الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يرجع الى حقيقه انه رغم ممارستهم للوتنيه فانهم لم يكونوا خالين تماما من الفضائل التى دعا اليها القران، لذا لم يكونوا ميالين للدفاع العلنى عن ممارساتهم. فأن تكون أنانيا ذلك شىء، وأن تدافع عن الانانية كمبدأ ذلك شىء اخر. ولسنا فى حاجة الى أن نفترض أن الوتنيين كانوا ذوى ضمائر سيئة فى هذا الموضوع، رغم أن قلة منهم من ذوى الضمائر، ربما شعروا بوخز الضمير. لقد كانوا فى حاجة فقط لأن يكونوا على وعى بحقيقة أن سلوكهم كان مناقضا لروح المفاهيم التقليدية للشرف عند العرب، رغم أنهم من الناحية الرسمية لم يكسروا أية أعراف مقبوله.
واذا كان هذا صحيحا، فانه يجعلنا نميل لاظهار القران الكريم وكانه لم يكن نظاما أخلاقيا جديدا تماما، وانما هو امتداد للأفكار الأخلاقية التقليدية العربية بعد اخراجها لظروف وأحوال جديدة خارج التجربة البدوية. (نقل الأخلاق العربية ذات الطبيعة البدوية ليوائمها مع الحياة المدنية) .
(ب) النقد الكلامى لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
الى جانب النقد الموجه لفحوى رسالة الاسلام، كان هناك نقد وجهه أعداء للنبى الرسول- نقد لقول محمد صلى الله عليه وسلم انه نبى يتلقى الوحى من الله، كما أنهم نقدوا عملية الوحى فى حد ذاتها. فالاعتقاد بأن الكلمات التى تلقاها محمد وحى من الله سبحانه كانت مسألة حاضرة فى عقل محمد وقلبه منذ البداية، مهما كانت الطبيعة الدقيقة للتجربة الأولى المتعلقة بالوحى، وكان الاعتقاد فى الوحى كامنا فى الدعوة الأولى للاسلام منذ البداية. وتسجل بعض الايات القرانية الأولى محاولات المعارضة لاقلاق محمد صلى الله عليه وسلم، بافتراض تفسيرات أخرى للتجربة التى خاضها (الوحى) غير أن ما يأتيه من كلام ينزله الله سبحانه عليه.
لقد كان الزعم الذى أشاعه مناوئو محمد صلى الله عليه وسلم تفسيرا لظاهرة الوحى هى أن محمدا مجنون، أو بتعبير اخر تملكه جن «61» لكنهم افترضوا
(61) السورة 81/ 22، 68/ 2.. الخ.
أيضا أنه كاهن «62» ينمق الكلام، كما افترضوا أنه ساحر «63» أو ساحر شاعر6»
. ومن الصعب أن نعدل تفكيرنا ليتمشى مع عقليه وتنيى مكه عندما نطقوا بهذه الكلمات، لكن من خلال القران الكريم ومن مصادر أخرى «65» يمكن توضيح معانى العناصر الرئيسيه. فالدين زعموا هذه المزاعم لم ينكروا أن تجربة محمد صلى الله عليه وسلم مع الوحى لها بمعنى أو اخر سبب فوقى (علوى أو فوق طبيعى (Supernatural Cause لكنهم لم يرجعوا هذا السبب لله سبحانه وتعالى، وانما أرجعوه أما لموجود شيطانى أو قوة عليا أدنى درجة من الله سبحانه المهيمن على الكون.
وحتى تأكيدهم على أن محمدا شاعر يشير أيضا الى قوى علوية، فقد كانت الفكرة لدى معاصريه أن للشاعر روحا تتملكه أو جنا يتلبسه، ونحن نجد بالفعل عبارة (شاعر مجنون) فى القران الكريم «66» . هذه التأكيدات عن أصل الوحى (كما يراه أعداء محمد صلى الله عليه وسلم كان لها تتابعاتها وهى ألا ينظروا للتحذيرات التى جاءهم بها الوحى نظرة جدية، فليس من الضرورى- فيما يرى أعداء محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون تحذيرات حقيقية. فاذا كانت مصادر الوحى كما يراه المشركون فى ما ذكرناه انفا، فهذه المصادر اما أن تكون شريرة حاقدة، أو أن تكون قاصرة المعلومات.
