الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الا قليلا من النجاح (حتى هذه اللحظة التى نتحدث عنها) ، فالسرعة النسبية لتسوية الأمور مع عثمان بن مظعون والاخرين الذين عادوا الى مكة قبل الهجرة للمدينة تشير على الأقل الى أنه لم تكن هناك قطيعة كاملة بينهم (عثمان بن مظعون وجماعته) ومحمد صلى الله عليه وسلم. ومن المؤكد أنهم فى النهاية قد قبلوا زعامة محمد صلى الله عليه وسلم والوضع الخاص لأبى بكر الصديق، وحاربوا كمسلمين شجعان فى غزوة بدر.
3- مناورات المعارضة
مع أن المعلومات التى قدمها لنا ابن هشام والطبرى عما تبقى من الحقبة الملكية قليلة، فانها ترسم لنا صورة مقبولة عن المظاهر الخارجية للمعارضة التى واجهها محمد صلى الله عليه وسلم ، وهى معلومات مستقاة من القران (الكريم) لكنها ليست صورة طبق الأصل لما ورد به. حقيقة لقد كانت هذه المعلومات التى قدمها ابن هشام والطبرى فيها بعض المبالغة فى اتجاهات بعينها، لكن من المحتمل أن تكون هذه المبالغة فى هذه المواضع أقل مما يفترض الكتاب الغربيون.
(أ) اضطهاد المسلمين
يقدم لنا ابن اسحق «34» وصفا لما كان يقوم به أبو جهل لاضطهاد المسلمين فيذكر أنه كان يحرض قريشا ضد من أسلم، وأنه كان ان سمع باسلام شخص ذى أهمية انتقده بشدة وأنبه وقال له: أتترك دين ابائك رغم أنهم أفضل منك ان تفكيرك غبى وحكمك غير صائب، أين شرفك. وان كان الذى أسلم تاجرا هدده بوقف رواج تجارته وضياع رأس ماله. وان كان الذى أسلم رجلا ضعيفا غير مؤثر ضربه وحرض الناس ضده.
ومن هذا العرض نفهم أنه ليس من المؤكد أن اضطهاد أبى جهل للمسلمين كان أكثر قسوة من الهجوم اللفظى (السب والشتم) ان كان
(34) ابن هشام، 206 وما بعدها.
هذا المسلم شخصا مهما نافذا، أما ان كان أقل شأنا فان أبا جهل يمارس عليه ضغطا اقتصاديا، وأما ان كان المسلم رقيق الحال لا سند له عاقبه عقابا بدنيا بشعا. ولأن معظم عشائر قريش كانت منيعة الجانب بدرجة تجعلها قادرة على احداث ازعاج خطير أو ما هو أسوأ من ذلك- اذا تعرض أحد أفرادها أو حلفائها لمعاملة سيئة، فان أولئك الذين تعرضوا لعقاب بدنى قاس كانوا قلة وكانوا من العبيد، أو ممن ليس لهم ارتباطات عشائرية واضحة (مثل خباب بن الارت) . وكان من الممكن من الناحية الرسمية أن تخلع احدى العشائر أحد أفرادها أو حلفائها (أى تتبرأ منه) :
لكن هذا الاجراء كان يقلل من شرف القبيلة. ويبدو أن شيئا كهذا حدث لأبى بكر لأننا رأيناه يقبل حماية ابن الدغنه «35» ونسمع أيضا عن طلحة وأنه هو وأبى بكر قد ارتبطا معا. وعلى أية حال، فان عشيرته تيم لم تكن قوية. وربما كان محمد صلى الله عليه وسلم هو أيضا قد حرمته عشيرته من حمايتها وقت زيارته للطائف لأنه لاقى معاملة سيئة هناك؛ ولأنه طلب حماية أحد أفراد العشائر الاخرى قبل أن يدخل مكة مرة أخرى.
ان أفعال أبى جهل، وأفعالا أخرى مشابهة، لا شك فى حدوثها، وأشارت اليها المراجع عند حديثها عن الفتنة التى تعرض لها المسلمون.
وعلى أية حال، فان هذا ليس اضطهادا قاسيا. وتتضح هذه النقطة عند دراسة التفاصيل فى السيرة لابن هشام، وكتاب الطبرى وطبقات ابن سعد. فهذه المراجع لم تذكر سوى أسوأ الحالات أو ما هو مفترض أنه أسوأ الحالات، ولم تذكر أن ذلك هو الوضع العام أو المعدل العام.
فكل الشواهد تجعلنا نفترض أن الاضطهاد لم يكن عنيفا. فما ذهب اليه الباحثون الغربيون من اتهام بأن الحديث عن اضطهاد المسلمين عرض بشكل مبالغ فيه- هذا الاتهام لا يكاد ينطبق على المصادر الأولى. وربما كانت الأسئلة الرئيسية للمبالغة هى تلك التى تتناول الحالات التى تبين تمسك الشخص بعقيدته واستعصائه على الردة.
وتوضح المواد التى بين أيدينا مظاهر المعارضة المختلفة كما وردت فى الفقرة المنقولة انفا عن ابن اسحق. فقد هوجم محمد صلى الله عليه وسلم بالأقوال
(35) ابن هشام، 245 وما بعدها.
وتعرض لاهانات بسيطة، كقيام جيرانه بالقاء القمامة أو الأقذار عند باب بيته، ومن الممكن ان تكون حدة المضايقات قد زادت بعد موت ابى طالب «36» . كما أن تدنى رأسمال أبى بكر رضى الله عنه من 000 ر 40 درهم الى 5000 درهم فى الفترة من تحوله للاسلام الى الهجرة «37» ، ربما يرجع للضغط الاقتصادى الذى هدد به أو ب جهل وليس شراء العبيد (لعتقهم) كما ذكر ابن سعد مادام العبد لا يكلف الا حوالى 400 درهم «38» . وأكثر الأمثلة وضوحا فى مجال العقاب البدنى، تتضح من معاملة العبيد كبلال بن رباح وعامر بن فهيرة «39» وقريب جدا من هذا رفض العاص بن وائل دفع دين شرعى لخباب ابن الأرت «40» . وحتى النوع الرابع من الاضطهاد (يمكن أن نطلق عليه ممارسة الضغط بما فى ذلك العقاب البدنى) كان يمارسه أعضاء من العشيرة نفسها بل وداخل الأسرة الواحدة، كالأب والعم والأخ الأكبر، ومعاملة أبى جهل لكل من: الوليد بن الوليد، وسلامة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة وغيرهم من أفراد العشيرة نفسها، تعد من الأمثلة المعروفة «41» . وان كنا نجد أمثلة أخرى فى صفحات كتاب ابن سعد.
والقسوة التى تعرض لها الحليف عمار بن ياسر وأسرته على يد بنى مخزوم «42» ربما كانت من هذا النوع.
لقد كان اضطهاد المسلمين يكاد يكون من النوع المعتدل. فنظام الأمن (الحماية) كان فاعلا ومطبقا فى مكة متمثلا فى حماية كل عشيرة لأعضائها، مما يمنع تعرض أى مسلم لايذاء العشائر الاخرى بشكل خطير حتى لو كانت عشيرته هو غير راغبة فى الاسلام. فالفشل فى
(36) ابن هشام، 183، 185، الطبرى، 1198 وما بعدها.
(37)
ابن سعد، ج 1، 122.
(38)
ابن سعد، ج 1، 27، 21.
(39)
ابن هشام، 205 وما بعدها.
(40)
ابن سعد، ج 1، 116.
(41)
ابن هشام، 206 وما بعدها.
(42)
ابن هشام، 206.