الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلال الحوادث التى رويت عن بئر معونة فى العام الرابع للهجرة.
والقبائل الثلاث الاخرى تقع مضاربها على مسافات بعيدة من مكة وكانت قبائل مسيحية اما تماما أو جزئيا. لكن من الصعب أن نتأكد من أن هذه الحقائق هى السبب فى ذكرها فى هذا السياق. وما نصدقه هو أن محمدا صلى الله عليه وسلم فى هذه المرحلة بدأ يجتمع بأفراد من القبائل البدوية ليدعوهم للاسلام، وكان وراء هذا النشاط على الأقل فكرة غامضة عن واحدة كل العرب.
4- المفاوضات مع المدينة
(أ) توطئة
يكتب الانجليز كلمة المدينة على هذا النحو Medina وهى تعنى التجمع السكانى الحضرى، وربما كانت تعنى موطن العدالة، والكلمة (المدينة) تشير على سبيل الاختصار لعبارة (مدينة النبى) ، وكانت معروفة قبل ارتباط محمد صلى الله عليه وسلم بها باسم يثرب. ولم تكن يثرب مدينة بالمفهوم المعروف، وانما كانت مجموعة من القرى الصغيرة والمزارع والحصون متناثرة على واحة أو قطعة أرض خصبة، وربما كانت حوالى عشرين ميلا مربعا، تحيط بها تلال وصخور وأرض صخرية كلها غير مزروع.
وكان القسم الرئيسى السائد من السكان يتمثل فى بنى قيلة الذين عرفوا فيما بعد بالأنصار (أى الذين نصروا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه القبيلة أو الجماعات القبلية تتكون من أرومة بينها صلات قربى، من الأوس والخزرج، وكان كل منهما ينقسم بدوره الى عدد من العشائر، وكل عشيرة تنقسم الى عدد من البطون.Sub -clans ووفقا للمرويات، فقد قدم الأوس والخزرج الى يثرب مهاجرين من جنوب شبه الجزيرة العربية، واستقروا فى أراض خالية من السكان فيما يبدو، وذلك فى حماية (فى جوار) السكان الموجودين. وأخيرا ازداد عددهم واستطاعوا- بعد أن
أتاهم دعم من الخارج- أن يحرزوا السيطرة السياسية فى الواحة فى حوالى منتصف القرن السادس للميلاد أو بعد ذلك بقليل «9» .
وبالنسبة للسكان السابقين على الأوس والخزرج، فقد كانوا مكونين من مجموعتين قويتين ثريتين تشغلان أراضى خصبة ظلت الى حد كبير منفصلة عن الأوس والخزرج، وأعنى بهما: بنى قريظة، وبنى النضير.
وكانوا يشبهون جيرانهم من الأوس والخزرج فى كثير من النواحى، وقد اعتنق بنو قريظة وبنو النضير الدين اليهودى واحتفظوا بطقوسهم بشكل نشط. وليس من الواضح ما اذا كانوا مجموعة عبرية (من بنى اسرائيل (Hebrew Stock أو عربا تهودوا، وربما كانوا مجموعة عربية منعزلة ربطت نفسها بمجموعات عبرية صغيرة «10» . وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم، كانت هناك أيضا قبيلة يهودية ثالثة أقل نفوذا هى قبيلة بنى قينقاع، كما كانت هناك كيانات عربية صغيرة غير قبيلتى الأوس والخزرج ربما كانت أى هذه الكيانات- بقايا عرب سكنوا الواحة قبل وصول اليهود واستيطانهم.
ونشأت بين الأوس والخزرج ثارات متتابعة، وغالبا ما كانت هذه الثارات تنشأ بين عشيرة أو عشيرتين فقط من كل جانب، لكن ما يسمى حرب حاطب تكاد تكون قد شملت كل الأوس والخزرج (وكذلك القبائل اليهودية) وبلغت ذروتها فى معركة بعاث (بضم الباء وفتح العين) قبل الهجرة بسنوات قلائل، ربما فى سنة 617 للميلاد. وقد أدت هذه الحرب الى اختلال التوازن، أساسا لأنها استنفدت طاقات كل من اشترك بها.