هذه الادعاات (الاكاذيب) قد يكون الهدف منها هو تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فحسب وتشويه صورته، وليس بقصد تحويل من آمنوا به الى مصادقين لهم (أى لأعداء محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى أية حال فقد كان مناوئو محمد صلى الله عليه وسلم يعتقدون بشكل عام أن تصوراتهم صحيحة. وقد فند القران الكريم ادعااتهم وكذبها. وهناك عدة ايات- على أية حال- يمكن أن تكون دحضا لايات الغرانيق (الايات الشيطانية)«67» وقد ناقشناها فى سياق سابق، وتكفى الاشارة اليها هنا.
(62) السورة 69/ 42، 52/ 29..
(63)
السورة 38/ 3.
(64)
السورة 69/ 41، 52/ 30.. الخ.
(65)
Cf.A.Guillaume، Prophecy Divination، Lecture 6; D.B.Macdonald، The Religious attitude Life in Islam، Chicago، 1909، esp.24- 36.
(66)
السورة 37/ 35.
(67)
السورة 81/ 15- 27، 53/ 1- 18.
والمحاولة الثانية التى قام بها معارضو محمد صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالوحى هو تأكيدهم على أنه انتاج بشرى، أى اما أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد وضعه بنفسه أو ساعده على وضعه بشر اخرون «68» . واذا كانت هذه الايات راجعة الى الحقبة المدنية، فيمكن للمرء أن يتخيل ببساطة أن مثل هذه المهمة (مهمة الاخرين الذين زعم المشركون مساعدتهم محمدا صلى الله عليه وسلم فى وضع القران) قد قام بها اليهود، أو أن المقصود هم يهود المدينة، لكن هذه التهمة- تقليديا- قد ظهرت أثناء الحقبة المكية «69» ، وظهرت أسماء كانت هناك افتراضات من المشركين بأنهم ساعدوا محمدا فى وضع القران الكريم «70» . وسيعرف المؤرخ ثقة محمد التامة وايمانه الكامل بأن الوحى يأتيه من مصدر خارج ذاته، وقد يوافق المؤرخ أيضا أن محمدا قبل أن يتلقى الوحى، كان قد سمع بعض القصص من أشخاص مزعومين، وقد أشار القران الكريم الى هذه التهمة.
فهذه المزاعم التى مؤداها أن محمدا قد خرج برسالته للناس بعد أن تلقى دعما بشريا- مثل هذا الزعم بطبيعة الحال يختلف عن تهمة أخرى وردت فى القران الكريم عدة مرات وهو أن هذا الوحى (القران) ما هو الا كلام بشر، وقد وردت هذه التهمة فى سياق الحديث عن السحر «71» ، فالكلام المسجوع شبيه فى رأى أعداء محمد بكلام السحرة والمشعوذين الذين يضمنون أسجاعهم معانى غامضة، لكن هذا القول- بلا شك- يفترض أيضا أن محمدا يتلقى معلوماته من الجن.
أما النقد الثالث، فمساره أن محمدا لم تكن شخصيته من النوع الذى يأتيه الوحى. فلم يكن- فى رأيهم- مهما بما فيه الكفاية «72» بدليل أنه عندما أخبر بأنه نبى تعرض- ببساطة- للسخرية «73» .
وقصص الأنبياء التى أوردها القران الكريم تعكس ظروف محمد صلى الله عليه وسلم،
(68) السورة 25/ 5 وما بعدها، 32/ 2 وما بعدها، 16/ 103- 105.
Bell ،translation of Quran. (69)
Cf.Sale and Whervy on 16. 105. (70)
(71)
السورة 74/ 24، 21/ 3، 38/ 3.. الخ.
(72)
السورة 43/ 30.
.DE 43 /25 (73)
فنحن نجد أن ثمودا تقول لصالح انه كان واحدا منهم وانهم كانوا يثقون به (قبل هذا الذى أتى به)«74» ، وخاطبت مدين شعيبا قائلة انها كانت تظنه معتدلا صحيح العقل «75» ، لكنهم عادوا فأخبروه أنه ضعيف فيهم وهددوه بالرجم «76» .
والتركيز على عدم أهمية محمد لا بد أن يصرفه المرء نحو الحقبة المكية، أما فى المدينة فقد ارتفع شأنه صلى الله عليه وسلم. والاشارة الى أتباع الانبياء الاخرين كعبيد أو فقراء «77» ، ربما تعنى أيضا سخرية من محمد صلى الله عليه وسلم لكن هذه النقطة لا يمكن مهاجمتها.
ويمكن أيضا أن نتصور نوعا اخر من المناوئين توقعوا ألا ينزل الوحى الا على شخص ذى مواصفات فوق طبيعية، بينما هم يرون محمدا بشرا عاديا، فاستبعدوا أن يكون هو رسول الله، وبين القران الكريم أفكار هؤلاء وأقوالهم:
(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا
(93)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
(74) 11/ 65.
(75)
11/ 89.
(76)
11/ 93.
(77)
26/ 111، 23/ 40.
لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) ..) سورة الاسراء «78» .
ويوجد بعض الاختلاف فى الطبيعة الدقيقة لما يطلبون أن يكون عليه النبى أو يتوقعونه، لكن الافتراض الكامن فى ذلك دائما واحد، أعنى أن الله سبحانه لا يمكن أن يتجلى (يظهر) الا فى وقت يكون فيه نظام الطبيعة (الكون) قد اختل. والفكرة السامية القديمة التى مؤداها أن الخير أو الصلاح يزدهر (ينجح) فى هذا العالم، قد تكون أى هذه الفكرة- حاضرة أيضا. وثمة نقد اخر- ربما ينتمى الى هذه السلسلة من أفكارهم- وهو قولهم لماذا لم ينزل القران على محمد صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة «79» ؟
وبالاضافة لبعض التأكيدات انفة الذكر، يبدو أنهم وجهوا نقدا ما لدوافع محمد صلى الله عليه وسلم وأغراضه، وذلك ان جاز لنا أن نربط بين ما نسبوه اليه وما نسبه أعداء نوح له:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) ..) السورة 23 (المؤمنون) .
فمعظم المعانى الواردة فى هذه الايات تنطبق على الوضع فى مكة وطبيعة عقلية أهلها رغم أنها تشير الى نوح «80» وقومه، فعرض زعماء مكة على محمد الثروة والمكانة- بفرض أن الرواية بهذا الشأن صحيحة-
(78) وهناك سور أخرى تحوى ايات بهذا المعنى 17/ 92- 96، 21/ 7، 85/ 8- 25/ 22-، 26/ 154-، 41/ 13.
(79)
25/ 34.
(80)
23/ 24.
يبين أن أهل مكة يدركون طموح محمد صلى الله عليه وسلم ويريدون اللعب على هذا الوتر.
وعلى أية حال، فان رفض محمد صلى الله عليه وسلم لعروضهم هذه والاتجاه العام لمسلكه فى مكة، يجعل من غير المحتمل أن يكون الطموح السياسى كان من بين دوافعه المسيطرة. والقران الكريم يكرر باصرار المرة تلو المرة أن محمدا مجرد نذير. وذلك يعنى أن مهمته- ببساطة- هى أن يحذر الناس أو ينذرهم من حساب يعقبه نعيم أو عذاب. كيف استجابوا لهذا التحذير؟ تلك مسئوليتهم. لقد أنذرهم محمد صلى الله عليه وسلم وانتهى الأمر! وفى احدى الايات ما يشير الى أن محمدا ليس عليهم بمسيطر «81» أى أنه ليس حاكما لهم يملك الأمر والنهى. بل وثمة اصرار أبعد من هذا وهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم مثله مثل الأنبياء الاخرين- لا يريد أى أجر أو مكافأة من البشر وانما ينتظر ثوابه من الله سبحانه فحسب، ولا شك أن التركيز على هذه المعانى يعد بمثابة الرد على اتهامه بأنه يبتغى تحقيق مصالح لشخصه «82» . وأخيرا، فهناك ايتان يرجع تاريخ نزولهما فيما يظهر الى بداية الحقبة المدنية تشيران الى قبول فكرة القيادة السياسية التى خولها الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (4) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (5) ..)
السورة 28 (القصص)«83» .
رغم أن هاتين الايتين تشيران الى موسى عليه السلام وقومه الذين أذلهم فرعون، فليس هناك شىء متناقض فى مثل هذا الاتجاه، فوفقا لما ورد فى القران فان محمدا مقتنع تماما أن مهمته الأولى والأساسية هى مهمة دينية وتتمثل هذه المهمة فى أنه نذير، لكن هذه المهمة الدينية بالنسبة لأهل مكة تنطوى على مضامين سياسية، وعندما تطورت الأحداث كان تحويل هذه المضامين السياسية الى أفعال سياسية أمرا ضروريا فلم
(81) 88/ 22.
(82)
38/ 86-، 36/ 20، 11/ 3.. الخ.
(83)
فى سياق قصة موسى عليه السلام.