الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعتبر أمرا يسهل القيام بأعمال نبيلة، بالرغم من أن الصفات الخلقية للفرد لم تتوقف أبدا على نبل النسب واحده. ونتيجة للتكافل القبلى عند العرب لم تشغلهم مشكلة الحرية الفردية الا قليلا. ولكن من المحتمل أن يكون نمو الفردية قد أدى، فى زمان شباب محمد عليه الصلاة والسلام ، الى اضمحلال هذه «الانسانية القبلية» كقوة دينية حيوية.
فحتى ذلك الحين لم يهتم الرجال كبير اهتمام بقدر الفرد طالما أن القبيلة باقية، أما الان فقد بدموا يتسائلون عن المصير النهائى للانسان، ولم يكن هناك طريق للانتقال من الانسانية القبلية الى الانسانية الفردية، لأنه فى غياب الايمان بخلود الانسان لم يكن هناك شىء دائم بالنسبة للفرد، أما فى حالة الانسانية القبلية، فقد كان فى امكان الرجال أن يروا أن القبيلة باقية، وكذلك وقبل كل شىء، الدم الذى ربما كانوا يعتبرونه مصدر الصفات النبيلة للقبيلة. وفى مجال العقيدة، يبدو أن المشكلة الرئيسية فى زمان محمد صلى الله عليه وسلم كانت انهيار «الانسانية القبلية» ، فى مواجهة التنظيم الجديد للمجتمع الذى تتزايد فيه الفردية.
(ج) ظهور الاتجاه نحو التوحيد
نوقشت العلاقة بين تعاليم الاسلام و «المصادر» اليهودية المسيحية الى درجة مثيرة للغثيان، ولن نتناول هذا الموضوع هنا بأية درجة من التفصيل، ولكن يستحسن أن نقول شيئا عن الزاوية التى يجب أن يناقش منها، نظرا لأن اتجاه علماء الغرب كان غالبا غير صحيح لأنه يتضمن- أو يبدو أنه يتضمن- انكارا للمذاهب الدينية الاسلامية. وحتى من وجهة نظر أفضل علماء الغرب، فان الدراسات الغربية للقران كانت غالبا غير صحيحة، فقد ركزت على الجانب الأدبى، ونسى أصحابها أن الجانب الأدبى ليس الا جانبا واحدا من جوانب الصورة، وأن الأعمال الأدبية فيها أيضا العمل الخلاق للشاعر أو الكاتب المسرحى أو القصصى، ولم يثبت وجود الجانب الأدبى أبدا غياب الأصالة الخلاقة.
ويشبه الدين الأدب كما يختلف عنه أيضا، ففى مقدورك أن تبين أن عاموس Amos أو حزقيال Ezekiel قد أخذا كثيرا من المفاهيم
ممن سبقوهما، ولكنك اذا درستهما من هذه الناحية فقط فانك ستفقد الاحساس بأصالتهما وتفردية الوحى الالهى الذى جاء عن طريقهما.
ينظر المسلمون الى القران على أنه وحى الهى، أو كلام الله، ومن ناحية أخرى فان القران يتحدث بصراحة عن معتقدات الوثنيين العرب كما يتحدث عن بعض الأفكار التى مرت بخاطر محمد عليه الصلاة والسلام والمسلمين، كما أن هناك ايات يمكن منها استنتاج مستقبل محمد عليه الصلاة والسلام ومعاصريه بدرجة عالية من اليقين، وهذه الحقائق توحى بطريقة معالجة مسألة التأثيرات اليهودية المسيحية التى ترضى علماء الغرب بينما لا يكاد يقبلها المسلمون، والمفروض أن تكون المرحلة الأولى هى السؤال: ماذا ذكر القران أو تضمن عن معتقدات العرب فى زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، سواء منها التقدمية المثقفة أو المتحفظة؟ ثم بعد ذلك يمكننا أن نسأل الى أى مدى نستطيع أن نتتبع اثار التأثير اليهودى المسيحيي.
