المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(ب) أصالة القران الكريم - محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة

[ويليام مونتغمري وات]

فهرس الكتاب

- ‌المستشرق (مونتجمري وات)

- ‌الألف كتاب الثانى نافذة على الثقافة العالمية

- ‌الفهرس

- ‌مقدمة الترجمة العربية

- ‌القران الكريم

- ‌الحديث

- ‌كتب السيرة والمغازى

- ‌كتب التاريخ العام

- ‌علم نفس النبوة

- ‌قضية عثمان بن مظعون (رضى الله عنه) وقضايا أخرى شبيهة

- ‌الأمن والمال والدولة والرسالة

- ‌«كل التاريخ تاريخ حديث»

- ‌تمهيد

- ‌1- وجهة نظر

- ‌2- ملاحظة عن المصادر

- ‌الفصل الأول الخلفية العربية

- ‌1- الأسس الاقتصادية

- ‌2- السياسة المكية

- ‌(أ) المجموعات السياسية فى قريش

- ‌الأدلة الرئيسية التى تؤكد افتراض هذا التقسيم للعشائر هى:

- ‌(ب) ادارة الأمور فى مكة

- ‌(ج) قريش والقبائل العربية

- ‌(د) سياسة مكة الخارجية

- ‌3- الخلفية الاجتماعية والأخلاقية

- ‌(أ) التضامن القبلى والفردية

- ‌(ب) المثل العليا الأخلاقية

- ‌4- الخلفية الدينية والفكرية

- ‌(أ) تدهور الديانة القديمة

- ‌(ب) «الانسانية القبلية»

- ‌(ج) ظهور الاتجاه نحو التوحيد

- ‌الفصل الثانى بواكير حياة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوة النبوة

- ‌1- نسب محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌2- مولد محمد صلى الله عليه وسلم ، وسنواته الأولى

- ‌3- زواج محمد عليه الصلاة والسلام من خديجه

- ‌4- الدعوة للنبوة

- ‌(أ) رواية الزهرى

- ‌(ب) رؤى محمد عليه الصلاة والسلام

- ‌(ج) الاختلاء فى حراء، التحنث

- ‌(د) «أنت رسول الله»

- ‌(هـ) «اقرأ»

- ‌(و) سورة المدثر، الفترة

- ‌(ز) خوف محمد ويأسه

- ‌(ح) خديجة وورقة بن نوفل يشدان من أزر محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌خاتمة

- ‌5- أشكال وعى محمد صلى الله عليه وسلم بنبوته

- ‌6- التتابع الزمنى لوقائع الحقبة المكية

- ‌الفصل الثالث الرسالة الأصلية (جوهر الرسالة)

- ‌1- فى تاريخ نزول القران (الكريم)

- ‌2- المحتوى القرانى لأول ما نزل من القران (الكريم)

- ‌(أ) خلق الله للانسان ولطفه به

- ‌(ب) الكل راجع الى الله ليوفيه حسابه

- ‌(ج) استجابة الانسان- شكر وعبادة

- ‌(د) استجابة الانسان لله سبحانه- السماحة والكرم والتطهر

- ‌(هـ) مهمة محمد

- ‌3- العلاقة الوثيقة بين الرسالة والأحوال المعاصرة

- ‌(أ) الجانب الاجتماعى

- ‌(ب) الجانب الأخلاقى

- ‌(ج) الجانب العقلى

- ‌(د) الجوانب الدينية

- ‌4- مزيد من التأمل

- ‌(أ) الظروف الاقتصادية والدين

- ‌(ب) أصالة القران الكريم

- ‌الفصل الرابع أول من أسلم

- ‌1- الروايات المتداولة عن المسلمين الأوائل

- ‌2- استعراض للمسلمين السابقين

- ‌هاشم

- ‌المطلب

- ‌تيم

- ‌زهرة

- ‌عدى

- ‌الحارث بن فهر

- ‌ عامر

- ‌أسد

- ‌نوفل

- ‌ عبد شمس

- ‌ مخزوم

- ‌سهم

- ‌جمح

- ‌عبد الدار

- ‌[طبقات المسلمين الأوائل]

