الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرحلة تعمدا المسير فى الممرات النائية بعيدا عن الطرق المطروقة التى لم يسيرا فيها الا بعد أن ابتعدا عن مكة، ووصلا ومعهما عبد الله بن أرقط بسلام الى قباء على حافة الواحة (المدينة) فى 12 ربيع الأول «30» الموافق 24 سبتمبر سنة 622 م.
وتؤكد اية مدنية مبكرة قصة الغار (الكهف) :
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)) السورة رقم 9 (التوبة) .
وهناك اية أخرى ربما تشير الى اجتماع قريش، وان كنا غير متأكدين من ذلك، والاية هى:
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)) السورة 8 (الأنفال) .
وبوصول النبى صلى الله عليه وسلم الى قباء بدأت المرحلة المدنية، وهى المرحلة الثانية التى باشر فيها الرسول مهمته.
6- حصاد الحقبة المكية
كان ظهور الدين الجديد (الاسلام) هو الانجاز الكبير فى الحقبة المكية، فالخطوط العريضة أو المفاهيم الأساسية لهذا الدين- يمكن أن يقال- انها اكتملت فى وقت الهجرة. وان كانت معظم مؤسساته لازالت فى حالة لم تتطور فيها بعد. فالصلوات المفروضة لم تكن قد تحددت بشكل نهائى رغم أنها- بلا شك- عرفت فى المرحلة المكية. ومن ناحية
(30) ابن هشام، 325- 333.
أخرى، فيبدو أن صلاة الليل كانت الى حد كبير منتشرة (رائجة)«31» .
وكانت بقية أركان الاسلام فى هذه الحقبة معروفة، وهى: الصيام وايتاه الزكاة والشهادتان والحج، وان كانت أقل تطورا الى حد ما مما حدث بعد ذلك. بل لقد شهدت الحقبة المكية الماما بالأفكار الأساسية عن الله سبحانه واليوم الاخر والجنة والنار، وارسال الله سبحانه للرسل.
ويناقش بعض الباحثين الغربيين مدى صحة الروايات عن غالبية المتحولين الى الاسلام، ومالوا الى التأكيد على أن معظم المتحولين كانت دوافعهم فى الأساس مادية. وهذه مسألة من الافضل ألا نأخذ بها مادامت الأفكار الاسلامية تعتبر غريبة بالنسبة للغرب (يقصد أن الغربيين لم يفهموا روح الاسلام) . ربما كان صحيحا أنه كان هناك تحول قليل، وقليل من التقوى الحقيقية بالمفهوم السائد فى الغرب، لكن هذا يرجع الى أن الأفكار الغربية لا يمكن تطبيقها على مظاهر الدين فى الشرق الأدنى.
أما بالنسبة للمقاييس السائدة فى الشرق الأدنى فربما كان التحول (للاسلام) والتقوى أمرين صحيحين، فربما كان الاعلان عن الاسلام (دخول الاسلام) يعنى أمرا مهما بالنسبة للعربى فى ذلك الوقت، أكثر بكثير مما يعنيه لدى الغربى فى أيامنا هذه. فالدوافع المادية غير بعيدة عن الدوافع الدينية وربما كانتا متكاملتين. حقا، ان الأفكار الدينية من الضرورى أن تجعل البشر واعين بأوضاعهم العامة ككل وواعين بأهداف نشاطاتهم (أعمالهم) ، ففى حركة التفكير الدينى مع الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية يجعلها- أى الحركة- واعية بذاتها. وهذه الفكرة (عدم انفصال الدين عن الدنيا) غالبا- وربما دائما- تعد حقيقة واقعة فى الشرق الأدنى. انها فكرة يراها الغرب غريبة. فغربة هذه الأفكار بالنسبة للغرب- على أية حال- لا يجب أن تعمى بصائرنا عن الحقيقة التى مؤداها أن الجوانب الدينية فى الاسلام كانت دائما مرتبطة ارتباطا وثيقا بالجوانب الاخرى.
