الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى أية حال، فالمسألة لم تكن بسيطة، انها ليست مجرد احياء للمثل البدوية القديمة وانما كانت انتاجا لمثل عليا أخلاقية جديدة تتناسب وحاجات الحياة المستقرة. فكان انقاذ ما يمكن انقاذه جزا من المهمة لكنه أصغر أجزائها. فكثير مما هو جديد سيكون مطلوبا أيضا، وقد تناول القران الكريم هذا الجزء الأكبر فى بواكير ما نزل منه بتمهيد الطريق لايجاد قيم أخلاقية جديدة، أعنى أوامر الله ورسوله التى عن طريقها ستصل هذه القيم الجديدة. وقد وجه القران الكريم أوامره فى شكل مبادئ أو قيم عامة، دون التعرض للتفاصيل: وكون هذه القيم الجديدة التى يبثها القران الكريم ما هى الا أوامر من الله سبحانه، فان ذلك يشكل وازعا جديدا للالتزام بها، هذا الوازع الذى ارتبط بالحساب فى اليوم الاخر، لقد حل هذا الوازع فى بعض الحالات محل أى وازع قديم.
وصعوبة هذه المهمة الجديدة تتضح بالنظر الى القدر فى مفهوم (التزكى) . فالمعنى الأصلى للتزكى- فيما يبدو- قريب من معنى الصلاح والتقوى، وربما انطبق معنى الكلمة على الانسان الذى يؤمن بالمبدأ الذى مؤداه أن قدر الانسان النهائى أو مصيره النهائى معتمد على القيم الأخلاقية التى يطبقها فى حياته. وعلى أية حال، فان هذا المفهوم لم يكن مفهوما عربيا محليا، وبدأ بالتدريج يختفى من القران الكريم (المقصود أنه ورد فى أوائل ما نزل من القران ولم ينزل فى أواخر ما نزل منه) وحلت محله فكرة اسلام الوجه لله أو التسليم بقضاء الله وقدره.
وحتى اذا كان هناك تركيز شديد على الجانب الأخلاقى للتزكى بالقول ان هذه الكلمة تعنى الصلاح والتقوى، فان اهمالها (عدم نزولها بعد ذلك) يعد مثالا على الصعوبة الكامنة فى ايجاد مفاهيم جديدة يمكن أن تتجذر بنجاح وتلتحم بعمق فى القيم المحلية (العربية) عميقة الجذور.
(ج) الجانب العقلى
الجوانب العقلية للمسائل التى واجهت العرب أيام محمد صلى الله عليه وسلم أقل أهمية، لكن لا ينبغى اهمالها تماما، فهناك نقطتان مهمتان يجب وضعهما فى الاعتبار.
الأولى أن أهل مكة كانوا على وعى كامل بقدرات الانسان لكنهم نسوا خلق الانسان (بفتح الخاء) ، وكانت النظرة البدوية على وعى كبير أيضا بقوة الانسان، لكنها نظرة خفف من غلوائها اعتقادهم فى القضاء والقدر، واذا تناولنا التراث الاسلامى باعتباره دالا بعض الشىء على النظرة الجاهلية «22» (النظرات التى كان سائدة قبل ظهوره- أى الاسلام)، فهناك أربعة أمور خارج سيطرة الانسان: الرزق، وساعة الوفاة، والسعادة والشقاء (فى الحياة الدنيا) ، وجنس المولود (ذكر أم أنثى) ، وخارج هذا فللانسان أن يفعل ما يشاء، ان فى استطاعته أن يمارس كل ما تنطوى عليه كلمة (المروة) خارج هذه الأمور الأربعة التى لا يد له فيها وسواء تصرف وفقا لما تقتضيه مبادئ المروة أم لا، فان هذا يتوقف عليه هو (على الشخص نفسه) ، وعلى ميراثه (من أجداده) ، وان كان هذا العنصر الأخير غير محدد بما فيه الكفاية كما أنه مرتبط بما لا دخل للانسان فيه. وعلى أية حال، فهذه الحدود للقدرة البشرية التى اعترف بها البدو لم تكن واضحة تماما فى مكة، فالقوة المالية يمكنها أن تعوض كثيرا مما يترتب على نقص المطر، والمجاعة يمكن معالجة نتائجها بالاستيراد. ومرة أخرى، فقد كان من اليسير طوال جيل أو جيلين اعتبار امتلاك ثروة كبيرة أمرا مرتبطا بالسعادة، بل قد تبدو الثروة قادرة على مد أجل الانسان، وهكذا كانت هناك مبالغة فى تقدير قدرة الانسان وسلطانه وطغيانها على الحياة العقلية فى مكة.
والنقطة الثانية المهمة لا تبعد عن النقطة الأولى التى ذكرناها لتونا بل انها شديدة الارتباط بها، فحقيقة أن زعماء مكة- الذين كان فى حوزتهم أكبر قدر من السلطة السياسية- لم يكونوا أمثلة بارزة للمروة، ولا بد أن هذا قد أثار شكوكا عقلية لدى المفكرين فى ذلك العصر- شكوكا حول جوهر المروة كقيمة، وربما أيضا أثار شكوكا حول أثر الوراثة فى انتقال المروة أو على الأقل القدرة على تحمل قدر كبير منها. ومثل هذه الأفكار تقوض الأساس النظرى للتضامن القبلى وتشجع التطور نحو الفردية.
(22) انظر الفصل الأول، الفقرة (4) .