- ‌1- الأبناء الأصغر سنا فى الأسر ذوات الحيثية

- ‌2- رجال- غالبهم شباب- من أسرات أخرى

- ‌3- رجال ليس لهم ارتباطات عشائرية قوية

- ‌3- اللجوء الى الاسلام

- ‌الفصل الخامس تزايد المعارضة

- ‌1- بداية المعارضة، الايات الشيطانية

- ‌(أ) خطاب عروة

- ‌(ب) قصة الايات الشيطانية

- ‌(ج) الايات الشيطانية (ايات الغرانيق) ، الدوافع والتفسير

- ‌2- أمور الحبشة

- ‌(أ) الرواية التقليدية عن الهجرة الى الحبشة

- ‌(ب) شرح قائمتى المهاجرين الى الحبشة

- ‌(ج) أسباب الهجرة الى الحبشة

- ‌3- مناورات المعارضة

- ‌(أ) اضطهاد المسلمين

- ‌(ب) الضغط على بنى هاشم

- ‌(ج) عروض التسوية على محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌4- شهادة القران (الكريم)

- ‌(أ) النقد الكلامى لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌(ب) النقد الكلامى لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌(ج) أفعال معارضى محمد

- ‌5- قادة المعارضة ودوافعهم

- ‌الفصل السادس افاق ممتدة

- ‌1- تدهور فى أوضاع محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌2- زيارة النبى للطائف

- ‌3- الاقتراب من القبائل البدوية

- ‌4- المفاوضات مع المدينة

- ‌(أ) توطئة

- ‌(ب) بيعتا العقبة، الأولى والثانية

- ‌5- هجرة النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة

- ‌6- حصاد الحقبة المكية

- ‌الملحق (أ) الأحابيش

- ‌الملحق (ب) التوحيد عند العرب والتأثيرات اليهودية المسيحية

- ‌الملحق (ج) الحنفاء

- ‌الملحق (د) مبحث حول (تزكى)

- ‌الملحق (ه

- ‌الملحق (و) المرويات عن عروة

- ‌الملحق (ز) قوائم مختلفة

- ‌الملحق (ح) عودة المهاجرين

الفصل: ‌(ب) أصالة القران الكريم

(أى سابقة على هذا التغير) وبتعبير اخر، فان هذه الاضطرابات وتلك العلل، ما هى الا نتيجة فشل الانسان فى التكيف مع التغيرات الاقتصادية بسبب اتجاهات معينة ظل محتفظا بها من فترة ما قبل التغير.

لقد أدت الظروف الاقتصادية الجديدة الى زيادة ثقة الانسان فى نفسه دون يعى أنه مخلوق، وأدت الى زيادة الفردية دون أن يعى ضرورة المثل الأخلاقية العليا يوازن بها طموحه الفردى، وبدون نظرة دينية جديدة تعطى الفردية معناها.

فالمسألة اذن هى اعادة تكييف الانسان مع الظروف الاقتصادية المتغيرة، وهذا يتطلب التعاون الواعى بين البشر، وما أتى به القران الكريم يفترض أنه أعطاهم تحليلا للموقف سيجعلهم يعيدون تكييف أنفسهم فى ضوئه. ويقدم لنا القران الكريم تحليلا للموقف غير مفصل لكنه كاف للأغراض العملية كما أنه بمثابة دليل للعمل. لقد كان المظهر الذى سرعان ما ظهر نتيجة هذه الاضطرابات الاجتماعية وعدم التكيف هو الانانية التى اتصف بها البعض، والتى أدت بهم الى استغلال الظروف الجديدة لتحسين أوضاعهم على حساب رفاقهم وانتكسوا فراحوا يفخرون بفدراتهم البشرية وفشلوا فى التعرف على الله سبحانه. ان القران الكريم يذكر الانسان أن هناك عوامل أخرى أهملها أو أنكرها وهى أنه فى غدوه ورواحه معتمد على قوة أعلى منه، وأن هناك موتا وحياة أخرى فيها حساب، أو ان أردنا التعبير بطريقة مختلفة راح القران الكريم يذكرهم بوجود محيط زاخر بالمعانى والأهمية فيما وراء الزمان والمكان.

لقد صور القران الكريم علل العصر باعتبارها راجعة فى الأساس لأسباب دينية رغم تياراتها الكامنة ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وبالتالى فان علاجها لا يمكن الا بوسائل- فى الأساس- دينية. واذا نظرنا الى نجاح جهود محمد صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن نحكم بأنه رجل جسور لأنه ناقش حكمة القران.

