الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمين، فان قلة منهم كانت تمتلك يقينا دينيا متحمسا، وكان غائبهم بالضرورة- مقتنعين اقتناعا كافيا بحقيقة العلاقات الدينية، وربطوا ذلك بتجربة قيام مجتمع على أسس من الروابط الدينية بدلا من الروابط العرقية.
5- هجرة النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة
أما وقد بايع أهل المدينة محمدا على دعمه وتأييده، فانه لم يضيع وقتا فشرع فى تنفيد خططه. لقد ظلت البيعة سرية وكان لا بد من انجاز أكبر قدر ممكن قبل القيام بأعمال واضحة صريحة تعطى لأعداء محمد صلى الله عليه وسلم دلالات على ما يريد عمله. وعلى هذا، فقد أمر أتباعه بمغادرة مكة الى المدينة، ورواية ابن اسحق «24» توضح أن دوافع النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لذلك كانت هى امكانية ازدهار الحركة فى المدينة، أما قول عروة بن الزبير أنهم هاجروا للمدينة هربا من الاضطهاد، فالتركيز على ذلك يعطى انطباعا خاطئا. فلم تكن هناك سلسلة جديدة متواصلة من الاضطهاد قبل الهجرة، اللهم الا اذا استثنينا من ذلك حالة أبى سلمة «25» ، والاهانات التى لاقاها محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق،
لكن ربما تحركت نوازع الاضطهاد بعد ذلك عندما تحقق زعماء قريش مما سيفعله محمد صلى الله عليه وسلم.
وفى ظل هذه الظروف، يمكننا أن نفترض أن توجيهات محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه كانت حثا وتشجيعا ونصحا وليست أوامر. فقد بقى فى مكة نعيم النحام وكان مسلما بارزا، وبقى اخرون، ولم يكن ذلك يعنى ارتدادهم عن الاسلام «26» وقد أشار القران الكريم الى ذلك:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
(24) ابن هشام، 314، 316 وما بعدها.
(25)
ابن هشام، 314 وما بعدها.
Caetani.Ann ،p. 364. (26) وقد أشار القران الكريم الى ذلك فى السورة رقم 8 (الأنفال) ، الاية 72.
يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)) السورة 8 (الأنفال) .
لقد كانت هذه الموجة الأولى المهاجرة تتكون فيما يقال من حوالى سبعين شخصا، رحلوا فى مجموعات صغيرة ووصلوا الى المدينة بأمان، وقدم لهم أهل المدينة المأوى «27» .
وأخيرا- وفقا للرواية المتداولة- لم يبق مع محمد صلى الله عليه وسلم فى مكة سوى على وأبى بكر (رضى الله عنهما) ، وربما ترجع أسباب محمد صلى الله عليه وسلم لانتظاره حتى وصول غالبية أتباعه الى المدينة، الى رغبته فى التأكد من أن المترددين لم يمنعهم ترددهم من اكمال الشوط، وليتأكد من أنه سيكون فى موقف قوى ومستقل وألا يكتفى بالاعتماد على مسلمى المدينة وحدهم عندما يصل الى المدينة. وفى هذه الأثناء، كان زعماء قريش على وعى بأن شيئا ما يجرى فعقدوا اجتماعا ووافقوا- بعد بعض المناقشات- على خطة أبى جهل أن يكونوا مجموعة من الشباب، من كل قبيلة شاب، فينهالوا على محمد صلى الله عليه وسلم بسيوفهم فى وقت واحد فيتفرق دمه بين القبائل، أى تشارك كل القبائل فى قتله، فلا يمكن تحديد قاتل بعينه «28» . والجدير بالملاحظة أن عشيرة نوفل كانت ممثلة فى هذا الاجتماع؛ اذ حضر عنها طعيمة Tuaymah بن عدى، وجبير بن مطعم، والأول هو أخو الرجل الذى سبق أن قدم الحماية (الجوار) لمحمد عند عودته من الطائف، والثانى ابنه. أكان هذا الرجل (المطعم بن عدى) قد مات أم فضل البقاء بعيدا عن الأحداث؟ لا ندرى. أما القبائل الاخرى التى شاركت فى هذا الاجتماع فهى: عبد شمس، وعبد الدار، وأسد، ومخزوم، وسهم، وجمح، وهى فى الحقيقة مكونة من المجموعتين (ب) و (ج) فى القائمة التى وردت فى فصل سابق. والذى يبدو أنه ليس من سبب يجعلنا ننكر عقد مثل هذا الاجتماع، ان الذين حضروه- كما يقول ابن اسحق- قد
Ibid ،p. 365. (27)
(28)
ابن هشام، 323 وما بعدها.
تحققوا- أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يخطط لنشاطات معادية لهم. ومن ناحية أخرى، فان توالى الأحداث وضح أنه لم يكن هناك محاولة تتسم بالتصميم على قتل محمد، وعلى هذا فالاتفاق الذى اتفق عليه زعماء قريش فى هذا الاجتماع كان أقل خطورة مما تؤكده المصادر. وعلى أية حال، فان الخطر المحدق (الخطر وشيك الحدوث) ربما عجل برحيل محمد صلى الله عليه وسلم (هجرته) .
ومن الصعب أن نكون متأكدين من طبيعة هذا الخطر ومداه، فالرواية عن الهجرة بشكل عام تتسم بوجود كثير من الزخارف المقحمة، وحتى المراجع الأولى ربما لا تخلو من الاضافات. ومن الممكن أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم بعد الاجتماع الذى عقده زعماء قريش- قد تعرض للازعاج والمضايقة فى مكة، وان كان الخطر الأعظم كما نفهم من تصرفات الرسول كان أثناء الطريق الى المدينة، فالذى لا شك فيه أنه كانت هناك مرحلة فى الطريق يفترض أنه ان وصلها أصبح خارج زمام الحماية التى يقدمها له حماته فى مكة، بينما لا يكون قد وصل الى المنطقة التى يكون فيها تحت حماية مسلمى المدينة، اذ كان من الممكن أن يتعرض للقتل فى هذه المنطقة الانتقالية دون أن يتعرض قاتله للقتل ثارا، وربما كان أبو بكر الذى صاحب الرسول فى هجرته فى الوضع نفسه؛ لأن عشيرته- فيما يبدو- قد تخلت عنه «29» .
ويروى ابن اسحق أن محمدا صلى الله عليه وسلم وقد تأكد أنه لا بد مهاجر- عهد الى على بأن ينام مكانه حتى يظن أهل مكة أنه لازال نائما فى أمان، ثم انسل هو- أى محمد صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر بعيدا عن ملاحظة قريش الى كهف غير بعيد عن مكة الى الجنوب منها، وفى الكهف قضى مع صاحبه يوما أو يومين حتى جاء الخبر من ابن أبى بكر أن قريشا قد كفت عن البحث عن الرسول، فانطلق الرسول وصاحبه ومعهما عتيق أبى بكر واسمه عبد الله بن أرقط *Arqat على الجمال، وفى المرحلة الأولى من
(29) ابن هشام، 245 وما بعدها.
* فى السيرة النبوية لابن هشام فى معرض الحديث عن هجرة الرسول: ابن أرقط، وابن أريقط، فكلاهما صحيح. (طبعة مكتبة الايمان، ج 2، ص 88) . (المترجم) .