الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وات ببعض ما قاله المستشرق لا مانس من أن بدو الصحراء كانوا ينظرون لأموال شيخ القبيلة باعتبارها عزا لهم، وأنهم يعتبرونه مستودعا للأموال امينا عليها depositaire وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد أعاد شيئا من هذا المفهوم. كما أعاد فضيلة الكرم الى معناها الأصلى بعد تفريغها من الزيف والتفاخر.
وما كان التحالف المالى والعشائرى ليترك محمدا صلى الله عليه وسلم ومن آمنوا برسالته، وهذا يوضح قضية فى الغاية من الأهمية وهو أن عدد المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم طوال الحقبة الملكية كان قليلا، وهنا يضيف (وات) بعدا جديدا للهجرة الى الحبشة، وهى خوف محمد صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الردة، ففى وسط هذه الشبكة المالية العشائرية المعقدة تظهر الأنياب (الزرق) والذبح بفتائل الحرير، والتامر والمكائد والاغراء بالمال..
وكانت قريش بارعة فى ذلك كله، اذ كانت تحارب غالبا بغير أفرادها، وتحرض وهى بعيدة، تماما كما يفعل التاجر الثرى الذى- فى الغالب الأعم- لا يرتكب جريمة بنفسه، ولا يمارس فعلا مخالفا للقانون، الا من وراء ستار وبأيدى الاخرين، لكنه قابع دائما وراء الستار. فى هذا الجو خشى محمد صلى الله عليه وسلم وفقا لتحليلات وات- من ردة هذه القلة القليلة التى اتبعته فى المرحلة المكية، فكانت هذه احدى أسباب دعوته لبعض أصحابه للهجرة الى الحبشة، بالاضافة لدوافع أخرى. انها أفكار وات قد نأخذ بها أو لا نأخذ؛ لكنها جديرة بالتأمل.
عند قراءتى لكتب (وات) ، أتذكر على الفور قول الباحث الايطالى الشهير بنديتو كروتشه - (1952 -1866) Croce الذى كتب عدة مباحث فى فلسفة التاريخ- «كل التاريخ تاريخ حديث» وهو يعنى أن عزل الظاهرة التاريخية فى زمانها، يقطع الطريق على فهمها، ولعل طريقة تناول وات لبعض الظواهر الاجتماعية عند تاريخه لأحوال مكة
وحياة محمد صلى الله عليه وسلم وهو ما سنتناول جانبا منها فى هذه الفقرة- تؤكد ذلك. فعلى سبيل المثال: أتظل قيم الانسان ومفاهيمه كما هى بعد تغير أوضاعه المادية، أم أن هذه الأوضاع المادية أو الاجتماعية الجديدة تنسف كل ما مضى فى لمحة واحدة؟ بمعنى هل احتفظ أهل مكة- وهم بدو فى الأساس- لكنهم استقروا بعد ذلك، بقيمهم الأولى أم حوروها أو تحورت معهم؟ اننا نفهم من الفصل السادس أنهم ظلوا محتفظين بمبدأ صحراوى- كان غير مضر كثيرا فى الصحراء- وهو:«احتفظ بما يستطيع سلاحك الاحتفاظ به» . كان هذا مقبولا فى الصحراء الواسعة، وكان وضع اليد على مناطق المراعى يضمن لمن يفعل ذلك طعاما لقطعانه، وكان هذا أمرا مطلوبا الى حد ما.. لكنه عندما يطبق فى مجتمع مستقر تضيع أراضى الدولة، ويصبح الأمن مجرد قشرة تنطوى على الحقد والضغائن، بل وتصبح الاضطرابات والمناوشات أفضل من مثل هذا الأمن. وقيمة الكرم فى الصحراء ليست فضيلة فحسب وانما هى أمر ضرورى لاستمرار الحياة، وقد مسخ أهل مكة هذه القيامة فأصبحت مجرد مظاهر، والتماسك الأسرى أو القبلى مطلوب فى الصحراء، لكن المصالح المالية طغت عليه فى مكة، فأصبح مجرد شكل خال من المضمون، فأنا لا أنفعل دفاعا عن قريبى أو ابن قبيلتى الا ازاء القبائل الاخرى، أما بينى وبينه فاننى أسومه سوء العذاب.. الخ.
فعندما يستقر البدو لا يتحولون الى حضر ببساطة وبمجرد استقرارهم، وعندما يهاجر الفلاح الى المدينة لا يصبح مدنيا هكذا بمجرد انتقاله، وعندما يتحرر العبد أو المملوك، لا يصبح حرا- هكذا وببساطة- بمجرد عتقه. قضايا على هذه الشاكلة يسوقها وات فى مباحثه.
لكن، أمعنى هذا أن كل المفردات التاريخية التى أوردها وات صحيحة؟ هذا ما لا يمكن الجزم به، وهناك معلومات نميل الى أنها غير صحيحة، وقد علق الأخ حسين على بعض ما أورده وات فى المقدمة وفى الفصل الأول، وأقررته على غالبها، وقمت أنا بالتعليق على بقية فصول
الكتاب، وتلك أيضا قسمتنا فى الترجمة فقد ترجم الأخ حسين المقدمة والفصل الأول وجانبا من الفصل الثانى، وقمت بمراجعة ترجمته الطيبة. ومع هذا، فكل عمل لا يخلو من هنات، فالكمال لله واحده.
ونظرا لأهمية الموضوع ودقته كان من المفيد كثيرا عرضه على أستاذ جليل متخصص فى التاريخ الاسلامى ومقارنة الأديان، فأسعدنى كثيرا أن قام بمراجعته الأستاذ الدكتور أحمد شلبى، وأبدى تعليقات محدودة يجدها القارىء مشفوعة باسمه.
وعلى الله قصد السبيل.
د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ
مقدمة
ليس من اللائق أن يظهر هذا الكتاب دون أن أؤدى دينا فى عنقى لذكرى أستاذى وصديقى ريتشارد بل Richard Bell، أستاذ اللغة العربية فى ادنبره سابقا، فقد كان أول من أرشدنى أثناء دراستى للاسلام، وفى الأعوام الأخيرة، كان كلما استشرته فى مسألة أعطانى من وقته وعمله وحكمته بلا حدود. قرأ المسودة الأولى لهذا الكتاب، وبالرغم من أنه لم يتقبل وجهه نظرى فيه قبولا تاما، الا أنه قدم الكثير من الاقتراحات النافعة بالاضافة الى السماح لى برؤية كتاباته التى لم تكن قد نشرت. وقد أخذت معظم استشهاداتى القرانية من ترجمته للقران، بعد اذن الناشرين السادة ت. وت كلارك T.T.Clark
كما أن الشكر واجب أيضا للأستاذ هـ. أ. ر. جيب H.A.R.Gibb
لمساعدته الكريمة وللزملاء فى ادنبره، وبخاصة الدكتور بيير كاشيا Pierre Cachia لقيامه باعداد الكشاف، ولمستر ج. ر. والش J.R.Walsh على تعليقاته النافعة وللمراجع التى قدمها.
ادنبره و. م. و.
ديسمبر 1952