(ب) أصالة القران الكريم

يجب- فى رأيى- أن ننظر للمحتوى القرانى على أنه عامل خلاق طرأ على الموقف فى مكة (المترجم: الكاتب يتحدث عن أوائل ما نزل

ص: 164

من القران الكريم) ، مهما كانت نظرتنا نحن الأوربيين اليه من الناحية اللاهوتية. لقد حل بالتأكيد مشكلات ولقد قضى على توتر كان البعض يسعى للتخلص منه، لكنه من المستحيل أن ننتقل من هذه المشاكل أو القضايا أو التوترات الى المحتوى القرانى (العقيدة القرانية (Kerygma ونحن غير مسلحين سوى بالتفكير المنطقى والاستدلال العقلى. فمن وجهة نظر العلمانيين الأوربيين (الذين لا يضعون العوامل الدينية أو الغيبية فى اعتبارهم عند تحليل مثل هذه الموضوعات) ، ربما أمكن القول أن محمدا صلى الله عليه وسلم عندما كان يسمع من مصادر معتادة أفكارا بعينها، فانه كان يتحقق أنها حل للمشكلات التى يواجهها، ومن خلال التجربة والخطأ استطاع بالتدريج أن يا بنى نظاما. لكن حتى من خلال هذه النظرة العلمانية لا يمكن شرح مسار الحوادث بطريقة مقنعة. لقد حل القران الكريم مشاكل اجتماعية وأخلاقية وعقلية، لكن ليس دفعة واحدة وانما على مراحل وبتدرج غير محسوس. قد يقول العلمانيون انه لمن محض الصدفة ولأسباب ثانوية أن محمدا راح يتردد عبر الأفكار التى اعتقد أن فيها حل المشاكل الأساسية فى عصره، وأن ذلك ليس أمرا بعيدا عن المعقولية.

ان هذا القول لا هو مبنى على الملاحظة والمشاهدة والتجربة حتى نقول انه تفكير علمى، ولا هو تفكير صارم أو دقيق بما فيه الكفاية بحيث نقول انه ينطبق على المحتوى (الكيرجما) القرانى. ان المؤكد أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدخل فى مسألة التحليل المجرد للوضع القائم كما نفعل نحن هنا.

وبالنسبة للعلمانيين، فان أفضل وصف هو (الحدس) أو (البديهة) مع خيال خلاق، أو شىء كهذا. وانى أحاول أن أقف على الحياد بين رأى هؤلاء العلمانيين من ناحية وما يقوله المسلمون من أن هناك عاملا الهيا، أو سببا الهيا لتفسير الأحداث.Divine irruption

وعلى أية حال، فان هذا العامل لم يكن منفصلا عن الوسط الذى ظهر فيه. فكما اتضح من الفقرات السابقة، لقد كان متلائما مع ظروف مكة حوالى سنة 610 للميلاد فلم يكن الوحى باللغة العربية فحسب، لكنه أيضا كان فى كثير من جوانبه عربيا فى تكوينه رغم أنه نص لا يوجد نص فى الأدب العربى يشبهه تماما. وفوق كل هذا، فقد صيغ الوحى فى

ص: 165

مصطلحات تعبر عن المفاهيم والصيغ الفكرية للعرب المعاصرين ونظرة أهل مكة. فمن غير العربى يختار الجمل دون غيره من مخلوقات الله للدلالة على عظمة الله سبحانه «24» ؟ والصفات الاخرى التى يشير بها القران لقدرة الله سبحانه هى- بلا شك- متناسبة مع العرب خاصة. وأفعال الكرم التى يحث القران الكريم عليها تتمشى مع المثل البدوية القديمة.