(31) كما تشير سورة المزمل (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) ..) .
ولأن هذا الدين الجديد قد ارتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمعات غير البدوية فى غرب شبه الجزيرة العربية، فقد كان قادرا على احداث تغيير اجتماعى عميق. ففى مكة والمدينة كانت الأخلاق البدوية والنظرة البدوية- على أية حال- مناسبة تماما للظروف البدوية التى ثبت انها غير صالحة لاقامة مجتمعات مستقرة. وفى مكة ربما كانت المشكلة الرئيسية متمثلة فى الفردية الأنانية، أما فى المدينة فقد كانت الحاجة الى قيام سلطة عليا تفرض العدل هى الأكثر وضوحا. وبمعنى من المعانى، فان انجاز الاسلام العظيم هو مواءمة الأخلاق البدوية لتصبح صالحة للمجتمعات المستقرة، وكان مفتاح ذلك هو وضع مبدأ جديد لتنظيم المجتمع. وحتى اليوم فان رابطة المجتمع اعتبرت هى رابطة الدم، لكن هذه الرابطة الأخيرة تعتبر ضعيفة جدا فى حالة المجموعات أو الجماعات الأكبر، فالأصل المشترك للأوس والخزرج لم يمنع الثارات المريرة بينهما، كما أن الولاء للمجموعة برهن على أنه وازع غير كاف للسلوك طالما أن النزعة الفردية فى حالة نمو.
من الصعب أن نصيغ هذا المبدأ الجديد الذى أدخله الاسلام بشكل محكم، لكن نواة هذا المبدأ هى فكرة (النبى) كمحور لتكامل المجتمع.
ان الواحدة الاجتماعية الجديدة قد تضم عشائر مختلفة (قد تكون ذوات قرابة بعضها ببعضها الاخر أولا) ، لكنها تترابط معا بمقتضى الحقيقة التى مؤداها أن النبى قد أرسل لهم جميعا. وعلى هذا، فان أفراد المجتمع يقع عليهم اطاعة أوامر الله لهم كما أوحاها الى نبيه. وعلى هذا وجد مبدأ التضامن ومبدأ السلطة العليا التى تعلو فوق الجماعات المتنافسة، أعنى النبى صلى الله عليه وسلم أو- كما يمكننا أن نقول- كلمة الله. وتطور هذه الفكرة الجديدة يظهر واضحا فى القران الكريم، بازدياد استخدام كلمة (أمة) فى الايات التى نزلت فى فترة متأخرة. خاصة فى سياق الحديث عن اليوم الاخر، حيث يبعث الله كل أمة ويحاسبها وهذا لا يمنع من أن يلقى كل (فرد) جزاءه من ثواب أو عقاب وفقا لما يستحقه، وأشار القران الكريم الى (أمم) لم تصدق أنبياءها:
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)) السورة 27 (النمل) .
وتضاد كلمة (أمة) كلمة (قوم) التى تعنى قبيلة tribe of people التى تشير الى مجموعة لا تربطها سوى صلة الدم.
واستخدام كلمة (أمة) كوصف رسمى فى (دستور المدينة)«32» مسألة جديرة بالملاحظة، فالمؤمنون من قريش ويثرب ومن امن معهم هم جميعا أمة واحدة.
ولا شك أن هذه المعانى والأفكار لم تتبلور تبلورا تاما الا بعد الهجرة بفترة، لكن لا بد أنها كانت حاضرة فى حالتها الجنينية عندما بدأ محمد صلى الله عليه وسلم مفاوضاته مع رجال المدينة (بيعتى العقبة) ، فلا بد أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان واعيا بأفكار ومعان (أيديولوجية) يمكن تطويرها لتكون أساسا لحركة التوسع العربى العظيمة، وهذا يعد مقياسا لاتساع ادراكه لحاجات عصره، وعظمة انجازاته خلال الحقبة المكية.
(32) ابن هشام، 341.
الملاحق