كانت المدينة اذن تعانى من خلل (ظواهر مرضية اجتماعية (a malaise لم يكن يقل خطورة عن الخلل والظواهر المرضية
(9)
Welhausen، Madina vor dem Islam، in skizzen U.Vora- beiten، iv، 1889.
(10)
Caetani.Ann.i، p.383; Torrey، Jewich Foundation، Ch.T.D.G.Margoliouth، Relations between Arabs Israelites، London.1924، Lecture 3.
الاجتماعية التى حاقت بمكة، وان اختلفت اعراض المرض فى الحالتين.
أعنى عدم تكيف أو تواؤم العادات والتقاليد البدوية مع حياة المجتمع المستقر (بتعبير اخر أن البدو عندما يستقرون لا يستطيعون الا بعد فتره طويله أن يكيفوا بين أيديولوجيتهم البدوية، وحياة الاستقرار الجديدة) .
والجانب الاقتصادى لهذه الاضطرابات كان- بلا شك- نتيجة الضغط الذى سببه الازدياد السكانى مع قلة الموارد الغذائية. ونتيجة الحرب المريرة التى انخرط فيها أهل يثرب هى أن المنتصرين راحوا- بشكل متتابع- يحتلون أراضى المنهزمين «11» ، وكما حدث بعد معركة بعاث، فعندما لم يكن هناك سلام رسمى (معتمد أو جرى الاتفاق عليه) وانما مجرد هدنة لالتقاط الأنفاس، كان على الناس أن يكونوا فى حالة حذر دائم (ترقب) ضد هجوم مفاجىء غادر وفى حالة احجام عن دخول أراضى الطرف الاخر. ومع أن انتاج التمور لا يحتاج الى رعاية فائقة كانتاج المحاصيل الاخرى، فان حالة الاضطراب هذه أثرت ولا بد فى تدهور المشروع كما وكيفا. وعادة ما كانت الأطراف المتقاتلة لا تلحق ضررا بالنخيل نفسها، لكن عدم استقرار الحيازة قد أدى بالضرورة الى عدم تفكير الناس فى مشاريع زراعية طويلة المدى. لقد ساد اذن مبدأ الصحراء (احتفظ بما يستطيع سلاحك المحافظة عليه) ، وجرى تطبيق هذا المبدأ فى مجال الأراضى الزراعية. انه اذا تم تطبيق هذا المبدأ عند رعى القطعان فى مساحات شاسعة فلا بأس، لكن ان تم تطبيقه فى واحة خصبة صغيرة المساحة لأدى الى عواقب وخيمة.
لقد احتفظت يثرب بأسس التنظيم الاجتماعى السائد فى الصحراء، فكانت كل عشيرة مسئولة عن أعضائها فكان الأخذ بالثأر أو دفع الدية «12» . واذا دافع شخص عن ممتلكاته ففقد حياته، فان التضامن القبلى يضمن أمن الممتلكات. لكن لغياب عامل بعد المسافة الموجود فى
Welhausen ،Op.cit. ،passim. (11)
(12)
ابن هشام، 341- 344، عن دستور المدينة.
الصحراء، فان هذا الاساس للامن القائم على القوة (القوة المسلحة للمجموعة) يصبح نكبة مدمرة. فالمجتمع المستقر يحتاج الى سلطة واحدة قوية لحفظ السلام بين الأفراد والجماعات المتنافسة، وهذا الى حد ما خارج المدى الذى يمكن أن يصل اليه الفكر البدوى.
لقد أدت المصالح التجارية فى مكة الى ربط الجماعات المختلفة معا ودعمت معنى واحدة قريش (رغم أن الظلم والشعور بالضيم الذى أحس به الفقراء وغير الأثرياء كان له تأثير
انفصالى أو كان سببا للشفاق والنزاع) ولم يكن فى المدينة مثل هذا العامل الداعى لتوثيق الروابط؛ لأن سكانها أقل تجانسا من سكان مكة. فالأسرة الصغيرة كانت هى الواحدة الكافية؛ لأنها تتواءم مع العمل الزراعى. ومن ناحية أخرى، ربما كانت النزعة الفردية أقل مما هى فى المحيط التجارى لمكة؛ لأنه مما لا شك فيه أن ظروف الزراعة العربية لا تعطى فرصة للتفاوت الشديد فى الثروات، كما يحدث فى المجتمع التجارى.
