الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثراء، ولهذا فمن المحتمل أن المعارضة ضده كانت طبقا للسياسة العامة لزيادة الروابط مع البيزنطيين.
حدثت هذه الحادثة بعد حرب الفجار لأن عثمان بن الحويرث قد شارك فيها، وبذلك يكون بيننا وبين اعلان محمد عليه الصلاة والسلام لرسالته عشرون عاما أو أقل، وهى السنوات التى أكدت فيها الحروب الطاحنة التى نشبت بين الامبراطوريتين العظميين، أهمية وقوف أهل مكة على الحياد. ونظرا لقلة المعلومات المتاحة، فان الكثير مما يقال عن سياسات أهل مكة يخضع للحدس والتخمين. ولكن حتى لو كان الكثير من التفاصيل غير صحيح، فاننى أعتقد أن الصورة العامة معقولة، وعلى ذلك فان محمدا عليه الصلاة والسلام قد ترعرع فى عالم اختلطت فيه الأمور المالية فى المستويات الرفيعة مع السياسات الدولية اختلاطا لا سبيل الى فصله.
3- الخلفية الاجتماعية والأخلاقية
(أ) التضامن القبلى والفردية
التماسك القبلى شىء ضرورى للبقاء على قيد الحياة فى ظروف المعيشة فى الصحراء. فالانسان يحتاج الى المساعدة فى مواجهة القوى الطبيعية وخصومه الادميين. ولا شك فى أن التجمعات القبلية وجدت قبل أن يصبح الانسان فى الصحراء ولم تنشأ فيها. ولكن من المؤكد أن أهمية التكامل تأكدت فى ظروف المعيشة الصحراوية. فكلما كانت الجماعة أكبر كانت أقوى، وبالتالى أكثر نجاحا فى التغلب على صعوبة المعيشة، ولكن هذا لا يستمر الا الى درجة معينة يصبح من الصعب بعدها على الجماعة أن تتصرف كواحدة واحدة وبالتالى تتجه الى الانقسام، وعلى هذا فان القبائل ليست كيانات دائمة، ولكنها اما تتزايد وتنقسم واما تضمحل وتنتهى.
ويبدو ذلك واضحا فى عشائر مكة، فان التسمية العربية الشائعة للقبائل أو العشائر أو العائلات هى «بنو فلان» أى أبناء فلان، وفى فترة من تاريخ مكة كان اسم «بنو عبد مناف» يتردد كثيرا، لكن بعد فترة من الزمن بطل استعما لهذا الاسم لأن هذه العشيرة نمت ثم انقسمت فأصبحنا نسمع أسماء «بنى عبد شمس» و «بنى هاشم»
…
الخ، حيث كان عبد شمس وهاشم ابنى عبد مناف. كذلك كانت أكثر الحروب دموية فى شبه الجزيرة العربية أيضا بين عشائر تربط بينها صلات قرابة، ولا شك فى أن ذلك كان بسبب اضطرارهم للمشاركة فى مكان محدود للمعيشة.
كانت كل قبيلة رئيسية أو من قبائل الدرجة الأولى مستقلة عن باقى القبائل وليس لها أية أهمية سياسية تفوق القبائل الاخرى، ولذلك فمن المقصود، وغالبا ما كان ذلك يحدث بالفعل، أن تجد نفسها قد اشتبكت فى قتال مع أية قبيلة مجاورة، وفى مثل هذا الموقف الذى تكون فيه «يد الرجل ضد كل الرجال وأيدى كل الرجال ضده» ، يصبح أمن القبيلة- بل مجرد وجودها- متوقفا على قوتها العسكرية. فبالقوة واحدها يمكن حماية قطعان الماشية طالما أن شن الغارات هو «الرياضة القومية» للعرب.
يصور ثأر الدم مكانة التكافل القبلى، وهذا أسلوب بدائى- ولكن ربما كان الأسلوب الوحيد فى ظروف المعيشة الصحراوية، بعيدا عن المخترعات الحديثة، للتأكد من أن الجريمة لا ترتكب بسهولة وبدون احساس بالمسئولية فتعتبر قبيلة القاتل مسئولة عن فعلته، والعقوبة هى القصاص، «حياة بحياة» ، وبصرف النظر عن الاتجاه الانسانى لأن تكون العقوبة أكبر من الجريمة، فان هذه طريقة بسيطة للاحنفاظ بالقبائل فى نفس الدرجة من القوة النسبية.