أنه لامر بديهى أن يبدأ أى مصلح بمخاطبة الناس كما هم (واضعا فى اعتباره أفكارهم الموجودة فعلا) . ويمكن شرح ذلك بطريقه سلبيه اذا اعتبرنا انه لم يكن هناك نقد للربا فى السور المكية. فاذا كان النظام المالى الذى تطور فى مكة هو المصدر الأساسى للمتاعب، فلم لم يكن هناك نقد للربا فى أوائل ما نزل من القران الكريم؟ (فى الكيرجما القرانية كما ظهرت فى الايات والسور الأولى) . لكن حتى لو سلمنا بصحة اسم الشرط فى الجملة السابقة (كون الظروف الاقتصادية هى المصدر الأساسى للمتاعب)، فكيف نتجنب السؤالين التاليين: كيف كان يمكن نقد نظام الربا؟ وكيف كان يمكن تمرير «نقد نظام الربا» الى أهل مكة؟ اننا لن نعدم عندئذ أن يقول قائل ان الربا ليس شيئا سيئا، لأنه لم يكن هناك مفهوم مجرد لما هو (صحيح) وما هو (خطأ) فى الاستشراف العربى (الاستشراف نوع من توقع نتائج أمر ما) . فقد كان الأقرب الى فهمهم هو (الشرف) و (ما يتنافى مع الشرف) ، لكن مفهوم الشرف ونقيضه كانا مرتبطين بالمثل الأخلاقية التقليدية، ووفقا لهذه المثل فلا شىء يعاب فى الربا فى حد ذاته، أو بتعبير اخر قد يرى أهل مكة فى هذه المرحلة المبكرة من الدعوة أن الربا لا يتعارض مع الشرف بمفهومهم التقليدى له، وحتى اذا كان الشرف بمفهومه التقليدى ما زال قائما، فقد كان قد فقد كثيرا من قوته فى مكة. فلم تكن هناك قاعدة- اذن- فى الاستشراف المكى لقبول فكرة نقد الربا فى هذه الفترة المبكرة. ولم توجد هذه القاعدة الا عندما تم تكوين المجتمع الاسلامى الجديد القائم على أوامر الله سبحانه ثم تجلت فى القران الكريم، فعندها كان يمكن أن يكون الأمر الالهى (لا ربا) أساسا من أسس هذا المجتمع، وحتى عندما تم تطبيق

(24) القران الكريم 88/ 17.

ص: 166

هذا الأمر فى المدينة فقد كان موجها أساسا ضد اليهود «25» *. هذا التركيز على الاستمرار أو التواصل بين القران الكريم، والاستشراف العربى القديم، قد يبدو متناقضا مع ما ذكره جولدتسيهر، Goldziher فى الفصل الأول من كتابه الشهير Muhammedanische Studien والذى تناول فيه (المروة) و (الدين) مع أنه ليس لدينا ما ندفع به ضد كتابات جولدتسيهر. الا أن التناقض- على أية حال- ليس كاملا. ان هناك بعض التناقض بين ما دعا اليه محمد صلى الله عليه وسلم على أسس قرانية من ناحية والتراث العربى القديم- بشكل واضح. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كانت هناك معارضة عنيفة له. وعلى أية حال، فان المرء بوسعه أن يميز بين الدين من ناحية والجوانب الأخلاقية المستقيمة فى المروة. فالجانب الدينى- هو ما أطلق عليه عادة النزعة الانسانية -humanism يتكون من الثقة فى الانسان وانجازاته وفى الاعتقاد فى أن معنى الحياة يتجلى فى الامتياز الانسانى، وهذا ما هاجمه القران الكريم بوضوح وبلا شك. أما الجوانب الأخلاقية الخالصة (التى أضعها فى اعتبارى عادة عند الحديث عن المروة) ، فهى مثل أخلاقية تشمل الشجاعة والصبر والكرم والاخلاص وما الى ذلك، فهذه لم يهاجمها القران الكريم، بل لقد انتقد أهل مكة لأنهم لم يضعوها فى اعتبارهم.

وعندما يمعن القارىء فى الفصل الذى كتبه جولدتسيهر. فانه يكتشف جوانب ضعف مختلفة. فبيانه عن التناقض بين المروة والدين يتضمن ثلاثة أمور: ففى مواجهة الأخذ بالثأر دعا محمد الى الصفح والغفران، ووضع الاسلام قيودا على الحرية الشخصية خاصة فيما يتعلق بالخمر والنساء، وفرض الاسلام الصلاة وهى بالتأكيد تتضمن توجها يتناقض بعمق مع حب البدو للاستقلال. ولا خلاف حول هذا الأمر الأخير، فهو الجانب الدينى للمروة. وعلى أية حال، فالتوضيحات الاخرى

Muhammad at Medina ،296 f. (25)

* هذا التخصيص بجعل تحريم الربا موجها لليهود تخصيص لا دليل عليه، فالربا هوجم فى القران الكريم بوجه عام. قال تعالى:«يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا» (البقرة 276) وكان العباس عم الرسول يعمل بالربا- (المراجع) .