تعطى الايات الأولى للقران «1» انطباعا بأنها موجهة لقوم يؤمنون بالله، وان كان هذا الايمان يشوبه الكثير من الابهام والارتباك. وقد فسر القران كلمات غريبة اذا ذكرت واحدها لم يفهمها السامع مثل سقر والقارعة والحطمة وأمثالها ولكنه لم يفسر كلمات مثل رب أو اله، ويدل التعبير «رب هذا البيت» (أى الكعبة) فى سورة قريش على أن المثقفين من أهل مكة كانوا يعتبرون أنفسهم عبادا لله. وكلمة الله اختصار للتعبير «الاله» * كما يعنى تعبير هوثيوس hotheos فى الاغريقية، ولكنه يفهم على أن المقصود به هو الاله الأعلى. ومن المحتمل أن الوثنيين فى مكة قبل زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يستعملون أسم الله للدلالة على الاله الرئيسى للكعبة، كما كان الاله المعبود فى الطائف يسمى
(1) انظر الفصل الثالث الفقرة 2- (المؤلف) .
* الله اسم للخالق، والألف واللام فيه أصلية وليست للتعريف، وهو لا ينون ويعامل نحويا معاملة خاصة، وذلك غير كلمة (اله) - (المترجم) .
اللات، أى الالهة. فاذا كانت كلمة الله قد استخدمها اليهود والمسيحيون بنفس المعنى؛ فان فرصة اختلاط الأمور تكون كبيرة، ويكون الاحتمال الأرجح هنا أنه بينما امن بعض أهل مكة بالله، فانهم لم يروا أن معتقداتهم القديمة فى تعدد الالهة تتعارض مع اعتقادهم فى الله حتى يرتضوها.
هذه الأحاسيس الداخلية بالتوحيد بين العرب لابد أنها نتيجة للتأثيرات المسيحية واليهودية بصفة أساسية «1» ، *، فقد كان أمام العرب فرص كثيرة للاتصال بالمسيحيين واليهود، فالامبراطورية البيزنطية، التى كان العرب معجبين الى درجة كبيرة بقوتها وحضارتها
(1) انظر التذييل ب- (المؤلف) .
* رسل الله محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام أبناء ابراهيم، وابراهيم كان خليل الرحمن مواحدا مسلما كما يجب أن يكون الاسلام- إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (النحل 120، 121) وكذلك كان رسول الله اسماعيل عليه السلام مواحدا التوحيد الصحيح السليم الذى لم تشبه شائبة لأنه كان رسولا. واذكر فى الكتاب اسماعيل أنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (مريم 54) . وكان العرب من ذرية اسماعيل والقبائل الاخرى التى عاشت معهم فى مكة مواحدين على دين ابراهيم عليه السلام، وقد ذكرنا من قبل أنهم كانوا يحجون ويعتمرون بنفس المناسك التى نحج بها ونعتمر اليوم وذلك قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يلبون بنفس صيغة التلبية التى نلبى بها اليوم. واستمر الوضع كذلك حتى أدخل عمر ابن لحى عبادة الأصنام تقليدا لبعض قبائل الوثنية التى مر بها فى رحلة الصيف الى الشام فبدأ التحريف فى دين ابراهيم بادخال عبادة الأصنام معه، وكان منطقهم أنها تقربهم الى الله زلفى- ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى (الزمر 3) . وفى الاية التالية أثبت الله عز وجل لهم أنهم يعبدونه ولكنهم أشركوا بعبادته هذه الأصنام. وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون (يوسف 106) ولقد تكرر قول الله عز وجل: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله (لقمان 25، الزمر 38) . ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله (العنكبوت 61) فهم يعرفون الله عز وجل ويزعمون عبادته ولكنهم جعلوا له شركاء من أصنامهم، فالتوحيد اذن موجود عند العرب مند عهد ابراهيم عليه السلام. والتوحيد فى الاسلام ايمان باله واحد ليس كمثله شىء وليس فيه تعددية وليس له زوجة أو ولد. وفى النهاية لا ننسى أن كلا من محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام رسل الله عز وجل ودعوة الرسل كلهم واحدة وهى الدعوة الى التوحيد.