تقوم القبيلة على أساس من القرابة، سواء من ناحية الرجال أو من ناحية النساء. وقبل بزوغ الاسلام، كانت المصاهرة، على ما يبدو، هى الأكثر انتشارا. وكان هناك أيضا ما يمكن أن يسمى «بالتكامل
المصطنع» نتيجة للأحلاف أو الجوار (الشكل الاصطلاحى لمنح الحماية) ولأسباب كثيرة، كان الحليف أو الجار يعامل كأحد أفراد القبيلة أو العشيرة، ويكون الحلف أو التحالف عادة بين أنداد، ولكن هذا لا يمنع جماعة ضعيفة من أن تكون حليفة لقبيلة قوية للحفاظ على وجودها.
بينما كانت القبيلة أو تحالف القبائل يمثل أعلى درجات الواحدة السياسية، كان العرب يدركون أيضا أنهم يمثلون واحدة بصورة أو أخرى، وكانت هذه الواحدة على أساس من واحدة اللغة (وان كان هناك بعض الاختلاف بين اللهجات) ، والتراث الشعرى المشترك، والعادات والأعراف والأفكار المشتركة وكذلك الأصل المشترك. وكانت اللغة هى الأساسى الأصلى للتمييز بين العرب و «الأجانب» (العجم) ، وكذلك كان الحال بين الاغريق و «البرابرة» . وكانت الصحراء العربية والشامية هى الأساس الجغرافى للواحدة، وغالبا ما كانت كلمة العرب تعنى «البدو» . أما الأصل المشترك فكان، على وجه التحديد، من واحد من اثنين عدنان أو قحطان، ولكن امتزجت الجماعتان بعد ذلك.
وحتى لو كان هذا الأصل المشترك مجرد خيال، كما يدعى بعض علماء الغرب (وربما كانوا مبالغين فى الشك الى درجة كبيرة) ، فان مجرد وجود هذا الاعتقاد يتضمن بعض الاقرار بالواحدة. ولقد أصبح لهذا المفهوم عند العرب بأنهم أمة واحدة، وما تبع ذلك من أنهم مميزون عن باقى الشعوب (وأعلى منهم) - أهمية كبرى فى الفترة المدنية من حياة محمد عليه الصلاة والسلام ، حيث كان يتطلع الى درجة من الواحدة السياسية بين العرب لم يسبقه اليها أحد من القادة العظام فى الجاهلية.
تنطبق مبادىء التكافل القبلى التى ذكرناها بصفة عامة على مجتمع مكة، ولكن لم تكن الواحدة المؤثرة فى زمان محمد عليه الصلاة والسلام هى قبيلة قريش ككل ولكن العشائر المستقلة، ولا يزال أمن الفرد وممتلكاته متوقفا على استعداد عشيرته للانتقام لمقتله أو سرقته، وقد يؤدى الامساك برجل بدون اذن زعيم عشيرته الى نزاع، وكان هذا هو الحال فى المدينة فى السنين الأولى القليلة لهجرة محمد عليه الصلاة والسلام ، وكان هذا المبدأ أيضا هو الذى مكنه من الدعوة فى مكة
بالرغم من المعارضة طالما كان بنو هاشم على استعداد لحمايته، واذا أراد أحد من قبيلة أخرى أن يعيش فى مكة، وكان هناك الكثيرون فى هذا الوضع، فان عليه أن يكون حليفا لأحد كبار أهل مكة أو لاحدى العائلات الكبيرة، وبالنظر الى سيادة قريش، فان هذا الوضع يتضمن بعض الانتقاص من قدر الاخرين.
مع ذلك كله، لم يكن التكافل القبلى أبدا مطلقا، فأبناء القبيلة ليسوا أناسا اليين بل ادميين ينزعون الى الأنانية، أو ما يسميها لامانس «الفردية» ، لهذا فمن الطبيعى أن يضع أحدهم مصلحته الشخصية فوق مصلحة القبيلة، فكانت هناك دائما قلة من «المشاغبين» ، وهم الذين يثيرون المشاكل بغض النظر عما يكبده ذلك للقبيلة، فكان على القبيلة أن تتبرأ منهم، وكان أحدهم يطلق عليه الخليع*.