ص: 167

غير مرضيه. فالتغييرات المتعلقة بالزواج وشرب الخمر، ربما لا تكون راجعه الى عوامل اسلاميه وانما الى الاختلاف بين حياة البادية وحياة الاستقرار، بينما تعاليم العفو عن الأعداء التى ذكرها جولدتسيهر فى أفضل أوجهها تشير الى العفو عن الأقرباء المقربين. أما العفو عن الاخرين فى نطاق المجتمع الاسلامى فتشير اليه ايات أخرى*. ومن قبيل الموازنة مع الاتجاهات العربية القديمة، فان على المرء أن يعتبر من هو خارج الجماعة الاسلامية عدوا مادام المجتمع الاسلامى قد حل محل القبيلة أو العشيرة كواحدة اجتماعية. وعلى هذا، فمن الناحية الأخلاقية الصرفة نجد أن فكرة الانفصال العميق العريض بين الاسلام والجاهلية هى فكرة ضعيفة.

وأخيرا، هناك قضية العلاقة بين القران الكريم والمفاهيم اليهودية المسيحية. دعنا نحاول أن نضع هذا السؤال فى منظور صحيح.

القران الكريم عامل فعال فى حياة أهل مكة. ولكى نناقش (المصادر) فان هذه مسألة تشبه الى حد ما مناقشة (مصادر) هاملت التى ألفها شكسبير.

سنجد فى غالب الأحوال أن (مصادر) هاملت هى حيث حصل شكسبير على بعض خصائص مسرحيته. ان هذه المصادر لا تشرح لنا أصالة شكسبير الابداعية، كما أنها لا تزيل الشكوك حولها ان كانت قائمة. وحتى اذا لم يكن هذا التناظر مقبولا من كل جوانبه لأن المناظرة أو الموازنة لا بد أن تكون عن علاقة المصادر بعمل من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن القران الكريم فى رأى المسلمين من انتاج محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا لا بد من استبعاد هذه الفكرة. فاذا صدقنا محمدا صلى الله عليه وسلم، فان القران الكريم ليس نتاج عقله الواعى، وفى هذه الحالة من الأفضل أن يربط بين القران الكريم وعقول الذين يخاطبهم، ونعنى بهم محمدا صلى الله عليه وسلم نفسه والمسلمين الأوائل وأهل مكة عامة. وفى هذا السياق يمكن للمرء أن يسأل: الى أى مدى كانت الأفكار القرانية المناظرة للأفكار اليهودية المسيحية- كانت بمثابة اشارات لأفكار كانت حاضرة بالفعل فى عقول الناس قبل أن تصلهم رسالة القران؟ ان السؤال على هذا النحو يتيح للدارس الغربى

* أشار المؤلف للاية 128/ 3 والاية 23/ 24 ولا علاقة لهما بالسياق، فهناك اذن خطأ لعله مطبعى فى النص الانجليزى- (المترجم) .

ص: 168

المهتم بموضوع (المصادر) أن يناقش بشكل عملى كل النقاط التى يريد مناقشتها دون أن يكون معارضا للعقيدة الاسلامية. وسيكون من الملائم أن نتعامل على حدة مع كل من العنصرين التاليين: (1) الأفكار الأساسية و (2) المادة التوضيحية والافكار الثانوية.

ففى مجال الأفكار الأساسية، كفكرة الله (سبحانه) ويوم الحساب، فان القران الكريم نفسه (وكذلك الباحثين الغربيين) يشير الى أن الأفكار القرانية فى هذا الصدد متشابهة الى حد كبير مع أفكار اليهودية والمسيحية. ألا يعنى هذا أن القران الكريم غير أصيل وأنه لا يمثل عاملا خلاقا؟ الحق أن هذا القول غير صحيح بالمرة. فهذا التماثل identity يرجع الى أن الذين خاطبهم القران (الكريم) بمن فيهم محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، كان بعضهم متالفا بالفعل مع هذه الأفكار عن الله سبحانه ويوم الحساب، لكن ربما لم تكن على درجه كافية من الوضوح. لقد بدأ القران هنا بالتعامل مع الناس كما هم أى بالأفكار التى كانت لديهم بالفعل، فلم يكن أى يهودى أو مسيحيي يتكلم العربية بقادر على احراز النجاح الذى حققه محمد صلى الله عليه وسلم، لو وقف بين أهل مكة وراح يكرر الافكار اليهودية والمسيحية. لقد كان سيبدو غريبا بينهم، أما القران الكريم فقد خاطبهم عن الأفكار اليهودية المسيحية على نسق التفكير العربى وبفكر كان بالفعل حاضرا فى عقول المتنورين منهم. ان أصالة القران الكريم تظهر فى أنه قدم لهم مزيدا من التفاصيل عن أفكار كانت موجودة عندهم، وكذلك مزيدا من الدقة والتحديد، كما قدم لهم ما جعلهم يركزون على شخصية محمد صلى الله عليه وسلم ومهمته كرسول لله سبحانه، وكانت فكرة الوحى والنبوة بالتأكيد أفكارا يهودية مسيحية، فأن نقول ان الله سبحانه يوحى كلماته من خلال محمد صلى الله عليه وسلم ليس- على أية حال- الا مجرد تكرار لما حدث فى الماضى، لكنه جزء من عامل فعال.

