الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام:
1 -
الحق والصواب واحد لا يتعدد، فإن حكم سليمان كان هو الأصوب، ولكن لا مانع من الخطأ في الاجتهاد، فمن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ولكن لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع، وعلى المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع الحادثة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم، لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا.
فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»
وفي السنن الصحاح: «القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار» .
وقال الحسن البصري: لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده.
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن:
ما رواه الإمام أحمد في مسنده والشيخان والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما امرأتان معهما ابنان لهما، إذ جاء الذئب، فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان، فقال: هاتوا السكين أشقّه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك الله، هو ابنها، لا تشقه، فقضى به للصغرى» .
وأما حكم مسألة رعي الزرع ليلا في شرعنا، فقال الجصاص: ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ؛ وذلك لأن داود
عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم، ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه، فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وأما آراء فقهائنا فهي كما يلي
(2)
:
قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت بالنهار. وقال الليث: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار.
وأما ما تتلفه المواشي بالليل فللعلماء فيه رأيان مشهوران:
رأي الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة): وهو ضمان ما تتلفه البهائم ليلا، عملا بما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء، وهو أن حفظ البهائم بالليل على أرباب المواشي، وهذا حديث خاص، وأما
حديث «العجماء جرحها جبار» أي أن فعل البهائم هدر، فهو عام، ولا خلاف أن العام يقضي عليه الخاص، أي أنه يقدم الخاص على العام، ولأنه لا إشكال في أن من أتلف شيئا فعليه الضمان، ويكون الضمان بالقيمة، وإن زادت على قيمة المواشي.
ورأي أبي حنيفة: ألا ضمان لما تتلفه المواشي، ليلا أو نهارا، للحديث المتقدم:«العجماء جرحها جبار» .
2 -
قال ابن العربي: من أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكّن منه، مثل النحل والحمام والإوز والدجاج، وذلك كالماشية. وأما انتفاعه بما
(1)
أحكام القرآن للجصاص: 223/ 3
(2)
أحكام القرآن لابن العربي: 1256/ 3 وما بعدها، تفسير الرازي: 199/ 22، تفسير القرطبي: 315/ 11.
يتخذه بإضراره بأحد، فلا سبيل إليه،
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس: «لا ضرر ولا ضرار»
(1)
.
3 -
إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضى من السلف؛ لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط. فأما من لم يكن محلا للاجتهاد، فهو متكلف لا يعذر بالخطإ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر، بدليل الحديث المتقدم:
«القضاة ثلاثة» قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب، لا على الخطأ، بدليل قوله تعالى:{فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} .
4 -
أكثر الفقهاء قالوا: إن الحق واحد من أقوال المجتهدين، وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم، بدليل قوله تعالى:{فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ} فخص سليمان بالفهم، ولو كان الكل مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة.
5 -
هل للأنبياء الاجتهاد؟ اختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء، فمنعه قوم، وجوزه المحققون الأكثرون؛ لأنه ليس فيه استحالة عقلية؛ لأنه دليل شرعي، فلا مانع أن يستدل به الأنبياء، والله تعالى قال:{فَاعْتَبِرُوا} [الحشر 2/ 59] وهو أمر للكل بالاعتبار، وذلك يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأنه إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل المقيس عليه معلل بمعنى، ثم وجد ذلك المعنى في صورة أخرى، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن الفرع كالأصل في الحكم، ثم إنه لو جاز الاجتهاد للعلماء وهو أرفع درجات العلم، لثبت لأحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم من الفضيلة ما لا يثبت له.
6 -
في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به، إذا تبين له أن
(1)
أحكام القرآن: 1258/ 3، تفسير القرطبي: 318/ 11
الحق في غيره، فقد رجع داود إلى حكم سليمان عليهما السلام، وهذا ثابت أيضا في رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.
7 -
كان ترتيل داود عليه السلام لكتابه الزبور وتسبيحه تتردد أصداؤه في الجبال والطيور، وكانت هذه تتجاوب معه بالتسبيح، وتذكر الله معه بلغة خاصة بها، قال مقاتل: إذا ذكر داود عليه السلام ربه، ذكرت الجبال والطير ربها معه. وقيل: كان داود إذا وجد فترة أي راحة أمر الجبال، فسبّحت حتى يشتاق، ولهذا قال:{وَسَخَّرْنا} أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة؛ بدليل قوله تعالى:{يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ 10/ 34]. قال الرازي:
والقول الأول (أي قول مقاتل) أقرب؛ لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره. وتسبيح الجبال والطير فيه دلالة على قدرة الله تعالى، وعلى تنزهه عما لا يجوز.
8 -
كان داود أول من اتخذ الدروع وصنعها، وتعلمها الناس منه، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر، لحماية الناس وحراستهم من السلاح في أثناء القتال، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر، لذا قال تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ} أي على تيسير نعمة الدروع لكم، وأن تطيعوا رسول الله فيما أمر به. والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة.
9 -
هذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة، وقد أخبر الله تعالى عن داود أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا
يصنع الخوص، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم عن داود عليه السلام أنه كان يأكل من عمل يده، وذلك أفضل الكسب. وكان آدم حراثا، وكان نوح يصنع السفن وكان نجارا، وكان إدريس ولقمان خياطين، وطالوت دباغا، أو سقّاء، وكل ذلك يدل على أن العمل كان منهج الأنبياء والصالحين، وطريق المؤمنين الأقوياء.
والإسلام دين يحب العمل ويوجبه، ويكره البطالة والكسل، ويحارب العاطلين والخاملين إذا كانوا قادرين على العمل،
جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلة، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس» . وبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها الضرر والبأس عن نفسه.
جاء في حديث آخر رواه الحكيم الترمذي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة، وهو ضعيف:«إن الله يحب العبد المؤمن المحترف الضعيف المتعفف، ويبغض السائل الملحف» .
10 -
كان من إكرام الله تعالى لسليمان تسخير الريح التي تجري بأمره إلى حيث شاء، ثم تردّه إلى بلاد الشام المباركة. يروى أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم تردّه إلى الشام.
ومن إنعام الله عليه تسخير الشياطين له يعملون بصفة غواصين لاستخراج الجواهر من البحر، كما يعملون له أعمالا أخرى غير الغوص، من بناء المدن والقصور، ونحت المحاريب والتماثيل، وصناعة القدور الراسيات والجفان الواسعة والطواحين والقوارير والصابون، وغير ذلك مما يسخّرهم فيه، ويحفظ الله له أعمالهم من أن يفسدوها، أو أن يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان، أو أن يهربوا أو يمتنعوا من أمره، فقد كانوا رهن إشارته، وطوع إرادته، لا يجرأ أحد منهم على الاقتراب منه.