وبينما استمر التكافل القبلى فى التحكم فى تصرفات علية القوم، بدأ نوع من الفردية فى تفكيرهم فى الظهور كما تدل على ذلك أشعارهم، فحتى زمن معين، بقدر ما عندنا من العلم، كان الرجل يرضى باظهار مجد قبيلته ودوره فى ارساء هذا المجد، ولكن بدأ الاحساس بوجود الفرد مستقلا عن القبيلة فى النمو وتبع ذلك مشكلة انتهاء وجوده المستقل عند الموت، فما المصير النهائى للانسان؟ وهل الموت هو النهاية؟
عززت ظروف الحياة التجارية فى مكة الاتجاه الى الفردية والبعد عن التكافل القبلى، فبالرغم من أن النظام العام كان معتمدا على نظام العشيرة، الا أنه كان فى امكان عائلة واحدة، أو حتى فرد واحد مع أقربائه أن يكون واحدة قادرة على الاستمرار فى الوجود. ولهذا، كثيرا ما نرى رجالا يعارضون عشائرهم، فأبو لهب** مثلا اتخذ من محمد عليه الصلاة والسلام موقفا خالف فيه باقى بنى هاشم. كما جاءت المعارضة لعثمان بن الحويرث من عشيرته، وكذلك أسلم أتباع محمد عليه الصلاة والسلام الأوائل بالرغم من معارضة عشائرهم بل حتى ابائهم، ويبدو أن المشاركة التجارية كانت تعلو أحيانا على القرابات.
* أى الذى خلعته القبيلة بمعنى رفضته- (المترجم) .
** وهو عم الرسول عليه الصلاة والسلام (المترجم) .
فى نفس الوقت كانت هناك ظاهرة جديدة هامة فى مكة، وهى ظهور الاحساس بالواحدة على أساس المصالح الماديه المشتركة، وكانت هذه الظاهرة، وليس انتماؤهم الى قريش، هى التى أدت الى ما حدث من صراع بين الأحلاف والمطيبين، وكانت هذه الظاهرة أيضا هى التى أدت الى تناسى المنافسات وانشاء «حكومة ائتلاف» بعد هزيمة بدر.
وأهمية ذلك فى أنها تدل على ضعف روابط قرابة الدم، وتدل على وجود فرصة لتأسيس واحدة أوسع نطاقا على أساس جديد.
واذا أردنا أن نبحث عن تغيير اقتصادى مرتبط ببداية الاسلام، فان علينا أن ننظر هنا (تعنى كلمة «ارتباط» هنا شيئا يختلف تماما عن العلاقة بين الدين والنظريات الخاصة بالعوامل الاقتصادية كما ينادى بها الماركسيون) . فبزيادة ثروة مكة وقوتها، انتقل اقتصادها من اقتصاد بدوى الى اقتصاد تجارى ورأسمالى. وفى زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، لم يكن قد حدث أى تغيير فى الاتجاهات الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والدينية للمجتمع التى كانت لا تزال تناسب الجزء الأكبر من المجتمع البدوى، وكان التوتر الذى شعر به محمد عليه الصلاة والسلام وبعض معاصريه لا شك فى النهاية نتيجة لهذا التناقض بين الاتجاهات الواعية للرجال والأسس الاقتصادية لحياتهم. وسنضطر الى الحديث عن هذا التوعك (الخلل) فى الأمة بتفصيل أكثر فيما بعد*.
* لعل المؤلف استخدم كلمة التوتر Tention كترجمة لكلمة «الضيق» الذى كان الرسول عليه الصلاة والسلام يشعر به نتيجة لموقف قومه من الدعوة: ولقد نعلم أنه يضيق صدرك بما يقولون (الحجر 27) . فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، انما أنت نذير، والله على كل شىء وكيل (هود 12) . ومما ورد فى الايتين نرى أن ضيق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لرفض قومه الايمان برسالته وموقفهم المعاند من الدعوة. وقد يصدق استنتاج المؤلف بالنسبة للرافضين للدعوة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تكن له أى مصالح اقتصادية فى أية مرحلة من حياته، فأبوه كان فقيرا كما هو ثابت فى مراجع السيرة، حتى ان مرضعات بنى سعد رفضن حضانته لعدم توقعهن فائدة كبيرة من وراء ذلك لفقر أبيه ويتمه، وكان عمه أبو طالب الذى كفله بعد وفاة جده عبد المطلب أيضا فقيرا، وعاش الرسول حياته كما وصفتها السيدة عائشة رضى الله عنها فى قولها: كان يمر علينا الهلال بعد الهلال لا يوقد فى بيتنا نار، وانما نعيش على الأسودين: التمر والماء.