ويتعرض أوائل ما نزل من السور والتى ناقشناها انفا- بشكل جوهرى- للأفكار الأساسية للعقيدة الاسلامية، وليس من أحد من متنورى العصر بمن فيهم محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، الا ولديه فكرة عنها. وتصبح القضية أصعب اذا تناولنا المادة التوضيحية التى استخدمها القران الكريم مثل

ص: 169

قصص الأنبياء. فما أورده القران من قصص للأنبياء قريب مما ورد فى المصادر اليهوديه والمسيحيه- عادة ليس من الأسفار المعتمدة فى العهدين القديم والجديد، وانما من الاعمال المنسوبة الى الربيين (الاحبار) ، ومن الكتابات الابوكريفية الملحقة بالعهد الجديد. ففى مثل هذه الحالات يجد الباحثون الغربيون صعوبة فى مقاومة الاغراء فى أن يصلوا الى نتيجة مؤداها أن القران الكريم من عمل محمد صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم يكرر القصص التى سبق أن سمعها. لكن المسلمين لهم وجهة نظر أخرى.

عندما قبل المسلمون الاوائل محمدا صلى الله عليه وسلم كنبى أصبحوا مهتمين بأخبار الأنبياء السابقين، وكذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم مهتما مثلهم وراحوا يبحثون عن أخبارهم بقدر استطاعتهم. وبالتالى، فقد ازداد رصيدهم من المعلومات بالتدريج، وقد انعكس هذا فى القران. وبعض ايات القران نفسه تشير الى أن المادة التوضيحية (قصص الأنبياء) كانت معروفة:

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) ..)

الاية 17/ السورة 85 (البروج) .

وفى الوقت نفسه، فهناك اية أخرى تشير الى أنه ليس كل التفاصيل كانت معروفة حتى لمحمد صلى الله عليه وسلم نفسه:

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ

) الاية 44/ السورة 3 (ال عمران) .

وعلى أية حال، فهنا يجب أن نتذكر أن الفصل بين الحقيقة المجردة من ناحية ودلالاتها من ناحية أخرى، وهو ما يأخذ به مفكرو الغرب، ليس أمرا واضحا تماما فى الشرق. ربما كان محمد صلى الله عليه وسلم قد عرف الحقائق المجردة فى سور وايات تشير الى قصص مريم وعيسى وزكريا ويوحنا عليهم السلام . وكان محمد صلى الله عليه وسلم يعلم بالفعل عنهم شيئا، لكنه ربما لم يكن يدرك معنى الحقائق المجردة وأنه كان مطلوبا أن يعلم مزيدا من المعلومات عنها (أى عن دلالات هذه القصص) . ان المهمة الأساسية لهذه القصص-

ص: 170

وفقا لمصطلحات الباحثين الغربيين- هى تحويل معناها لا مجرد الاخبار بحقائقها المجردة، لكن فى الشرق العربى حيث لا يهتم الناس بهذا الفصل بين الحقيقة ومعناها، كان يكفى أن يسميها القران الكريم (أنباء) ، أى أخبار أو معلومات.information

هذا ما يمكن أن نتصور أن يقوله المسلم وهو يحاول اقناع الغربى الذى لم يقتنع بمعجزة أن القران أصلى وليس مجرد تكرار. وما أورده المسلمون من تفسير ربما كان أفضل كثيرا مما اعتاد الغربيون ترديده.

وعلى أية حال، فان هذه المسألة مسألة (لاهوتية) أو (دينية) أكثر منها تاريخية. كل ما يهم المؤرخ هو أن يلاحظ أن هناك شيئا ما أصيلا فى الاستخدام القرانى لقصص الأنبياء، وفى اختياره للنقاط التى يركز عليها.

ص: 171