الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر وظيفة الرسل التي هي التبليغ والإنذار، لا الإلزام والقبول، لكفاية أدلة القرآن على الإيمان. ثم بيّن سبحانه أن جميع ما يتعرض له الكفار في الآخرة لا يكون إلا عدلا، فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة، فموازين الحساب قائمة على العدل والقسط.
التفسير والبيان:
{قُلْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ.} . أي قل أيها الرسول لأولئك الذين يسخرون منك ويستهزئون: من يحفظكم ويحرسكم ليلا في نومكم ونهارا في عملكم من بأس الله وعذابه إن أتاكم أو أراد إنزاله بكم؟! وفي تعبير {الرَّحْمنِ} إشارة إلى أن تأخير العذاب عن الكفار والعصاة هو من رحمة الله ونعمته وفضله، كي يعود الإنسان إلى ربه من نفسه.
{بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} أي بل إن هؤلاء المشركين، بالرغم من وجود الأدلة الكثيرة العقلية والمذكورة في القرآن الدالة على فضل الله ونعمته بالحفظ والكلاءة، معرضون عن تلك الأدلة، ولا يتفكرون فيها، ولا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم.
وفي ذكر الرب دلالة على أنهم خاضعون لسلطانه، وأنهم يعيشون في رعايته وتربيته وإمداده بالنعم الوفيرة.
ثم بعد بيان اتصافهم بالإعراض، وبخهم الله تعالى على عبادتهم آلهة لا تضر ولا تنفع فقال:
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا} ؟ أي هل لهؤلاء المستهزئين المعرضين عن بيان الله آلهة قادرة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَلا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ} أي إن تلك الآلهة
المزعومة لا تتمكن من نصر أنفسهم، ولا دفع الضر والبلاء عنهم، ولا هم منا يجأرون أو يمنعون؛ لأنهم في غاية العجز والضعف، فكيف ينصرون غيرهم، ويدفعون الضر عنهم، أو يجلبون النفع لهم؟! ثم أخبر تعالى عن مزيد فضله عليهم فقال:
{بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي إن الذي غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنّهم متّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا بها، وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، والحقيقة أنهم مع طول الزمان في غفلة، حتى اغتروا بنعمتنا، ونسوا شكرها.
والخلاصة: أنه ما حملهم على الإعراض عن آيات الله إلا الاغترار بطول المهلة.
ثم قال تعالى واعظا لهم:
{أَفَلا يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} أي أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة، والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين، وفتح البلاد حول مكة، وتناقص رقعة بلاد أهل الشرك؟! وبعبارة أخرى: أفلا يرون أنا ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف جوانبها وأطرافها بتسليط المسلمين عليها، وتغلبهم على أهلها، وضمّها إلى دار الإسلام.
والفائدة في قوله: {نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} تصوير ما كان يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تفتح أرض المشركين المعتدين، وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها. ومعنى نقص أطرافها:
دخول المسلمين فيها، واتساع نفوذ الإسلام شيئا فشيئا، وانحسار أرض الكفار،
بدليل قوله بعدئذ: {أَفَهُمُ الْغالِبُونَ} أي هل نحن الغالبون أم هم؟ فكيف يتوهمون غلبتهم؟ فهم المغلوبون الأخسرون، وهو استفهام بمعنى التقرير والتقريع.
ويرى بعض علماء العصر أن في الآية دلالة واضحة على نقص أطراف الكرة الأرضية في الشمال والجنوب، وأنها غير كاملة التكوير والاستدارة، وذات تفلطح، وهو ما يعبر عنه بالخط الإهليلجي في القطب الشمالي والجنوبي، مما يدل على قدرة الله تعالى، وقوة سلطانه، وتحكمه في الأرض أثناء دورانها.
وبعد أن كرر تعالى إيراد الأدلة في القرآن على وجود الله وقدرته وتوحيده، وبالغ في التنبيه عليها، أتبعه بقوله:
{قُلْ: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أي قل أيها النبي: إني إنما أنذركم بالقرآن الذي هو كلام ربكم، وإنما أنا مبلّغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال، فلا تظنوا أن ذلك من قبلي، بل الله آتيكم به، وأمرني بإنذاركم، وعملي هو مجرد التبليغ لا الإلزام بالقبول، فإن لم تجيبوا دعوتي، فعليكم الوبال والنكال، لا عليّ.
{وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ} أي لا يجدي هذا الوحي من أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه، وما مثلهم حين لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار، على كثرته وتتابعه، إلا مثل الصم الذين لا يسمعون شيئا أصلا؛ إذ ليس الغرض من الإنذار مجرد السماع، بل العمل بما يسمع، والتمسك به، بالإقدام على فعل الواجب، والتحرز عن المحرّم، ومعرفة الحق، فإذا لم يتحقق هذا الغرض فلا فائدة في السماع. ثم بيّن تعالى أن حالهم سيتغير، فيصبحون سريعي التأثر بما ينذرون، ويعترفون بما لا ينتفعون، فقال:
{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: يا وَيْلَنا، إِنّا كُنّا ظالِمِينَ} أى ولئن مس أو أصاب هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله يوم القيامة،
ليعترفن بذنوبهم، وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا، ويظهرون الندامة على ما فرط منهم، ويتنادون بالويل والهلاك، ولا فائدة من ذلك. قال الزمخشري في الكشاف: وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات: لفظ المس، وما في النفح من معنى القلة والنزارة، ولفظ المرة.
ثم بيّن الله تعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلا، فقال:
{وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي ونضع الموازين العدل التي توزن بها صحائف الأعمال في يوم القيامة، أو لأهل يوم القيامة، فلا يلحق نفسا أي ظلم، فهم إن ظلموا أنفسهم في الدنيا، فلن يظلموا في الآخرة، وقوله:{فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} تأكيد عدالة الميزان، وأنه لا ينقص ثواب أي نفس ما تستحقه.
والأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه. ووصفت الموازين بأنها عادلة، لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه.
والمراد بوضع الموازين: إرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والإنصاف، من غير أن يظلم أحد مثقال ذرة، أي أن المقصود من الوزن العدل بين الخلائق، وقد مثل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. وفي قول آخر هو الأرجح: المراد أنه تعالى يضع الموازين الحقيقة، ويزن بها الأعمال. قال الحسن البصري: هو ميزان له كفتان ولسان. فمن رجحت حسناته على سيئاته، كان من الناجين، ومن غلبت سيئاته على حسناته، كان من الهالكين. والقسط: العدل أي ليس في الموازين بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا.
{وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار