الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقد للنص ونقد للراوى، والتأمل فيه والتدبر فى محتواه، وبخاصة أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لم تجمع الا فى القرن الثالث للهجرة، أى بعد مضى أكثر من مائتى سنة على نطق الرسول صلى الله عليه وسلم بها، مما جعلها عرضة للتزوير والتزييف، وعرضة لأصحاب الغرض والهوى «1» . وقد جعل المحدثون وعلماء الحديث لأحاديث الرسول درجات، فليس كل ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحا، لأنه لم يدون فى غالبة وقت نطق الرسول به. وقد أفرد علماء الحديث مجموعات لبعض الأحاديث الموضوعة أى المكذوبة على رسول الله منها: المصنوع فى معرفة الحديث الموضوع الذى وضعه على القارى الهروى.
وقد تحاشى (وات) الرجوع للأحاديث المشكوك فيها واكتفى بصحيح البخارى، وهو باختياره هذا قد اختار الأحاديث التى أجرى عليها علماء الحديث منهجهم فى نقد سلسلة الرواة، والمتن أيضا.
وعندما ألف أسد رستم كتابه (مصطلح التاريخ) الذى حقق شهرة واسعة فى جيلى على الأقل، لم يفعل فى الحقيقة الا أنه أعاد صياغة ما ورد فى كتب مصطلح الحديث.
كتب السيرة والمغازى
رجع (وات) فى كتابه هذا الى أهم مصدرين تعرضا للسيرة النبوية على الاطلاق، وهما السيرة النبوية لابن اسحق (المتوفى 150 هـ) والتى
(1) من الكتب الأساسية التى تناولت علوم الحديث التى هى فى الواقع علوم نقد النص وتحقيقه نذكر: الباعث الحثيث فى شرح اختصار علوم الحديث، لابن كثير، شرح احمد محمد شاكر. علوم الحديث لابن الصلاح (أبو عمرو عثمان الشهرزورى) . ومن الكتب الحديثة: علوم الحديث ومصطلحه تأليف د. صبحى صالح، وعلوم الحديث لمحمد على قطب وغيرهما كثير.
هذبها ابن هشام (المتوفى 213 هـ) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (المتوفى 230 هـ) .
ومن المعروف أن كتب السيرة التقليدية، بالاضافة الى هذين الكتابين، هى: كتابات الواقدى (المتوفى 207 هـ) وعملان اخران كتبا فى زمن متأخر هما: الكتاب المعروف بسيرة ابن سيد الناس (توفى 724 هـ/ 1334 م) وقد جعل لها مؤلفها ابن سيد الناس عنوانا هو (عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير) ، وسيرة نور الدين الحلبى (المتوفى 1044 هـ/ 1624 م) المعروفة بين الناس باسم السيرة الحلبية. وقد جعل لها مؤلفها عنوانا هو (انسان العيون فى سيرة الأمين المأمون) .
وبتركيز وات على سيرة ابن اسحق (نقلا عن ابن هشام) وعلى الطبقات الكبرى لابن سعد يكون قد رجع للمصادر الأمهات التى اعتمدت عليها المصادر اللاحقة.
وقد تناول المؤلف مراجعه هذه فى ضوء منهج نقد النص أو معرفة ظروف تأليفه وربطه بالفترة الزمنية التى كتب فيها، ومعرفة اتجاهات الكاتب وما الى ذلك. وهى مسألة فى الغاية من الأهمية لابد أن يراعيها قراء كتب التراث، وهى لا تعنى تشكيكا بالضرورة فى هذه الكتابات، ولا تعنى- بالضرورة- انكار ما أوردته من معلومات، لكن هذه الظروف جميعا تعين على فهم التوجهات العامة التى قد يسير فيها المؤلف ربما بدون وعى منه. ومن المفيد أن نستطرد فى مسألة (تقويم المرجع) أو (نقد النص) هذه لأنها مسألة تنويرية خاصة فى ظل حركة نشر كتب التراث على نطاق واسع، ربما تأكيدا للذات، وتمسكا بالهوية وهو أمر مطلوب على أية حال.
ولتبسيط الأمور وجعلها أقرب للفهم لا بأس من ضرب أمثلة معاصرة، ثم نعرج بعد ذلك على أمثلة من السيرة النبوية. ألا يضيف الينا شيئا عند قراءتنا لكتاب عن عبد الناصر مثلا أن نعرف ان كان الكتاب قد تم تأليفه فى حياة عبد الناصر أم بعد مماته؟ ثم هل نشر الكتاب داخل مصر أم خارجها؟ وهل حظى بمباركة عبد الناصر أم أثار سخطه؟ وان كان
قد نشر خارج مصر، هل نشر فى دوله معادية لعبد الناصر أم فى دولة صديقة؟ وهل كان المؤلف يشغل منصبا فى حكومة عبد الناصر أم لا؟
وهل كان فى موقع يسمح له بالاطلاع على دواخل الأمور؟ وهل كان جزا من النظام؟ أم هل استقى معلوماته من المصادر العامة المتاحة، وكان كل دوره هو التحليل والتعليل؟ هل هو مصرى؟ هل هو اسرائيلى؟
هل هو عربى؟ هل هو غير ذلك؟ هل استفاد من النظام؟ هل أضير فى ظل النظام؟ من الجهة التى مولت الكتاب؟ هل كتبه بتكليف؟
هل هو كتاب دراسى؟ .. الخ. ألا تضيف اجابات هذه الأسئلة بعدا للكتاب وتوضيحا لبعض ما ورد به؟
هذا بالتأكيد صحيح، وليس معنى هذا أننا نشكك جازمين بما ورد فيه. لكن معرفة هذه الأمور بالنسبة لأى كتاب- تراثى أو غير تراثى- مسألة مهمة لفهم محتواه، وما قيل عن كتاب يتناول عبد الناصر، يقال عن كتاب اخر يتناول السادات، ويقال عن أى كتاب على وجه الاطلاق.
يكفى للدلالة على أهمية تقويم المرجع أن نضع بين أيدينا مجموعة كتب عن أسرة محمد على قبل قيام ثورة يوليو 1952، ومجموعة كتب أخرى بعد هذه الثورة. ولنقارن. ليس من الضرورى أن تكون المجموعة الأولى غير دقيقة بالضرورة، وليس أيضا من الضرورى أن تكون المجموعة الثانية صحيحة أو العكس. وقد تكون المعلومات فى كليهما صحيحة. وانما جرى التركيز على معلومات بعينها واغفال أخرى.. وهكذا.
نورد هذا لنقول، انه من المفيد أن نعرف أن ابن اسحق قدم كتابه عن السيرة الى الخليفة العباسى الثانى أبى جعفر المنصور لتكون بمثابة منهج دراسى يدرسه ولى عهده المهدى. وقد طلب المنصور أن يشتمل الكتاب على تاريخ البشرية منذ ادم عليه السلام. وفى رواية الخطيب البغدادى أن الذى كلفه بتأليف الكتاب هو المهدى (
…
دخل محمد ابن اسحق على المهدى وبين يديه ابنه فقال له: أتعرف هذا يا ابن اسحق؟
قال نعم، هذا ابن أمير المؤمنين. قال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله تعالى ادم عليه السلام الى يومك هذا..) «1» .
ليس معنى هذا أننا نقول ان ابن اسحق قد حابى بنى العباس ونزع من تاريخ أسرتهم ما لا يرضيهم، لكنه ربما يكون قد خفف الصياغة، كما أنه ليس من الضرورى أن يكون زور تاريخ عبد شمس. لكنه ربما يكون قد ركز على نقاط دون سواها. والواقع، أنه كان من الصعب جدا تزوير التاريخ بشكل واضح لأن القبائل التى عاصرت الدعوة الاسلامية كانت لا تزال موجودة لم تنقرض، وما كان ابن اسحق يؤلف كتابه بشكل سرى، فلا بد أن أفرادا من قبائل وعشائر مختلفة قد سمعوا بما حواه ان لم يكونوا قد قرؤه.
وعندما يقوم وات باثارة أمور كهذه، مجرد اثارة دون تأييد أو معارضة، فهو لم يفعل أكثر من ممارسة حقه فى تقويم المصدر.
وسنعتمد فى العرض الذى سنقدمه فى السطور التالية عن ابن اسحق على كتاب مهم ألفه المستشرق الألمانى جوزيف هوروفتس هو (المغازى الأولى ومؤلفوها) ، الذى ترجمه الدكتور حسين نصار «2» ومراجع أخرى.
ومحمد بن اسحق هو أعظم التلاميذ الذين تخرجوا على يد شيخ مؤرخى السيرة فى القرن الأول وهو محمد بن شهاب الزهرى. واسمه الكامل هو أبو عبد الله محمد يسار وكان جده يسار من نصارى العراق الذين وقعوا فى أسر المسلمين سنة 12 هـ فكان رقيقا لبنى قيس بن مخرمة ابن المطلب. واعننق يسار الاسلام فحرره سيده، لذا فهو من الموالى.
وعندما رزق اسحق بابنه محمد دفع به الى من يعلمه الحديث والفقه، وعلمه بنفسه فقد كان اسحق من رواة الحديث. وقد نقل ابن اسحق فى
(1) الخطيب البغدادى، أبو بكر أحمد بن على الخطيب: تاريخ بغداد، ج 1، ص ص 214- 234.
(2)
نشر فى القاهرة، سنة 1949.
كتابه معلومات كثيرة عن شيوخه: عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله ابن أبى بكر بن حزم، ومحمد بن شهاب الزهرى، وهذا الأخير هو أهمهم جميعا.
وقد زار ابن اسحق الاسكندرية سنة 115 هـ فدرس على يد محدثها يزيد بن ابى حبيب، ثم عاد للمدينة المنورة. وقد أورد ابن خلكان فى ترجمته له «1» ما نصه:
«وكان محمد المذكور ثبتا فى الحديث عند أكثر العلماء، وأما فى المغازى والسير فلا تجهل امامته، قال ابن شهاب الزهرى: من أراد المغازى فعليه بابن اسحاق، وذكره البخارى فى تاريخه، وروى عن الشافعى رضى الله عنه انه قال: من أراد أن يتبحر فى المغازى فهو عيال على ابن اسحاق، وقال سفيان بن عيينة: ما أدركت أحدا يتهم ابن اسحاق أمير المؤمنين، يعنى فى الحديث، ويحكى عن الزهرى أنه خرج الى قرية له فاتبعه طلاب الحديث فقال لهم: أين أنتم من الغلام الأحول، يعنى ابن اسحاق، وذكر الساجى أن أصحاب الزهرى كانوا يلجأون الى محمد بن اسحاق فيما شكوا فيه من حديث الزهرى، ثقة منهم بحفظه، وحكى عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان أنهم وثقوا محمد بن اسحاق واحتجوا بحديثه، وانما لم يخرج البخارى عنه وقد وثقه، وكذلك مسلم بن الحجاج لم يخرج عنه الا حديثا واحدا فى الرجم من أجل طعن مالك بن أنس فيه
…
» .
ويقال، ان ابن اسحق كان من أنصار مذهب القدرية (مسئولية الانسان عن فعله خيرا أم شرا) وهو مذهب المعتزلة، ومعنى هذا أن الرجل كان ذا ميول مناهضة لبنى أمية، وقد قام وات فى كتاب اخر له عن القضاء والقدر، بربط المذاهب والاتجاهات التى تبدو وكأنها مسائل دينية خالصة، بالتوجهات السياسية «2» . وبشكل عام، فقد كان علماء الحديث
(1) وفيات الأعيان- ترجمة محمد بن اسحق.
(2)
راجع الدراسة الملحقة بكتاب (القضاء والقدر فى فجر الاسلام وضحاه) تأليف مونتجمرى وات، ترجمة د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ- سلسلة الألف كتاب الثانى.
لا يثقون كثيرا فى الاخباريين وكتاب السير، بسبب دقتهم الشديدة- أى علماء الحديث- فى تحرى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك ليس بمستغرب أن تكون علاقة ابن اسحق بمالك بن أنس عالم المدينة ومحدثها علاقة غير طيبة. وقد عاد ابن اسحق الى العراق بعد سقوط الدولة الاموية، وربما يكون حبه للعباسيين هو الذى دفعه للمقام فى العراق، وفيه وافته منيته فى بغداد سنة 151 هـ أو 152 هـ على خلاف.
أما الكتاب الثانى من هذه الفئة من الكتب (السير) الذى اعتمد عليه وات فهو الطبقات الكبرى لابن سعد، واسمه الكامل محمد بن سعد ابن منيع البصرى، المولود فى البصرة سنة 168 هـ، وكان ابن سعد مولى للهاشميين، وان كان ابن خلكان يجعل ولاء ابن سعد لبنى زهرة، وكان كاتبا للواقدى ودرس فى المدينة المنورة وبغداد والكوفة. وقد تقيد ابن سعد بأسلوب مدرسة الحديث فى ايراد أخباره التاريخية، لذلك كانت علاقته بالفقهاء وعلماء الحديث أفضل من علاقة ابن اسحق بهم. ورغم أن كتاب ابن سعد يندرج تحت كتب الطبقات، الا أن الدراسة الطويلة المفصلة التى أوردها فى الجزء الأول عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم جعلت الباحثين حتى المستشرقين- يعتبرونه واحدا من كتاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم نتعرض بايجاز لكتاب الواقدى (130- 208) . وكان الواقدى منتميا بالولاء لعبد الله بن بريدة من بنى أسلم (من أهل المدينة) وذكر هو نفسه أنه انتمى بالولاء للهاشميين، وقد ولد فى اخر الدولة الأموية، ومات عن عمر يناهز الثامنة والسبعين ودفن فى بغداد. ولاه الخليفة الرشيد قضاء الجانب الشرقى من بغداد. وكان الواقدى من شيوخ الحديث، ومن المعروف أن علم التاريخ عند المسلمين قد تأثر كثيرا بمنهج علماء الحديث. وغلبت على الأخبار التى جمعها فى كتابه (المغازى) وهو الكتاب الذى نحن بصدده الصفة التشريعية، لذلك فهذا الكتاب يقع فى موقع وسط بين كتب الحديث وكتب السيرة (تاريخ النبى صلى الله عليه وسلم .
وهو كغيره من كتب السيرة لا يهتم كثيرا بالفترة السابقة على الاسلام، وكان الواقدى لا يكتفى بالسماع وانما عاين مواقع الغزوات بنفسه وقام