وفى كتاب الطبقات لابن سعد نجد أنه فى معرض الحديث عن غزوة بدر على الجانب الاسلامى تم ترتيب المقاتلين من القرشيين فى 15 عشيرة.
بينما ذكر 33 من الأوس والخزرج، وربما كان ذلك لاظهار أن ظروف المجتمع الزراعى تعزز الانقسام (التحول الى شظايا. (fragmentation *
وزيادة عدد التقسيمات (العشائر أو البطون.. الخ) فى قبائل المدينة، ربما يكون راجعا الى أن ذلك يلائم المشتغلين بالأنساب مادامت هناك تقسيمات كثيرة بالنسبة لأهل المدينة أكثر بكثير من تقسيمات قريش، أو- مرة أخرى- ربما كان ذلك- بشكل أو اخر- مرتبطا باستمرار تأثير النظام الأمومى matriarchy فى المدينة، أو لتوالى الأجيال فى الفترة ما بين أنصار بدر (الأنصار زمن غزوة بدر) من ناحية، وجدهم المشترك من ناحية أخرى.
وعلى أية حال، فبصرف النظر تماما عن صحة هذه التعليلات، فقد كان أهل المدينة أكثر تقسيما بكثير، وكانت تنقصهم الواحدة بالاضافة الى
* بمعنى تتفكك وتتحول الى كيانات صغيرة.
الحروب العنيفة (الانتحارية (Suicidal التى كانت تنشب بينهم، ومن هنا فان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما فيها من مضامين سياسية- كانت من الزم الأمور للمدينة لبعث الامل فى السلام.
وربما عبرت الاية القرانية التالية «13» عن هذه الفكرة:
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)) السورة 10 (يونس) .
فالنبى- بسلطته القائمة على الدين لا على الدم- يمكنه أن يعلو فوق الأعراق المتحاربة وأن يكون حكما بينها. وتحدثنا المصادر أن الأنصار تصوروا محمدا صلى الله عليه وسلم المسيح المنتظر الذى كان يتوقع اليهود مجيئه، فسارعوا- أى الأنصار- بقبوله «14» . لكن- ان كان فى هذه الرواية قدر من الصحة- فان هذه الفكرة عن المسيح هى التى ألفت بين الأنصار، بالاضافة الى فكرة الجماعة Community التى يتحلق أفرادها حول شخصية دينية ذات مواهب خاصة.
لقد كان لدى الأنصار اذن سبب قوى لقبول محمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وكان لهذا السبب- بلا شك- تأثيره. وبالاضافة لهذا، فقد كانت الأمراض الاجتماعية فى يثرب ذوات جذور دينية. فالنظرة البدوية التى يشارك فيها الأوس والخزرج تجعل معنى الحياة يكمن فى الشرف وشجاعة القبيلة أو العشيرة. وتتحقق مثل هذه الفكرة كأفضل ما يكون فى الجماعة الصغيرة المتماسكة نسبيا. انها لا تنطبق على الواحدة الكبيرة كالأنصار (يقصد اذا نظرنا للأنصار كواحدة كبيرة واحدة) ، ففى هذه الواحدة الكبيرة ليس من الضرورى أن يكون لكل فرد فيها ارتباطات خارج المجموعة الكبيرة (الأنصار) . فالحياة البدوية لا تدعم روح التضامن الا فى نطاق المجموعات الصغيرة. وبالاضافة لذلك، ففى يثرب لم يكن هناك ما يدعو للفخر- الا قليلا- فى هذا القتال المرير الذى استمر فترة طويلة.
(13) أوردنا الاية ورقمها بالمتن.
Welhausen ،Op.cit. 34. 55 f. 59 -62. (14)