الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أطواره من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره.
{هامِدَةً} يابسة ميتة لا نبات فيها. {اِهْتَزَّتْ} تحركت بالنبات. {وَرَبَتْ} ارتفعت وزادت وانتفخت بالماء والنبات. {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي أنبتت من كل صنف حسن رائق. و {مِنَ} : زائدة {ذلِكَ} أي المذكور من بدء خلق الإنسان إلى آخر إحياء الأرض.
{بِأَنَّ اللهَ} بسبب أن الله. {هُوَ الْحَقُّ} الثابت في نفسه، الدائم الذي يحق ثبوته، أي لأن الله هو الحق. {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى} أي أنه يقدر على إحيائها، وإلا لما أحيى النطفة والأرض الميتة {وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأن قدرته لذاته، فمن قدر على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها. {لا رَيْبَ فِيها} لا شك. {وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن المشركين الجدل بغير علم في قضية البعث والحشر والنشر، وذمّهم على ذلك، أورد تعالى الأدلة على إثبات البعث بخلق الإنسان، وخلق النبات، فقال هنا عن الأول:{فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ} الآية، وقال في آيات أخرى:{قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس 79/ 36].
{فَسَيَقُولُونَ: مَنْ يُعِيدُنا، قُلِ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء 51/ 17] وقال عن الثاني: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً.} ..
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله تعالى موقف المنكر للبعث، ذكر الدليل على قدرته على المعاد بما يشاهد من بدئه الخلق، فقال:
{يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} أي يا أيها البشر المنكرون للبعث، إن كنتم في شك من إمكان البعث ومجيئه، يوم القيامة، فانظروا إلى بدء خلقكم، فمن قدر على البدء قدر على الإعادة بدليل المراحل والأدوار السبعة التي يمر بها الإنسان وهي:
1 -
{فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ} أي خلقنا أصلكم آدم من التراب، وخلقنا الأغذية التي يتكون منها المني من النبات المتولد من الماء والتراب.
2 -
{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي ثم صار التوالد المعتاد بواسطة المني المتولد من الغذاء الناشئ من التراب.
3 -
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي ثم تتحول بإذن الله النطفة بعد أربعين يوما إلى قطعة دم مكثف أو جامد، أو علقة حمراء.
4 -
{ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} ثم تصبح العلقة قطعة لحم، وتلك القطعة إما أن تتم منها أحوال الخلق، فتصير تامة الصورة والحواس والتخطيط لمعالم الجسد، وإما ألا تتم، وتسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط أو بعده، أو تبقى ناقصة الصور والحواس والتخطيطات وتتم ولادتها، قال الرازي:
فيجب أن تحمل {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} على من سيصير إنسانا؛ لأنه تعالى قال في أول الآية: {فَإِنّا خَلَقْناكُمْ} وذلك يبعد حمل قوله: {غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} على السقط.
والخلاصة: أن المخلقة هي القطعة المسوّاة التي لا نقص فيها ولا عيب أي التامة الخلقة، وغير المخلقة: هي القطعة غير المسوّاة التي فيها عيب.
{لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي خلقناكم على هذا النحو من التدرج لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا، لتستدلوا بها على إمكان البعث، فإن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا-ولا تناسب بين الماء والتراب-وقدر على أن يجعل النطفة علقة-وبينهما تباين ظاهر-ثم يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاما، قدر على إعادة ما بدأه، بل هذا أهون، كما قال الزمخشري رحمه الله تعالى.
5 -
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ضعافا في البدن والعقل والحواس، ثم ينمو كل طفل ويعطيه الله القوة شيئا فشيئا.
6 -
{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} ثم تتكامل قواكم البدنية والعقلية، حتى تصلوا إلى حد الكمال في عنفوان الشباب.
7 -
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ..} . أي ومنكم من يموت قبل بلوغ الأشد أو في حال الشباب والقوة، ومنكم من يعيش حتى يصل إلى سن الشيخوخة والهرم، وضعف القوة والعقل والفهم، والخرف، حتى يعود إلى ما كان عليه حال الطفولة، ضعيفا، سخيف العقل، قليل الفهم، ينسى ما كان يعلمه، كما قال تعالى:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس 68/ 36].
والخلاصة: أن تدرج الخلق في مراحله المذكورة، وطروء الموت وعوارض الأحوال على الإنسان دليل قاطع على وجود الخالق القادر المهيمن، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه في القياس والعقل، كما قال تعالى:{اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم 54/ 30].
ثم ذكر الله تعالى الدليل الثاني على إمكان البعث بخلق النبات المشابه لخلق الإنسان فقال:
{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً..} . أي وإذا تأملت أيها الإنسان ترى الأرض
(1)
ميتة يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فإذا أنزلنا عليها ماء المطر أو غيره، تحركت بالنبات وحييت بعد موتها، وازدادت وارتفعت وانتفخت بالماء والنبات، ثم
(1)
خاطب تعالى الناس أولا بصيغة الجمع، فقال: فَإِنّا خَلَقْناكُمْ ثم خاطب بصيغة الواحد، للتنويع فقال: وَتَرَى الْأَرْضَ فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل، للاحتجاج به على منكري البعث.
أنبتت من كل صنف من النبات والزرع، ذي منظر حسن وبهاء ورونق وطيب ريح، لاختلاف ألوان الثمار والزروع، وطعومها، وروائحها، وأشكالها، ومنافعها، فمن قدر على إحياء الأرض الميتة الهامدة التي لا ينبت فيها شيء، قادر على إحياء الموتى. ونتائج ما ذكر هي الأمور الخمسة التالية:
1 -
{ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك المذكور الذي بينته لكم من خلق الإنسان والحيوان والنبات، وانتقال كل مخلوق من حال إلى حال، بسبب أن الله هو الحق الموجود الثابت الذي لا شك فيه، ولا يحول ولا يزول، الخالق المدبر الفعال لما يشاء. وأما ما عداه من جميع المخلوقات فضعيف عاجز لا يقدر على فعل شيء مما ذكر. وهذا دال على وجود الصانع المتفرد بالخلق.
2 -
{وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى} أي وبأنه الإله القادر على إحياء الموتى، كما أحيى الإنسان والحيوان والنبات، فأنبت من الأرض الميتة ما فيه الحياة، وهذا تنبيه على أن من لم يعجزه إيجاد هذه الأشياء، فكيف يعجزه إعادة الأموات؟! {إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت 39/ 41].
3 -
{وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وبأنه تعالى القادر على كل شيء، فمن كان قادرا على ما ذكر وعلى جميع الممكنات، فهو قادر على إعادة الأجساد بعد الفناء، وعالم بكل المعلومات:{قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس 79/ 36].
4 -
{وَأَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها} أي ولتعلموا أن من قدر على إحياء الموتى أو إعادتهم أحياء قادر على الإتيان بيوم القيامة، فالساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية، كما وعدكم بها. فقوله:{وَأَنَّ السّاعَةَ} معطوف على قوله:
{ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى، فلا بد من إضمار فعل يتضمنه، أي وليعلموا أن الساعة آتية.