فى جميع احتمالات الكوارث المخيفة وحاول أن يقى نفسه منها جميعا، فانه يتحول الى حطام انسان فاقد لأعضائه وينتهى به الأمر اما الى فناء أو الى أن يترك الحياة فى الصحراء أو أن يتحول الى تابع لقبيلة أقوى. وفى الصحراء، هناك الكثير من الأمور لا يمكن التوصل اليها «بالتفكير» ، فالظروف غالبا ما تكون غير مؤكدة ولا يمكن التنبؤ بها وشاذة تماما، وعلى هذا فان توفير قدر من خلو البال من الهموم لهو الحكمة العالية، ولا شك فى أن هذا هو السبب فى الاعجاب الشديد بفضيلة الكرم.
كان الوفاء والاخلاص أيضا من الفضائل الهامة، فمن الناحية المثالية، كان على الرجل أن يكون مستعدا للاسراع الى مساعدة أحد أبناء قبيلته فور طلب المساعدة، وعليه أن يتصرف فى الحال بدون انتظار معرفة تفاصيل الحدث. وكذلك على الفرد أن يكون مع القبيلة حتى لو لم يكن موافقا على قرارات شيوخها، ومرة أخرى، بالرغم من أن الرجال لم يكونوا يترددون فى الاستيلاء على ممتلكات القبائل الاخرى، الا أنه كان هناك قدر كبير من الاخلاص فى حفظ الأمانة، ومن الأمثلة المشهورة فى ذلك السموءل بن عادياء الذى اثر أن يترك ابنه يقتله الجيش المحاصر على أن يفرط فى بعض الأسلحة التى تركها امرؤ القيس وديعة عنده، وقد يعتبر هذا الموقف امتدادا للولاء المتوقع بين أفراد القبيلة وأولئك الذين بينهم وبينها تكافل مصطنع نتيجة لاتفاقيات.
ونتيجة لاستقلال شيوخ القبائل، لم يكن فى الصحراء قانون أعلى يحكم الجميع، وفى الحقيقة كان من المستحيل المحافظة على القانون والنظام فى المساحات الشاسعة للبادية العربية والشامية الا حيثما يوجد حاكم قوى وحكيم بدرجة غير عادية، أو حيثما يكون للحاكم تفوق ساحق فى القوات والعتاد (مثل الطائرات والسيارات المصفحة فى مواجهة
البندقية والجمل) ، وسواء قبل الاسلام أو بعده، لم يكن عند العرب أية فكرة مجردة عن القانون، حتى التأثيرات الاغريقية لم تنجح فى ادخاله فى العلوم الاسلامية، وبدلا من قانون أعلى للكون، فان المسلمين يعتقدون فى ارادة الله كحاكم للكون معبرا عنها بما يوحى من أوامر.
تستمد مكانة القانون والفكرة المجردة للصواب والخطأ الى حد ما من مفهوم الشرف، شرف القبيلة أولا ثم شرف الفرد، فكرم الضيافة وحفظ الأمانة كانا دليلين على وضع اجتماعى جدير بالاحترام، بينما كان كل من البخل والجبن شيئا مشينا، وكان القيم والمسجل للشرف هو الرأى العام، ولهذا الرأى العام الذى كان يتكون من الشعراء وينعكس فيما يقولون قوة معينة، وكان المسئولون يتضاءلون أمام الأعمال التى قد تجلب لهم الخزى أو لقبيلتهم، وتحتوى الأشعار القديمة على قدر كبير من المدائح لفضائل قبيلة وحسناتها، وهجاء لرذائل قبائل أخرى وأخطائها.
ولقد لعبت المروءة كمثل أعلى دورا هاما فى حياة العرب، فقد كانوا يحترمون الذين استطاعوا تحقيقه الى درجة ما، والعائلات التى كان هذا الخلق من عادتها، وكانت السلطة تتوقف الى حد كبير على مدى الاحترام الذى يحظى به الرجل، وكان هذا بدوره يتوقف على صفاته الشخصية، أو بمعنى اخر درجة مروءته، ولم يكن مبدأ خلافة الابن الأكبر لوالده موجودا عند العرب لأسباب واضحة، فلو كان الابن الأكبر للزعيم لا يملك الخبرة الكافية عند وفاة والده (وكثيرا ما كان يحدث ذلك) ، فان القبيلة لا تجازف بتعريض وجودها للخطر بتوليته الزعامة، فالزعيم يجب أن يكون حكيما وذا حكم سليم على الأمور، وهذه هى الصفات التى كان يتحلى بها عادة أكثر الرجال احتراما فى العائلة القائدة.
فى هذا الجانب من الامتياز الأخلاقى، وفى قدرتهم على قبول ما يمليه عليهم، توصل العرب الى مزيح من الأرستقراطية والمساواة، أو قاعدة الأفضل مع الاعتراف بأن أفراد القبيلة متساوون.