العالية، كانت مسيحية، وكذلك كانت الحبشة، وحتى فى الامبراطورية الفارسية كانت المسيحية قوية، والحيرة التى كانت ولاية تابعة للفرس، وكان العرب على صلة وثيقة بها كانت قاعدة أمامية للكنيسة الشامية الشرقية أو النسطورية. ولا شك أن هذا المزيج من التوحيد والقوة العسكرية والسياسية والمستوى العالى للحضارة المادية قد أثر فى العرب تأثيرا كبيرا. وبالفعل، فقد تحولت القبائل البدوية والمجتمعات المستقرة القريبة من هذه الدول الى المسيحية تدريجيا، وحتى بعض التجار من أهل مكة الذين كانوا يرتحلون الى مدن الأسواق على الحدود للتجارة لم يكونوا بعيدين عن التأثر بما كانوا يرونه، وكذلك كان هناك مسيحيون فى مكة، تجارا وعبيدا، ولكن ربما لم يكن تأثير هؤلاء الأفراد بالدرجة الكافية من الأهمية.
لم تكن فرص الاتصال باليهود كبيرة كما كانت بالنسبة للمسيحيين، ولكن ربما كانت بعض هذه الصلات حميمة، وبخاصة فى المدينة حيث عاش اليهود والعرب الوثنيون جنبا الى جنب، كما كان هناك أيضا عدد من القبائل اليهودية تعيش فى واحات فى شبه الجزيرة العربية وفى المناطق الخصبة من جنوبها، اما لاجئين من بنى اسرائيل أو قبائل عربية اعتنقت اليهودية، ولكن من الواضح أنه لم يكن هناك يهود فى مكة.
اذا تحدثنا عن التفاصيل، نجد أن الجماعات اليهودية والمسيحية التى أثرت على العرب كان لها بلا شك الكثير من الأفكار الغريبة، ولا نعنى بذلك هرطقة الشاميين الشرقيين (النسطوريين) أو أصحاب مبدأ الطبيعة الواحدة للمسيح Monophysites الذى كان عليه باقى أهل الشام والحبشة، فقد كانت تعبيرات علماء اللاهوت التابعين لهاتين الكنيستين معتدلة بالمقارنة بكثير من الأفكار الشاذة المستقاة من بشارات الأسفار المشكوك فى صحتها وما أشبه، والتى يبدو أنها كانت منتشرة فى شبه الجزيرة العربية. ولا شك فى أن ايات القران التى تومىء الى أن الثالوث يتكون من الأب والابن ومريم العذراء انما هى نقد لبعض العرب
المسيحيين اسما والذين كانوا يعتقدون ذلك*. أما فى الجانب اليهودى، فان كثيرا من التفاصيل لم تأت أيضا من الكتب المقدسة بل من مصادر ثانوية مختلفة.
لا نستطيع أن نستبعد تماما احتمال التأثر بالجماعات المواحدة غير اليهود والمسيحيين ولكنه كان فى أحسن الأحوال ضئيلا، فربما كانت هناك مجتمعات صغيرة تؤمن بتوحيد مؤسس على فلسفة اغريقية مثل الصابئة، وقد يكون ذلك بعض التفسيرات المحتملة لبعض استخدامات كلمة «حنيف» «1» ، **. وهنا يمكننى أن أقول ببساطة انه ليست هناك أية أدلة صحيحة عن أية حركة متفق عليها نحو التوحيد، واذا كانت هناك مثل هذه الحركة فمن المؤكد أنها كانت لدوافع سياسية مثل اعتناق عثمان بن الحويرث للمسيحية ليكون الحاكم الوحيد لمكة بمساعدة البيزنطيين، ومع ذلك فهناك قدر من الحقيقة فى الرواية التاريخية عن «الحنفاء» كباحثين عن دين جديد، ففى الوضع الدينى لشبه جزيرة العرب، وبصفة خاصة فى مكة، الذى كان فى نهاية القرن السادس، لا شك أنه كان هناك كثير من الرجال ذوى العقول الراجحة كانوا يشعرون بفراغ ويتوقون الى العثور على شىء يرضى احتياجاتهم.
وأخيرا، يجب ملاحظة أنه قد حدثت بعض التعديلات فى الأفكار اليهودية- المسيحية حتى يمكن استيعابها فى المنظور العربى، وقد رأينا
* اشارة لقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) المائدة/ الاية 13.
(1)
انظر التذييل ج (المؤلف) .
** قال ابن منظور فى قاموس لسان العرب. «الحنيف المسلم الذى يتحنف عن الأديان، أى يميل الى الحق، وقيل هو الذى يستقبل قبلة البيت الحرام على ملة ابراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل هو المخلص، وقيل هو من أسلم فى أمر الله فلم يلتو فى شىء
…
وقال أبو عبيدة: من كان على دين ابراهيم فهو حنيف عند العرب، وكان عبدة الأوثان فى الجاهلية يقولون: نحن حنفاء على دين ابراهيم فلما جاء الاسلام سموا المسلم حنيفا
…
وقال الزجاجى: الحنيف فى الجاهليد من كان يحج البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن، فلما جاء الاسلام كان الحنيف المسلم» . وكان الاختتان وغسل الجنابة والحج هو ما تبقى عن الأعمال من دين ابراهيم عليه الصلاة والسلام (المترجم) .
كيف انتقلت الأفكار القديمة المتعلقة بالدهر الى التعلق بالله، وقد تغلغلت فكرة الاله فى نفوس العرب، الى درجة أن الوثنيين كانوا يقولون ان خرافتهم كانت أوامر من الله:«وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» (الأعراف 28) ، وربما كان التفسير الدينى لانسحاب أبرهة من مكة موجودا من قبل القران (حتى لو كان القران قد ذكر الحادثة) كما أن العلم بأن هودا وصالحا* كانا نبيين فى عاد وثمود ربما كان مثالا سابقا للقران لتطبيق المفهوم اليهودى- المسيحيي للنبوة.
واذا كان مسيلمة بنى حنيفة قد ادعى النبوة قبل محمد عليه الصلاة والسلام كما يقول البعض، فان هذا يبين كيف كان لمفهوم النبوة جذوره**. وقد انعكس الاستيعاب فى المنظور العربى فى قبول
* تقع مدائن صالح فى طريق قوافل الشام وكان العرب يرونها فى ذهابهم وعودتهم، ولا زالت هذه المدائن الى يومنا هذا خاصة البيوت المنعوتة فى الجبل. وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (الشعراء 49) فالعرب (وأهل مكة بالذات) كانوا يعرفون مدائن صالح منذ أن كان هناك قوافل الى الشام، كما أن الأحقاف وهى أرض عاد قوم هود تقع فى جنوب شبه الجزيرة العربية فهى أقرب الى العرب من اليهود الذين كتبوا العهد القديم فى فترة السبى فى بابل، فليس هناك أى مبرر للقول بأن العرب قد عرفوا صالحا وهودا عن طريق اليهود (ليس فى العهد الجديد ذكر للأنبياء السابقين) خاصة وأنه من المعروف ولع بحفظ أنسابهم وتاريخهم. كذلك فلاحظ أن الله عز وجل قال بعد ذكر قصة نوح عليه السلام: تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا (هود 49) . بينما لم يذكر مثل هذا التعبير عند ذكر عاد وثمود؛ مما يوحى بأن أخبارهما كانت معروفة للعرب ولو بصورة مجملة- (المترجم) .
** قال البخارى رحمه الله: «قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: ان جعل لى محمد الأمر من بعده اتبعته» . وكان قدوم مسيلمة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع من الهجرة، أى بعد 21 عاما من البعثة، وكان ضمن وفد بنى حنيفة، وهذا دليل على أنه حتى قدومه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قد ادعى النبوة. وقال ابن اسحق (وهو من المراجع الرئيسية التى أخذ عنها المؤلف) : «فلما انتهوا الى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ (أى ادعى النبوة) وتكذب لهم وقال: انى قد أشركت فى الأمر معه (يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام . أما صفة الكذاب فقد أطلقها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد أرسل مسيلمة رسالة الى الرسول يقول فيها: من مسيلمة رسول الله الى محمد رسول الله افرد-
المفاهيم اليهودية- المسيحية أو رفضها، بالرغم من أنه من الصعب عادة أن نبين أن العرب كانوا على علم بفكرة لم يرد لها ذكر، وأنهم لهذا قد رفضوها.
لا يكاد يكون ضروريا، لدراسة حياة محمد عليه الصلاة والسلام ، تحديد الأهمية النسبية للتأثيرات اليهودية والمسيحية، خاصة وأن كثيرا من التفاصيل موضع خلاف، ولكن الضرورة الرئيسية هى أن ندرك أن مثل هذه الأشياء كانت منتشرة قبل مجىء القران الى محمد عليه الصلاة والسلام ، وأنها كانت جزا من اعداده واعداد بيئته لرسالته.
الرسول عليه الصلاة والسلام برسالة قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب (المترجم) .